47/06/24
الأمر القارّ الذات المقيَّد بالزمان/استصحاب الامور التدريجية /الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/استصحاب الامور التدريجية / الأمر القارّ الذات المقيَّد بالزمان
وصل بنا الكلام إلى القسم الثالث، وهو الأمر القارّ الذات المقيَّد بالزمان. ومثاله الواضح الصوم؛ سواء قيل إنّه أمر عدمي، وهو عدم الأكل والشرب، أم قيل إنّه أمر وجودي، وهو الكفّ عن الأكل والشرب، وهذا هو الأمر القارّ. إلّا أنّه، مع ذلك، مرتبط بأمرٍ غير قارّ، وهو الزمان الخاصّ، إذ لا يتحقّق الصوم إلّا ضمن الزمان المعيَّن.
وعليه يقع البحث في أنّه إذا شككنا في بقاء الصوم، فهل يجري الاستصحاب أو لا؟وقد اختار الشيخ الأعظم (قده) في هذا الباب عدم جريان الاستصحاب.
ببيان أنّ الأحكام التكليفية—كما تقدّم بيانه—مرتبطة دائماً بمشخِّصاتها، ومن جملة تلك المشخِّصات الأمر غير القارّ، وهو الزمان. وإذا كان القيد أمراً غير قارّ، لا يجري الاستصحاب في المقيَّد؛ لعدم إمكان تصوّر البقاء فيه. وما تقدّم من محاولةٍ للإجابة عن الإشكال، بتقريب ملاحظة المجموع أمراً واحداً عرفاً وتفسير البقاء بمعنىً خاصّ، لا يمكن تصوّره هنا. فالشيخ—وإن لم ينصّ على عدم إمكان الإجابة بعين ما تقدّم—إلّا أنّه يُفهم من خلال نفيه لجريان الاستصحاب أنّه يرى عدم جريان المحاولة المتقدّمة في مثل هذا المقام.
ثم انتقل بعد ذلك إلى إشكال الفاضل النراقي—كما في مناهج الأصول—وهو إشكالٌ مهمّ، وأصبح محطَّ بحثٍ بعد الشيخ الأعظم، حيث تعرّض فيه الفاضل إلى أصل مطلب جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية.
وعليه، لا بدّ من الرجوع إلى كلام الشيخ الأعظم (قده) واستكماله، تمهيدًا للانتقال إلى ما أفاده سائر الأعلام.
قال (قده): "وأمّا القسم الثالث ـ وهو ما كان مقيَّدًا بالزمان ـ"([1] ) ومفاد كلامه (قده) أنّه لم يلحظ الزمان هنا ظرفًا، بل لحظه قيدًا، والفرق بين الأمرين دقيقٌ ومهمّ؛ إذ القيد جزءٌ من الموضوع، والموضوع يدور مدار قيده وجودًا وعدمًا، فمع وجود القيد يوجد الموضوع، ومع انتفائه ينتفي الموضوع، فيكون الموضوع مع انتفاء القيد قد تبدّل إلى موضوعٍ آخر، ومع هذا التبدّل لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب.
ثم قال (قده): "فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه.ووجهه: -اي وجه عدم الجريان - ان الشيء المقيَّد بزمانٍ خاص لا يُعقَل فيه البقاء؛ لأنّ البقاء هو وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني، ومع أخذ الزمان قيدًا يكون الموجود في الآن الثاني غير الموجود في الآن الأوّل. وقد تقدّم الإشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية؛ لأنّ متعلّقاتها هي الأفعال المتشخِّصة بمشخِّصاتها التي لها دخل وجودًا وعدمًا في تعلّق الحكم، ومن جملتها الزمان".
