30/11/20
بسم الله الرحمن الرحیم
المقدمة/الدلالات اللفظية/الوضع/الحقيقة والمجاز
الموضوع:المقدمة/الدلالات اللفظية/الوضع/الحقيقة والمجاز
منشأ دلالة اللَّفْظ عَلَى المجاز
كان الكلام في منشأ دلالة اللَّفْظ عَلَىٰ المعنى الْمَجَازِيّ، فقد يقال بأن القرينة هي المنشأ لهذه الدَّلاَلَة بتخيّل أن القرينة هي الدَّالَّة عَلَىٰ المعنى الْمَجَازِيّ، إِلاَّ أَنَّهُ توهم باطل؛ لأَن القرينة لا تدل عَلَىٰ المعنى الْمَجَازِيّ وذلك:
أَوَّلاً: لأَن القرائن عَلَىٰ قسمين؛ إذ تارة تكون القرينة صارفة تصرف الذهنَ عن المعنى الحقيقي مثل >رأيتُ أسداً في الحمام<؛ فَإِنَّ >في الحمام< قرينة عَلَىٰ أن المقصود ليس هو الحيوان المفترس، أَمَّا أَنَّهُ ما هو المقصود منه فهذا ما لا تبيّنه القرينةُ، فتكون هذه القرينة صارفة فحسب. وأخرى تكون القرينة معيّنةً. ولكن المسألة في باب المجاز تنقسم إِلَىٰ قضيتين أحدهما إفهام المعنى وهذا ما قد تساعد عليها القرينة المعينة، ولكن صحة المجاز ليست متوقفة عَلَىٰ القرينة، واستعمال اللَّفْظ في ذاك المعنى الْمَجَازِيّ صحيح حَتَّىٰ من دون القرينة وليس استعمالاً خاطئاً، وإن لم يكن مفهمِاً للمعنى، وهو ليس كاستعمال اللَّفْظ في المعنى الَّذِي ليس مجازياً ولا حَقِيقِيّاً وَالَّذِي يطلق عليه اسم الاستعمال الخاطئ.
وَحِينَئِذٍ يقع البحث في منشأ هذه الصلاحية، وقلنا بِأَنَّهُ لا يمكن للقرينة أن تكون المنشأ لها، فكان الأمر دَائِراً بين احتمالين آخرين:
أولهما: أن الواضع يضع الألفاظ مرة للمعاني الْحَقِيقِيَّة وأخرى للمعاني المجازية المتناسبة عَلَىٰ نَحْوِ الوضع النوعي.
وثانيهما: وهو الاحتمال الصحيح القائل بكفاية الوضع الأول وعدم الحاجة إِلَىٰ وضع آخر لتحقق الاقتران التَّصَوُّرِيّ بين اللَّفْظ والمعاني المشابة والمتناسبة مع ذاك المعنى الحقيقي وَالَّذِي يحصل وَفْقاً لذاك القانون الفطري والذهني لدى الإنسان، وهذا التلازم التَّصَوُّرِيّ أضعف من التلازم التَّصَوُّرِيّ الأول وحاصل في طول الوضع.
وهذا من آثار تلك الحالة حيث قلنا إن الله تعالى خلق الذهن البشري عَلَىٰ نَحْوِ ينتقل من الاحساس بالشيء إِلَىٰ الاحساس بمشابهه، وكما أَنَّهُ ينتقل من تصور أحد المقترنين إِلَىٰ تصور الآخر منهما كذلك ينتقل من مشاهدة المشابهات إِلَىٰ بعضها، فحينما يرى إنساناً شبيهاً بمن يعرفه ينتقل ذهنه إِلَيه، وكذلك حينما يشاهد الأشياء الأخرى كالانتقال من مشاهدة حبل أبلق إِلَىٰ تصور الحية، أو الانتقال من الكل إِلَىٰ الجزء أو بالعكس.
