47/06/23
بيان راي الشيخ الانصاري ودفع الدعوى/استصحاب الامور التدريجية /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/استصحاب الامور التدريجية /بيان راي الشيخ الانصاري ودفع الدعوى
لازال الكلام في القسم الثاني من الأمور التدريجية، وهي الزمانيات، وقد ذهب الشيخ الأعظم (قده) إلى جريان الاستصحاب فيها، باعتبار أنّها إذا فُرضت أمراً واحداً مستمرّاً، فمع الشك في بقائها يكون الشكّ راجعاً إلى بقاء نفس ما تيقّن حدوثه، فيتحقّق بذلك ركن الاستصحاب، أعني الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث.
ثمّ ذكر (قده) اشكالا بعنوان الدعوى مع بيان وجه تقريبها، إلّا أنّه عاد فردّها بعد ذلك.
وقد انتهى تحليل هذه الدعوى ـ بالتدقيق فيها ـ إلى أنّ ما ذُكِر من تقريب الاستصحاب في الزمانيات يرجع إلى الكلّي من القسم الثالث، وهو ممّا لا يجري فيه الاستصحاب على الرأي المشهور.
لكن الشيخ الأعظم (قده) دفع هذه الدعوى، وأرجع مورد البحث إلى استصحاب الكلّي من القسم الأوّل، وهو ممّا يجري فيه الاستصحاب بالاتّفاق.
ومن هنا يتّضح أنّ دفع الإشكال إنّما يكون بإخراج المقام من مورد الخلاف إلى مورد الاتّفاق.
وعليه، يكون تقريب الجواب: أنّ هذه الدعوى التي ذُكرت في المقام مدفوعة، كما صرّح به الشيخ الأعظم (قده)، حيث قال: "مدفوعة: بأنّ الظاهر كونه من قبيل الأوّل من تلك الأقسام الثلاثة؛ لأنّ المفروض في توجيه الاستصحاب جعل كلّ فردٍ من التكلّم مجموع ما يقع في الخارج من الأجزاء التي يجمعها رابطة توجب عدّها شيئًا واحدًا وفردًا من الطبيعة، لا جعل كلّ قطعةٍ من الكلام الواحد فردًا واحدًا، حتّى يكون بقاء الطبيعة بتبادل أفرادها"([1] )
وتوضيح ذلك: أنّ تصوير المقام يتردّد بين نحوين:
النحو الأوّل: أن يُنظر إلى الكلام أو المشي على أنّه طبيعي له فرد واحد في الخارج، وهذا الفرد هو مجموع الأجزاء المتّصلة برابطة عرفيّة توجب عدّه شيئًا واحدًا. فعلى هذا النحو، يكون التكلّم المستمرّ في مدّة واحدة ـ وإن اشتمل على ألفاظ متعدّدة وسكوتات يسيرة متخلّلة ـ فردًا واحدًا من طبيعي الكلام، وتكون تلك السكوتات أو الآناء المتخلّلة أجزاءً لذلك الفرد، لا أفرادًا مستقلّة منه.
وكذلك الحال في المشي، فإنّ السير من نقطة إلى أخرى يُعدّ مصداقًا واحدًا لطبيعي المشي، والخطوات المتعاقبة ليست إلّا أجزاء لفرد واحد.
وعلى هذا النحو، يكون الشكّ عند طروئه شكًّا في بقاء ما تيقّن حدوثه، فيندرج في استصحاب الكلّي من القسم الأوّل، ويجري الاستصحاب فيه بلا إشكال.
النحو الثاني: أن يُنظر إلى كلّ قطعة من الكلام أو كلّ خطوة من المشي على أنّها فرد مستقلّ من الطبيعي، فيكون الطبيعي ـ كالكلام أو المشي ـ كليًّا ذا أفراد متعدّدة، بانقضاء كلّ قطعة ينقضي فرد، ويُشكّ في حدوث فرد آخر.
وعلى هذا التصوير، يرجع الشكّ إلى الشكّ في حدوث فرد جديد بعد انقضاء الفرد المتيقّن، فيكون من قبيل استصحاب الكلّي من القسم الثالث، الذي لا يجري فيه الاستصحاب على رأي المشهور. والصحيح هو النحو الأوّل، دون الثاني؛ لأنّ الميزان العرفي يقضي بأنّ هذه القطعات ليست أفرادًا متعدّدة، بل أجزاء لفرد واحد
ما دامت الرابطة العرفيّة محفوظة.
ومن هنا يظهر أنّ منشأ الإشكال إنّما هو الخلط بين الأجزاء والجزئيات (الأفراد)؛ فما حُسب أفرادًا متعدّدة ليس في الحقيقة إلّا أجزاء لفرد واحد، ومعه لا يبقى مجال لتصوير المقام من القسم الثالث.
