47/06/18
بيان راي الشيخ الانصاري/استصحاب الامور التدريجية /الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/استصحاب الامور التدريجية /بيان راي الشيخ الانصاري
لازال الكلام في التنبيه الثاني المتعلق بجريان الاستصحاب في الأمور التدريجية أو الأمور غير القارّة الذات، وقد ابتدأ الشيخ الأعظم(قده) فيه بتقريب الإشكال بجريان الاستصحاب فيها ، ثم بعد ذلك قسّم الأمور التدريجية إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الزمان نفسه.
الثاني: الأمور الغير القارة اوالزمانيات.
الثالث: الأمورالقارّةالذات المقيدة بالزمان .
أمّا بالنسبة إلى الزمان، فلو تأمّلنا في كلامه (قده) نراه أوّلاً نفى الإشكال في الحكم بعدم جريان الاستصحاب فيه، ألا انه ذكر محاولتين لتصحيح جريان الاستصحاب فيه؛ وقد تراجع عن الأولى؛ لاستلزامها القول بالأصل المثبت. وأمّا المحاولة الثانية، وهي الحكم بجريان الاستصحاب في الحكم دون الموضوع، فقد جعلها معلقة على امكان جريان الاستصحاب في الحكم ، ولهذا فقد ذهب بعض الأعلام إلى أنّ رأيه (قده) في القسم الأول هو الحكم بجريان الاستصحاب في الزمان، إلا أنّ الظاهر من كلامه (قده) لا ينهض لإثبات ذلك لذا فإذا أردنا أن نعرف رأيه (قده) بشكلٍ قاطع، لا بدّ لنا من التدقيق والتأمل في عباراته أكثر فأكثر حتى نخلص إلى معرفة رأيه في ذلك، وعلى كلّ حال فالأمر في ذلك سهل.
ثم بعد ذلك ننتقل إلى الكلام حول القسم الثاني، وسنبيّن بعض الأمثلة لهذا القسم ـ تبعاً لما ذكره الشيخ الأعظم (قده) ـ ليكون البيان وافياً.
فنقول : ليس المقصود من الامور الزمانية نفس الزمان، بل هي الوجودات غير القارة الذات والتي يتوقف وجود الجزء اللاحق منها على انعدام السابق فهي تشبه الزمان من جهة أن اجزائها لا تجتمع في الوجود. ومن جملة أمثلتها: التكلم ، فإنّ الإنسان إذا تكلّم، فكلامه يتبع بعضه بعضاً. ففي الجمل النحوية ـ المركبة من الفعل والفاعل والمفعول اوالحال ونحوها ـ لا يمكن تكوّن الجملة إلا بإتيان كلّ كلمة بعد أختها. فلو قال : "كتب" وسكت، وكان مقصوده جملة تامّة مثل: "كتب الطالب الدرس"، فإنّ هذه الجملة لا تتكوّن إلا بعد فناء الكلمة الأولى ووقوع الثانية بعدها، ثم فناء الثانية ولحوق الثالثة وهكذا.
ومن جملتها أيضاً سيلان الماء، (لا نفس الماء الثابت في الكر مثلا) فإنّ الماء السائل متكوّن من أجزاء وجزيئات فعندما ننظر الى سيلان الماء النازل من السماء أو النازل من الميزاب مثلا ، نجد أن الماء الواصل إلينا في كل آن غير الماء الذي كان قد وصل في الآن السابق، وغير الماء الذي لا يزال لم يصل لكونه بعد في السماء أو في الميزاب مثلاً. لكن جميع هذه الأجزاء أو الجزئيات يعبَّر عنها بعنوان واحد هو: سيلان الماء. وكذلك مياه العيون المتدفقة من باطن الأرض؛ فإنّ أجزاء الماء التي وصلت إلينا قد انتهت، وهناك إجراء اخرى في العروق ستصل لاحقاً، والمجموع متّحد عنواناً وإن اختلفت أجزاؤه خارجاً.