ومن هنا فإن أولئك الذين يشتغلون بالمعاني المجازية كَثِيراً ينتقلون من سماع اللَّفْظ إِلَىٰ المعنى الحقيقي كما أنهم ينتقلون إِلَىٰ المعاني المجازية في كثير من الأحيان، ولكنهم يرون أن الأصل هو ذاك المعنى الحقيقي والعلاقة الموجودة عندهم بين المعاني الْحَقِيقِيَّة أقوى وأشد من العلاقة الموجودة في أذهانهم بين الألفاظ والمعاني المجازية الَّتِي الانتقال إليها في طول المعاني الْحَقِيقِيَّة. إذن، يمكن تفسير الدَّلاَلَة عَلَىٰ المجاز بالوضع الأول للمعاني الْحَقِيقِيَّة، وهذا الأمر واضح عَلَىٰ أساس مسلك الاعتبار أو مسلك القرن الأكيد بأننا لا نحتاج إِلَىٰ وضع آخر لِلدَّلاَلَةِ عَلَىٰ المعاني المجازية، بل إن الوضع الآخر يُؤَدِّي إِلَىٰ عدم الطولية وَبِالتَّالِي إِلَىٰ عرضية الدَّلاَلَة عَلَىٰ اللَّفْظ عَلَىٰ كلا المعنيين الحقيقي والمجازي، وهو أمر مرفوض إِلاَّ بإعمال عنايات في الوضع الثَّانِي.
وتوضيح ذلك: أن الوضع الثَّانِي إذا كان مُطْلَقاً للمجاز (حَتَّىٰ عَلَىٰ النحو الكلي والنوعي) فَحِينَئِذٍ عرضية الدلالتين واضحة، وإذا كان مُقَيَّداً بوجود القرينة الصارفة أو المعيِّنة يلزم منه عدم صحة الاستعمال في المجاز من دون القرينة وقد رفضناه وقلنا بِأَنَّ غرض اللغوي قد يكون كامناً فيه، وإذا كان الوضع الثَّانِي مُقَيَّداً بعدم إرادة المعنى الحقيقي من اللَّفْظ فقد تقدم سَابِقاً أن هذا النحو من التقييد لا يتعقل وَفْقاً للمسلك الصحيح في الوضع وهو التلازم التَّصَوُّرِيّ، مُضَافاً إِلَىٰ أَنَّهُ لا يبرر أقوائية الدَّلاَلَة عَلَىٰ المعنى الْحَقِيقِيَّة وأضعفية الدَّلاَلَة عَلَىٰ المعنى الْمَجَازِيّ، وفي المورد الَّذِي نحتمل فيه أَنَّهُ لم يرد المعنى الحقيقي تكون الدلالتان في مستوى واحد من الاحتمال، إِلاَّ إذا قيّدنا الوضعَ الثَّانِي بإرادة الإجمال أو نصب القرينة (أي: الجامع بينهما وأحدهما)، فيقال بأن الأصل العقلائي والظهور الحالي إِنَّمَا هو في عدم إرادة الإجمال، ومن هنا يَدُلُّ عَلَىٰ المعنى الحقيقي في موارد فقدان القرينة. ولكن تقدم أَيْضاً أن مثل هذه التقييدات في الدَّلاَلَة الْوَضْعِيَّة غير معقولة بِنَاءً عَلَىٰ مسلك المشهور والصحيح؛ لأَن الدَّلاَلَة تَصَوُّرِيَّة والدلالات التَّصَوُّرِيَّة آبية عن التقييد بالأمور التَّصْدِيقِيَّة. إذن، بِنَاءً عَلَىٰ مسلكي المشهور والصحيح في الوضع وكون الدَّلاَلَة الحاصلة منه تَصَوُّرِيَّةً لِلدَّلاَلَةِ عَلَىٰ المعنى الْمَجَازِيّ، يستحيل الوضع الآخر حَتَّىٰ النوعي منه، فَضْلاً من أن يكون لغواً.