ثمّ عقب الشيخ الأعظم (قده) قائلاً: "غاية الأمر كون المراد بالبقاء هنا ـ أي في التدريجيات ـ وجودَ المجموع في الزمان الأوّل بوجود جزءٍ منه، لا وجودَ جزئيٍّ أو فردٍ منه، ووجودَه في الزمان الثاني بوجود جزءٍ آخر منه. والحاصل: أنّ المفروض كون كلّ قطعةٍ جزءًا من الكلّ، لا جزئيًّا من الكلّي".
وحاصل مراده (قده): أنّ الأمور التدريجيّة ـ كالكلام والمشي ـ لا يُلحظ وجودها بلحاظ تحقّق جميع أجزائها دفعةً واحدة، بل يُلحظ وجود المجموع بوجود بعض أجزائه في كلّ آنٍ من الآنات، بحيث يكون البقاء عبارةً عن استمرار هذا الوجود التدريجي بتعاقب الأجزاء، لا عن بقاء فردٍ معيّن من أفراد الكلّي.
إلّا أنّه يَرِدُ هنا إشكالٌ دقيق، وهو: متى يُقال بتحقّق نفس الطبيعة؟ فإنّ الكلام ـ بحسب الفهم العرفي ـ إنّما يتحقّق بعد الفراغ منه فالفراغ من الخطبة، وكذا المشي لا يتحقّق بعنوانه التامّ إلّا بعد الإنتهاء من الخطبة وكذا بعد الوصول إلى النقطة المقصودة، من المشي كالوصول من النقطة (ألف) إلى النقطة (ياء).
وأمّا أثناء الاشتغال بالكلام أو المشي، فهل يُقال إنّ الطبيعة قد تحقّقت فعلًا؟.
فلو قيس المقام باستصحاب الكلّي من القسم الأوّل، والمفروض فيه:
العلم بتحقّق فردٍ من الكلّي ـ كوجود زيد ـ والعلم بانطباق الطبيعة عليه ـ كعنوان الإنسان ـ ثمّ الشكّ بعد ذلك في بقائه، كما لو شُكّ في خروج زيد من الدار. فهناك يقين بالحدوث يعقبه شكّ في البقاء.
وأمّا في المقام، فكيف نتصوّر اليقين بالحدوث في الأمور التدريجيّة؟ فإن قلنا: إنّ اليقين بالحدوث لا يتحقّق إلّا بعد تمام الخطبة أو اكتمال المشي، فحينئذٍ يكون اليقين بالحدوث مقارنًا لليقين بالارتفاع؛ لأنّ الخطبة قد انتهت، والمشي قد تمّ، فلا يبقى مجال للشكّ في البقاء أصلًا.
وإن أردنا تصوير الشكّ أثناء الاشتغال، فليس ذلك شكًّا في بقاء الطبيعة بعد تحقّقها، بل هو شكّ في بعض الأجزاء قبل تمام تحقّق الكلّ. وعليه، يظهر أنّ تطبيق استصحاب الكلّي من القسم الأوّل على المقام يواجه هذه المعضلة؛ إذ إنّ ذاك القسم مبنيّ على تحقّق الطبيعة في فردٍ تامّ، ثمّ الشكّ في بقائه، بينما هنا لا يتحقّق الفرد التامّ إلّا بعد الانتهاء، وحينئذٍ ينتفي مورد الشكّ.
ومن هنا يتّضح أنّ إطلاق عنوان الكلّي في المقام لا يخلو عن نوع مسامحة، لأنّ الشكّ في الأثناء ليس شكًّا في بقاء الطبيعة بعد تحقّقها، بل شكّ في استمرار الأجزاء التدريجيّة قبل تمام تحقّق المجموع.
ولهذا قيّد الشيخ الأعظم (قده) معنى البقاء بقوله: "وجود المجموع في الزمان الأوّل بوجود جزءٍ منه"، ولم يقل بوجوده بتمامه، ثمّ أكّد بقوله: "وكون كلّ قطعة جزءًا من الكلّ، لا جزئيًّا من الكلّي".
ومفاد ذلك: أنّ الكلّ ـ بعنوانه التامّ ـ غير متحقّق بعد، وإنّما الموجود هو أجزاء متعاقبة، والشكّ إنّما يتعلّق ببعض الأجزاء لا ببقاء الكلّ بعد تحقّقه.
وعليه، يحتاج تصوير المقام على أنّه من استصحاب الكلّي من القسم الأوّل إلى مزيد تأمّل وتدقيق، وهل هذا النحو من البقاء التدريجي ينسجم حقيقةً مع ضوابط ذلك القسم أو لا؟ولعلّ البحث في ذلك يُستكمل في المباحث اللاحقة إن شاء الله تعالى.