توضيح مراده (قده): لو أخذنا مثالًا كـ زيد، وقيَّدناه بالزمان، بأن نقول: زيد الجالس في الدار في الساعة الواحدة، وجعلنا الساعة الواحدة قيدًا في زيد، فإنّ هذا القيد يكون جزء الموضوع. وحينئذٍ يكون زيد في الساعة الواحدة غير زيد في الساعة الثالثة، وغير زيد في الساعة الخامسة؛ لأنّ الموضوع ليس زيدًا بما هو زيد، بل هو زيدٌ مقيَّد بزمانٍ خاصّ، ومع تبدّل الزمان يتبدّل الموضوع قطعاً.
وعليه، فإنّ الأمر القارّ الذات إذا قُيِّد بالزمان ينتفي بانتفاء ذلك الزمان، وحينئذٍ لا
يوجد شيء يمكن استصحابه؛ لأنّ الزمان ليس ظرفًا له، بل هو قيدٌ دخيل في حقيقة الموضوع. ومن ثمّ أفاد (قده) بعدم جريان الاستصحاب في الحكم؛ لأنّ الحكم مقيَّد بموضوعٍ خاص، أو بموضوعٍ غير قارّ، فلا يبقى لدينا موضوع محفوظ لكي يُستصحب، وإجراء الاستصحاب حينئذٍ يكون من قبيل إسراءِ الحكم من موضوعٍ إلى موضوعٍ آخر، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به أصلًا.
ثم بعد أن فرغ (قده) من هذا المطلب، انتقل إلى ما أفاده الفاضل النراقي، فقال (قده):"وممّا ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين، من تخيّل جريان استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقَّن سابقًا، ومعارضته مع استصحاب وجوده، بزعم أنّ المتيقَّن وجود ذلك الأمر في القطعة الأولى من الزمان، والأصل بقاؤه ـ عند الشك ـ على العدم الأزلي الذي لم يُعلم انقلابه إلى الوجود إلّا في القطعة السابقة من الزمان."
ولتوضيح المطلب نقرِّب الأمر بذكر مثال، فنقول: لو قام الإجماع على وجوب جلوس زيد في المسجد يوم الجمعة إلى الزوال، فالحكم الثابت في القطعة الأولى من الزمان حكمٌ مستندٌ إلى الإجماع، لا إلى دليلٍ لفظي، كي يُتوهَّم فيه الإطلاق. ثم
بعد الزوال يقع الشكّ في أنّ هذا الوجوب هل يستمرّ إلى ما بعد الزوال أو لا؟
فعلى هذا يُقال: إنّا كنّا على يقينٍ بوجوب الجلوس إلى الزوال، وبعد الزوال حصل الشكّ في بقائه، فيجري استصحاب بقاء الوجوب؛ لكونه شكًّا مسبوقًا بيقين.
إلّا أنّ الفاضل النراقي ناقش هذا الاستصحاب، وادّعى أنّه مُعارَض باستصحاب عدم الوجوب. وبيانه: أنّه قبل يوم الجمعة—كيوم الأربعاء أو الخميس—لم يكن وجوب الجلوس في المسجد ثابتًا، فكان عندنا يقين بعدم وجوب الجلوس قبل يوم الجمعة، وهذا هو العدم الأزلي. ثم خرج من هذا العدم الأزلي قطعةٌ زمانية واحدة، وهي من صبيحة يوم الجمعة إلى الزوال، حيث انقلب العدم إلى الوجود. وأمّا ما بعد الزوال، فباعتبار انتهاء تلك القطعة الخاصّة، يمكن الرجوع إلى استصحاب العدم الأزلي؛ لأنّ العدم لم ينقلب إلى الوجود إلّا في تلك الفترة المحدودة.
وعليه، يكون لدينا بعد الزوال: استصحاب وجوب الجلوس؛ باعتبار اليقين بثبوته إلى الزوال والشك في بقائه بعده. واستصحاب عدم وجوب الجلوس؛ باعتبار اليقين السابق بعدم الجعل في الأزمنة السابقة، وعدم إحراز انقلاب هذا
العدم إلى الوجود إلّا في تلك القطعة الزمانية الخاصّة.
