47/06/25
بيان اشكال الشيخ الفاضل النراقي/استصحاب الامور التدريجية /الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/استصحاب الامور التدريجية /بيان اشكال الشيخ الفاضل النراقي
بعد أن استعرض الشيخُ الأعظم (قده) الأقسامَ المتقدّمة، وهي: الأمور غير القارّة الذات كالزمان والزمانيّات، والأمر القارّ المقيَّد بالزمان، وبيّن رأيه في كلٍّ منها، شرع في القسم الثالث، وهو ما إذا كان الزمان قيداً في الموضوع، فاختار فيه عدم جريان الاستصحاب، وأفتى أصوليّاً بعدم جريانه متى كان الزمان مأخوذاً على نحو القيديّة.
ثمّ تعرّض (قده) لما أفاده الفاضل النراقي، وملخّص ما بينّه إجمالاً: أنّ سريان الحكم إلى ما بعد القدر المتيقَّن يكون معارضاً بـ استصحاب عدم الجعل، وبتعبير المتأخّرين: إنّ استصحاب المجعول معارضٌ دائماً بـ استصحاب عدم الجعل. ثمّ ذكر مثالاً تطبيقيّاً لتقريب هذا المطلب.بعد ذلك، دفع الفاضلُ النراقي (قده) إشكالاً قد يُتوهَّم وروده عليه، وحاصلُه: أنّ الأعلام يلتزمون بأنّ الشكّ لا بدّ أن يكون متّصلاً باليقين، وذلك لظهور لسان الأدلّة في ذلك، كقوله: "إذا تيقّنتَ… فشككتَ…"، حيث إنّ الفاء ظاهرة في التعقيب بلا فاصلة، فيُشترط اتصال الشكّ بهذا اليقين، لا بيقينٍ آخر، وهذا أمرٌ مسلَّم عندهم. وبناءً عليه، قد يُقال بوجود مرجِّح لاستصحاب الوجود.
وتوضيح ذلك بالمثال المذكور: أنّه لا جعلَ لوجوب جلوس زيد يوم الخميس مثلاً، فإذا جاء يوم الجمعة، وكان قد جُعل الحكم بوجوب الجلوس إلى الزوال، وقام الإجماع على ذلك، فلا إشكال في يوم الخميس؛ لوجود اليقين بعدم الجلوس. وأمّا يوم الجمعة، فعندنا يقين بالجلوس إلى الزوال، وبعد الزوال يحصل الشكّ. وهذا الشكّ متّصل باليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال؛ لأنّه طرأ عقيب الزوال مباشرة، فيصدق أنّه كان متيقِّناً بالجلوس إلى الزوال، ثمّ شكّ في الجلوس بعده. فيجري استصحاب الوجود؛ لكون الشكّ متّصلاً بيقينه.
وأمّا استصحاب العدم ـ أعني عدم الجعل ـ فقد وقعت بينه وبين الشكّ فاصلة، فلا يكون الشكّ متّصلاً بيقينه، وبذلك يُدَّعى وجود مرجِّح لاستصحاب الوجود، فلا يقع التعارض.
غير أنّ الفاضلَ النراقي (قده) وإن سلَّم كبرى القاعدة، وهي لزوم اتصال الشكّ باليقين نفسه لا بيقينٍ آخر، إلّا أنّه لم يُسلِّم الصغرى في المقام؛ فأفاد أنّ الشكّ لا يزال متّصلاً أيضاً بيقين يوم الخميس، لا أنّ اتصاله منحصِر بيوم الجمعة. وذلك بلحاظ أنّنا كأنّما بُلِّغنا بالحكم قبل مجيء يومٍ؛ فلو فرض أنّ الشارع المقدّس أمر بالجلوس يوم الجمعة من الصبيحة إلى الزوال في يوم الخميس وشككنا في يوم الخميس هل التكليف بالجلوس يوم الجمعة ثابت بعد الزوال، فكانت أصالة عدم الجعل جارية قبل الزوال، وبعد الزوال أيضاً يُستصحب عدم جعل وجوب الجلوس، فيبقى الشكّ متّصلاً باستصحاب عدم الجعل، كما هو متّصل باستصحاب الوجود.