وبعبارةٍ أُخرى: هل يمكن إرجاع المقام إلى استصحاب الكلّي من القسم الأوّل
حقيقةً، أو أنّ هناك مشكلةً أساسها أنّ الشكّ إنّما يقع أثناء الأجزاء لا بعد تحقّق الكلّ؟ فإنّ الشكّ في الأثناء ـ حال اشتغال الخطيب بالخطبة، أو حال السير في أثناء المسافة ـ ليس شكًّا في بقاء الكلّي بعد تحقّقه في فردٍ تامّ، بل هو شكّ في استمرار الأجزاء التدريجيّة قبل تمام تحقّق المجموع. وعلى هذا، لا ينطبق عليه القسم الأوّل، لعدم تحقّق يقين بالحدوث للطبيعة بتمامها.
وأمّا إذا فُرض انتهاء الكلام أو اكتمال الخطبة، فحينئذٍ لا يبقى مجال للشكّ في البقاء؛ لأنّ اليقين بالحدوث يقارنه اليقين بالارتفاع. نعم، قد يُتصوَّر شكٌّ آخر، وهو الشكّ في أنّ الخطيب هل شرع بعد ذلك في خطبةٍ أُخرى أو كلامٍ آخر، إلّا أنّ هذا الشكّ ليس شكًّا في بقاء الفرد السابق، بل هو شكّ في حدوث فردٍ آخر من الكلّي، فيرجع إلى استصحاب الكلّي من القسم الثالث؛ أي إلى مورد ارتفاع فردٍ معلوم والشكّ في وجود فردٍ آخر.
وعليه، فتصوير المقام على أنّه من القسم الثالث ـ بعد فرض انتهاء الكلام ـ واضح المعنى، بخلاف تصويره من القسم الأوّل؛ إذ إنّ الكلّي لم يتحقّق بعد بتمامه حال الأثناء، وإنّما الموجود بعض أجزائه، والشكّ تعلّق بتلك الأجزاء لا ببقاء الطبيعة
بعد تحقّقها.
نعم، قد يُقال بجريان الاستصحاب بلحاظ الفهم العرفي، بدعوى أنّ العرف يرى الكلام أو المشي أمرًا واحدًا مستمرًّا، لكنّ جعل هذا النحو من الشكّ من القسم الأوّل من استصحاب الكلّي هو أوّل الكلام، وفيه عين الإشكال؛ إذ لا ينسجم مع الضابطة الدقيقة لذلك القسم.
فلا بدّ ـ إذن ـ من حلّ هذا الإشكال وبيان وجه تصحيح الإلحاق بالقسم الأوّل، أو الالتزام بعدم الانطباق، وهو ما يحتاج إلى مزيد تأمّل، ولعله ياتي توضيحه في المباحث اللاحقة إن شاء الله تعالى.
ثمّ ذكر الشيخ الأعظم (قده) ـ بعد فاصلة ـ ما نصّه: "ثمّ إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع أمرًا واحدًا موكولة إلى العرف؛ فإنّ المشتغل بقراءة القرآن لداعٍ من الدواعي يُعدّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمرًا واحدًا، فإذا شكّ في بقاء اشتغاله بها في زمانٍ لأجل الشكّ في حدوث الصارف، أو لأجل الشكّ في مقدار اقتضاء الداعي ـ وهو الشكّ في المقتضي ـ فالأصل بقاؤه. وأمّا لو تكلّم لداعٍ أو لدواعٍ، ثمّ شكّ في بقائه على صفة التكلّم لداعٍ آخر، فالأصل عدم حدوث
الزائد على المتيقَّن".
ثمّ بيّن (قده) بعد ذلك أنّ منشأ اختلاف العلماء في جريان الاستصحاب في هذه الموارد إنّما هو اختلاف أنظارهم في ملاحظة هذا المستمرّ: هل يُلحظ حادثًا واحدًا مستمرًّا، أو يُلحظ حوادث متعدّدة متعاقبة؟ثمّ أردف (قده) قائلاً: "والإنصاف: وضوح الوحدة في بعض الموارد، وعدمها في بعض، والتباس الأمر في ثالث".
ثمّ انتقل بعد ذلك إلى القسم الثالث، وهو الأمر القارّ المتقيّد بأمرٍ غير قارّ، كما في مثال الصوم المقيَّد بالنهار، حيث يكون الفعل قارًّا في نفسه، إلّا أنّ ظرفه أو قيده أمرٌ تدريجي.
وللكلام تتمّة…
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]