وبعبارةٍ أخرى: يكون عندنا شكٌّ واحد—وهو الشكّ في ثبوت الحكم بعد الزوال—ويقينان: الأوّل: اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال.
والثاني:اليقين بعدم وجوب الجلوس قبل يوم الجمعة، الممتدّ—بحسب الدعوى—إلى ما بعد الزوال.
ومن هنا قال الفاضل النراقي: إنّ استصحاب جعل الحكم يجري، واستصحاب عدم جعله (أي العدم الأزلي) يجري أيضًا، فيتعارضان ويتساقطان، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر. وبذلك أسّس قاعدة مفادها:أنّ استصحاب جعل الأحكام التكليفية الكلّية معارَض دائمًا باستصحاب عدم الجعل.
وقد أيَّد هذا المبنى السيّد الخوئي (قده)، وبقي ملتزمًا بهذه القاعدة، فجعل استصحاب الجعل في الأحكام الكلّية معارَضًا دائمًا بـ استصحاب عدم الجعل، فأصل هذه النظرية مأخوذ من الفاضل النراقي.
إلّا أنّ الشيخ الأعظم (قده) حكم بفساد ما أفاده النراقي، لا من جهة المعارضة فحسب، بل من الأساس؛ لأنّه يرى أنّ الاستصحاب لا يجري ابتداءً إذا أُخذ الزمان على نحو القيد. نعم، على فرض تسليم جريان الاستصحاب، فالنراقي يدّعي المعارضة باستصحاب عدم الجعل. وعليه، فبحسب مبناه يكون عندنا شكّ واحد ويقينان، والنتيجة هي التعارض والتساقط.
ومن هنا تتّضح ضرورة فهم نظرية الفاضل النراقي بدقّة، ولا سيّما مع تبنّي بعض الأعلام لها—كالسيد الخوئي (قده)—في مقابل ما اختاره الشيخ الأعظم (قده).
ثم إنّ الفاضل النراقي كان ملتفتًا إلى نكتةٍ دقيقة، وهي إمكان ورود إشكالٍ على ما أسّسه من دعوى التعارض، وحاصل هذا الإشكال ما يلي:
إنّ الشكّ المعتبر في باب الاستصحاب هو خصوص الشكّ المتّصل باليقين، أي الشكّ الذي يعقُب اليقين مباشرة، لا مطلق الشك. فقولنا في تعريف الاستصحاب: "كان على يقينٍ فشكّ"، ظاهره—بل صريحه—أنّ الشكّ مأخوذ بلحاظ اتّصاله باليقين، وهذا المعنى تؤكّده فاء التعقيب الواردة في لسان الروايات، الدالّة على التعقيب بلا فصلٍ. وعليه، فليس كلُّ يقينٍ سابق صالحًا لأن يكون طرفًا للاستصحاب، بل لا بدّ أن يكون اليقين الذي يعقبه الشكّ بلا انقطاع. أمّا اليقين غير المتّصل بالشكّ، فلا يكون موردًا للاستصحاب أصلًا.
وبتطبيق ذلك على مثال وجوب جلوس زيد في المسجد إلى الزوال، نقول: إنّ الشكّ الحاصل بعد الزوال إنّما هو متّصل باليقين السابق عليه مباشرةً، وهو اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال. وأمّا اليقين بعدم الوجوب في يوم الخميس، فقد انقطع بيقينٍ آخر، وهو اليقين بثبوت الوجوب في صبيحة يوم الجمعة إلى الزوال، فلا يكون ذاك اليقين صالحًا لأن يُستصحب إلى ما بعد الزوال؛ لانفصاله وعدم اتّصال الشكّ به.
وعليه، يكون الاستصحاب الصحيح—بناءً على القول بالجريان—هو استصحاب وجوب الجلوس بعد الزوال؛ لكون الشكّ متّصلًا به، ولا مجال لـ استصحاب اليقين بالعدم (العدم الأزلي)؛ لعدم اتّصال الشكّ به. وبهذا البيان ينتفي التعارض من أصله، ولا يبقى إلّا استصحابٌ واحد، وهو استصحاب الوجوب، فيُفتى بمقتضاه.