وبذلك لا يثبت المرجِّح المدّعى، ويبقى التعارض على حاله.
وبعبارةٍ أُخرى: إنّ نِسبةَ عدمِ الجعل ونِسبةَ المجعول إلى الشكّ من حيث الاتّصال واحدةٌ بعينها، فهما في عرضٍ واحد، باعتبار أنّ أحدهما وجود والآخر عدم، ولا مزية لأحدهما على الآخر من هذه الجهة؛ إذ لا وجه لتقديم أحد الاستصحابين على الآخر، وحينئذٍ لا محيص عن القول بتعارضهما وتساقطهما.
ثمّ أفاد (قده) بمثالٍ تطبيقيّ، لا بدّ من بيانه ليتّضح تمامُ ما أراد إيضاحه، فقال في وما بعدها: "فإن قلت: يُحكم ببقاء اليقين المتّصل بالشك، وهو اليقين بالجلوس"([1] ).
ومراده من ذلك: استصحاب المجعول؛ بدعوى أنّ المعتبر في الاستصحاب هو اتصال زمان اليقين بزمان الشك، وبما أنّ اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال متّصل بالشك بعد الزوال، فيكون استصحاب الوجوب مرجَّحاً على استصحاب عدم الوجوب. وهذا هو وجه الإشكال المتقدّم.
فأجاب (قده) بقوله: "قلنا: إنّ الشكّ في تكليف ما بعد الزوال حاصلٌ قبل مجيء يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع، فشكّ في يوم الخميس ـ مثلاً، حال ورود الأمر ـ في أنّ الجلوس غداً هل هو المكلَّف به بعد الزوال أيضاً أم لا؟".
وحاصلُ جوابه: أنّ الشكّ المعتبر في باب الاستصحاب ليس هو نفس المشكوك من حيث تأخّره الزماني، وإنّما هو الشكّ بما هو حالة نفسيّة مقترنة باليقين، وهذا الشكّ قد تحقّق يوم الخميس عند ورود الأمر، حيث شكّ في أنّ التكليف
بالجلوس هل يشمل ما بعد الزوال في اليوم الآتي أو لا.
وعليه، فاليقين المتّصل بهذا الشكّ ليس هو يقين الوجوب، بل هو اليقين بعدم التكليف، أي عدم الجعل، فيكون هو المتّصل بالشك، فيجري فيه الاستصحاب.
ثمّ أردف (قده) قائلاً: "واليقين المتّصل به هو عدم التكليف، فنستصحبه".
وبذلك يتّضح أنّ دعوى اتّصال الشكّ بيقين الوجوب دون يقين العدم غير تامّة؛ إذ إنّ الشكّ محفوظ الاتصال بكلا اليقينين بلحاظٍ واحد، فلا يثبت الترجيح لأحد الاستصحابين، ويبقى التعارض على حاله.
ثمّ ذكر (قده) بعد ذلك أمثلةً تطبيقيّة أراد بها تقريب وجهة النظر وتوضيح المبنى، فذكر من جملتها مثال الصوم.
وبيانه: أنّ الصوم واجبٌ شرعاً، وهو من الأحكام المجعولة، ولكن قبل مجيء الشريعة المقدّسة هل يمكن استصحاب عدم وجوب الصوم أو لا؟
والجواب: نعم، يمكن ذلك؛ لأنّ الصوم قبل تشريع الشريعة لم يكن واجباً، فيجري استصحاب عدم الوجوب.
نعم، قد يُناقش في هذا المثال بلحاظ قوله تعالى﴿:﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾،إلّا أنّ هذا بحثٌ آخر يمكن التعرّض له في محلّه، والمقصود هنا أنّ الصوم بهذه الكيفيّة الخاصّة ـ من الفجر إلى المغرب وبشرائطه المعيّنة ـ لم يكن واجباً قبل مجيء الشريعة.