وكذلك المشي؛ فإنّ خطوات الإنسان من النقطة (ألف) إلى النقطة (باء) تتعاقب، فالخطوة الأولى لابدّ أن تنتهي حتى تتحقق بعدها الخطوة الثانية وهكذا . فلو أجرينا الاستصحاب في مثل هذه الأمور، لا نجد يقيناً بالحدوث وشكا في البقاء؛ لأنّ الجزء المتيقن بحدوثه قد انتهى وفني، و الجزء المشكوك فيه جزء جديد غير الجزء السابق. وعليه، فالإشكال الذي تقدّم في القسم الأوّل ـ وهو الزمان، كالدقائق التي توجد وتفنى وتوجد دقائق أُخَر غيرها ـ يجري هنا أيضاً في مثل التكلم ، وسيلان الماء، والمشي، وأشباهها. فهذه كلّها تُعدّ من الأمور التدريجية والتي ينعدم فيها بقاء الموضوع، فيمتنع فيها جريان الاستصحاب بالمعنى المتعارف.
والشيخ الأعظم (قده)، حينما تعرّض للقسم الأوّل حاول دفع الإشكال بأن جعل النظر إلى الزمان مثل، الليل والنهار بوصفهما شيئاً واحداً عرفاً، وإنْ لم يكونا شيئاً واحداً بالدقّة العقلية. إلا أنّ الميزان في فهم الأحكام الشرعية لما كان بحسب النظرة العرفية، والعرف يرى الليل وحدةً مستمرة، ويرى النهار كذلك. فمن هنا أمكن تصحيح جريان الاستصحاب فيهما، ولكن على النحو الذي ذكره (قده)، وهو: إرجاع معنى البقاء في الزمان إلى عدم مجيء الجزء الأخير، أو عدم تحقق جزء ما يقابله.
وأمّا فيما يتعلق بالقسم الثاني فقد يقال: إنّه من الممكن أن تُعتبر الأفعال التدريجية كالمشي، والتكلم ، والخطبة أمراً واحداً عرفا؛ إذ العرف لا يلحظ تعاقب الأجزاء، فيها بل ينظر إلى مجموع الخطبة كلاماً واحداً، وإلى مجموع المشي فعلاً واحداً. فحينئذٍ يفرض تحقق اليقين بالحدوث و تعلق الشك فيه في البقاء، كما تقدّم في
القسم الأول .
والكلام الآن: هل يصحّ هذا الوجه في القسم الثاني كما صحّ في القسم الأوّل؟ وهل يمكن البناء على وحدة الفعل العرفية لإثبات ركني الاستصحاب، أم أنّ هذا المسلك غير تام، ولا يجري في الزمانيات كما جرى في الزمان؟.
وهاهنا أمرٌ لابدّ من بيانه، لما له من نحو ارتباطٍ بما أفاده الشيخ الأعظم (قده).
حاصله: اننا لو لاحظنا المشي وحللناه، نقول، إنّ المشي عبارة عن تحريك الإنسان لقدميه بطريقةٍ خاصّة، فلا تُسمّى كلّ حركةٍ للقدم مشياً، بل المشي هو خصوص الهيئة المتعارفة في تحريك القدم اليمنى واليسرى.
فنقول : لو مشى شخصٌ ثلاثين متراً، فهل المشي لهذه المسافة كليٌّ له مصاديق متعددة؟ وبعبارة أخرى :عند المشي للمتر الواحد يصح أن يقال بأنه : "مشى"، ثم لو قطع متراً ثانياً صحّ أيضاً أن يقال: بأنه "مشى"… وهكذا. فعلى هذا الفرض يكون عندنا كليّ اسمه المشي، والخطوة الأولى والثانية والثالثة… مصاديق لهذا الكلي، فيتعدّد المصداق ويتكرر عنوان المشي. فهل هذا هو المراد من المشي؟ أو أنّ للمشي معنىً آخر عرفاً، وهو أنّ هذه الثلاثين متراً بأجمعها مشي واحد، وأنّ
الخطوة الأولى والثانية والثالثة ليست مشياً مستقلاً، بل أجزاء لمجموع المشي؟
وهذا التحليل مهم جداً، إذ ينبني عليه إمكان جريان الاستصحاب من عدمه.
ومثال اخر على ذلك فلو خطب الخطيب من على المنبر خطبة وذكر فيها عدة جمل ثم ختم كلامه بآية مثلا وسكت ، فإنّ العرف يعدّ هذا الكلام خطبة واحدة. فمن يسمعها يقول: "سمعنا خطبة"، أو "سمعنا كلام الخطيب"، مع أنّ الكلام مركّب من جملٍ كثيرة متعاقبة. فكلّ جملة في حدّ نفسها كلام
ولكن العرف لا يعتبر كلّ جملة "كلاماً مستقلاً" بمعنى الكلي ومصاديقه، بل يعتبر الجميع مجموعاً واحداً وهو الخطبة.