إلّا أنّ الفاضل النراقي كان ملتفتًا إلى هذا الإشكال، ولم يغفل عنه، ومع ذلك أصرّ على دعوى التعارض، وأجاب عنه بما يحفظ مبناه في أنّ استصحاب الجعل في الأحكام الكلّية معارَض باستصحاب عدم الجعل. ومن هنا لم يتراجع عن نظريته، بل بقي مصرًّا على أنّ مورد البحث—على تقدير جريان الاستصحاب—ينتهي إلى تعارض الأصلين وتساقطهما.
وهذا يكشف أنّ النزاع مع الفاضل النراقي ليس غفلةً عن شرط اتّصال الشكّ باليقين، بل هو نزاعٌ مبنائيّ في تحليل وحدة اليقين وتعدّده، وفي إمكان إحياء العدم الأزلي بعد القطعة الزمانية المنقلبة إلى الوجود، وهو ما سيأتي مزيدُ تحقيقه في كلمات الأعلام.
لذا تعرّض الشيخ الأعظم (قده) لكلام الفاضل النراقي، فقال: "وممّا ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين، من تخيّل جريان استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقَّن سابقًا، ومعارضته مع استصحاب وجوده…"
وحاصل مراده (قده): أنّ بعض المعاصرين— وهو الفاضل النراقي—توهّم إمكان جريان استصحابين متعارضين في موردٍ واحد، بدعوى أنّ الأمر الوجودي قد تحقّق في قطعةٍ أولى من الزمان، فيُستصحب بقاؤه عند الشك، كما أنّ العدم الأزلي لم يُعلم انقلابه إلى الوجود إلّا في تلك القطعة الزمانية الخاصّة، فإذا انتهت أمكن الرجوع إلى استصحاب العدم الأزلي. وبذلك—أي بحسب هذا التوهّم—يجري دائمًا استصحاب الوجود واستصحاب العدم معًا، فيتعارضان، ويكون استصحاب الجعل دائمًا معارَضًا بـ استصحاب عدم الجعل.
ثم قرَّب (قده) ما ذكره النراقي في تعارض الاستصحابين بالمثال، فأفاد: أنّه لو عُلِم بوجوب الجلوس يوم الجمعة في المسجد إلى الزوال، ثم شُكَّ بعد الزوال في وجوب الجلوس، فإنّ مقتضى استصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال هو الحكم بوجوبه بعد الزوال أيضًا، وهذا هو معنى التعبّد بالاستصحاب. وفي المقابل، فإنّ مقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس الأزلي—الذي لم يُقطع بانقلابه إلى الوجود بعد الزوال—هو الحكم بعدم الوجوب؛ لأنّ العدم الأزلي وإن انقلب إلى الوجود، إلّا أنّ هذا الانقلاب كان في الجملة، أي إلى حين الزوال، وأمّا ما بعد الزوال فلا علم بانقلابه، فيُرجع إلى استصحاب العدم الأزلي.
وبذلك—أي على هذا التقريب—يكون عندنا شكّ واحد، وهو الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال، وهو مسبوق بيقينين: الأوّل: اليقين بوجوب الجلوس قبل الزوال.
والثاني: اليقين بعدم وجوب الجلوس في الأزل بالنسبة إلى ما بعد الزوال.
وحيث لا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر، يقع التعارض والتساقط.
فهذه هي فكرة الفاضل النراقي: أنّ العدم الأزلي وإن انقطع، إلّا أنّ انقطاعه كان في الجملة، أي في فترة الجلوس إلى الزوال، وأمّا ما بعدها—مع الشك—فيمكن إحياؤه بالاستصحاب، فيقع التعارض بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.
وللكلام بقية ..
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]