ثمّ انتقل (قده) إلى فرضٍ آخر، وهو ما إذا تعلّق وجوب الصوم بالمكلّف ثمّ طرأ عليه المرض، فحينئذٍ يشكّ: هل الصوم باقٍ في حقّه واجباً مع المرض أم لا؟
فيُقال: إنّ المكلّف قبل المرض كان متيقّناً بوجوب الصوم عليه، وبعد عروض المرض حصل الشكّ في بقاء هذا الوجوب، فيمكن له ـ بحسب هذا التقريب ـ استصحاب وجوب الصوم، باعتبار أنّ المجعول قد تحقّق سابقاً.
وفي المقابل، يُلاحظ أنّ هذا الشخص قبل تعلّق التكليف بالصوم أصلاً كان الصوم غير واجبٍ عليه، فيمكنه أيضاً استصحاب عدم جعل وجوب الصوم في حقّه، بلحاظ أنّ عدم الوجوب كان ثابتاً له قبل ورود التشريع، فيُستصحب بعنوان العدم الأزلي. وبذلك يقع التعارض بين استصحاب المجعول (وجوب الصوم) واستصحاب عدم الجعل (عدم وجوب الصوم)، فلا يمكن للمريض أن يتمسّك بأحدهما دون الآخر؛ إذ لا مرجّح لأحد الاستصحابين، فيتعارضان
ويتساقطان.
وعليه، لا يبقى مجال للعمل بالاستصحاب في المقام، بل لا بدّ من الرجوع إلى أصلٍ آخر، كأصل البراءة أو أصل الاشتغال، على حسب ما تقتضيه القاعدة في محلّها.
فالنتيجة: أنّ الاستصحاب لا يجري في مثل هذا المورد.
وعليه، كان لا بدّ من ذكر المثال بعينه في كلامه (قده) مع توضيحه، فأفاد (قده) ـ في مضمون عبارته ـ ما حاصله:
إنّ استصحاب وجوب الصوم قبل عروض المرض ـ كالحمّى مثلاً ـ يقتضي الحكم ببقاء وجوب الصوم بعد عروض المرض، إلّا أنّ هذا الاستصحاب يعارضه استصحاب عدم وجوب الصوم الأزلي قبل تشريع الصوم.
وتوضيح ذلك: أنّ وجوب الصوم قبل الأمر به في الشريعة معلوم العدم، أي في الزمن الذي لم يكن الصوم فيه واجباً شرعاً، ثمّ بعد تعلّق الأمر بالصوم صار الوجوب ثابتاً إلى زمان عروض الحمّى، فإذا طرأ المرض صار وجوب الصوم مشكوكاً. ففي هذا الظرف ـ أعني ظرف الشكّ في الوجوب بعد المرض ـ يقع
التعارض بين الاستصحابين:
استصحاب وجوب الصوم من جهة، واستصحاب عدم جعل وجوب الصوم من جهةٍ أخرى.
فالمشكوك فيه واحد، وهو وجوب الصوم بعد عروض الحمّى، إلّا أنّه يُلحظ تارةً من ناحية بقاء المجعول، وأخرى من ناحية بقاء عدم الجعل، فيقع التعارض بين الاستصحابين، ولا يمكن تقديم أحدهما على الآخر.
وأمّا الإشكال بأنّه هل يوجد اتصال الشكّ باليقين في كلا الموردين أو لا؟ فقد تقدّم الجواب عنه سابقاً، حيث بيّن (قده) أنّ الشكّ المعتبر في الاستصحاب متّصل بكلٍّ من اليقينين بلحاظٍ واحد، فلا يوجب ذلك ترجيح أحد الاستصحابين على الآخر.
وبذلك يتّضح تمام مراده (قده) من المثال، وأنّه إنّما سيق لتقريب كبرى تعارض استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل وتساقطهما.
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]