فالعرف هنا يتعامل مع الكلام بوصفه كلاماً له أجزاء متعددة ـ وهي الجمل ـ أو كليّاً له مصداق واحد، لا كليّاً له مصاديق متعددة كما هو الحال في "الإنسان" الذي له أفراد متعددة كزيد وعمرو وخالد، أو "الحيوان" الذي له أفراد متعددة كالإنسان والفرس والأسد.
وهذا هو الفارق المهمّ الذي ينبغي الالتفات إليه عند ربط البحث بمسألة استصحاب الكلي.
حيث تقدّم سابقاً في تقسيم استصحاب الكلي إلى القسم الأوّل والقسم الثاني والقسم الثالث، وقلنا في القسم الثالث:
لو فرضنا أنّ زيداً موجودٌ في هذه القاعة، فوجوده يلازم وجود كليّ الإنسان. فإذا خرج زيد، خرج الكلي معه. ثمّ لو شككنا: هل كان في القاعة فردٌ آخر من الإنسان كعمرو أو لا؟ فهنا ـ على رأي الشيخ الأعظم (قده) ـ ربما يجري الاستصحاب، لأنّ الشكّ يرجع إلى بقاء الكلي نفسه.
أمّا على رأي المحقق النائيني (قده)، فالكلي إذا ارتفع بارتفاع فرده، فاحتمال وجود فردٍ آخر دائماً يكون من قبيل الشكٌّ في الحدوث لا في البقاء، لأنّ وجود الكلي في الفرد الجديد وجود لكلي اخر غير الأول ، فلا يجري الاستصحاب. وعليه، عندما خرج الجزئي خرج الكلي معه، فمجرد احتمال وجود فردٍ آخر معناه أنّ الشكّ قد تعلق في حدوث كلي جديد تحقق باحتمال الفرد الجديد ، فيكون الأصل عدم حدوثه، لا استصحاب بقائه.
وبعد هذا نعود إلى التكلم والمشي: فحين يتكلم المتكلم بكلمتين أو أكثر، فالكلمة الأولى جزئي من الكلام، وقد انتهت، ثم جاءت كلمة ثانية وانتهت ايضا، ثم ثالثة وهكذا… فلو نظرنا إلى هذه الكلمات على أنّها جزئيات مستقلة لكليّ الكلام، فهي تشبه ما تقدّم من مثال الشك في بقاء الكلي بعد العلم بارتفاع فرده "زيد" لأحتمال تحقق فرد آخر "عمرو" حيث ان كلّ كلمة حادثة ثم تنعدم، وما يأتي بعدها حادث جديد. وهذا تماماً من سنخ استصحاب الكلي من القسم الثالث، فلا يجري فيه الاستصحاب؛ لأنّ الشكّ فيه قد تعلق في حدوث كلام جديد، لا في بقاء الكلام السابق الذي انعدم.
والتخلص من الإشكال يكون بالقول: إنّ العرف لا يرى هذه الكلمات جزئيات مستقلة لكليّ الكلام، بل يرى أنّ الكلام شيء واحد متصل، وهذه الكلمات أجزاء لهذا الواحد، تماماً كما أنّ أجزاء الخطبة ليست "خطباً متعددة"، بل خطبة واحدة لها مجموع أجزاء. فإذا كان للكلام مصداقاً واحداً، وشك في بقاءه بعد اليقين بحدوثة أمكن استصحابه ولا يَرِدُ إشكال القسم الثالث.
ومن باب المثال نقول : لو خطب الخطيب خمس دقائق، ثم جلس، ثم خطب خمس دقائق أخرى، ثم جلس، ثم خطب ثالثة، فعند سؤال العرف: كم خطبة ألقى الخطيب؟ لكان الجواب: ثلاث خطب.
فهنا الكلي (الخطبة) له مصاديق متعددة. أمّا إذا كانت خطبة واحدة مستمرة فلا تعدّد للمصاديق، وتكون الكلمات المتعاقبة أجزاء لا أفراداً، فلا يعود البحث إلى القسم الثالث من استصحاب الكلي.
وبهذا يتبيّن: أنّه إذا كان عندنا خطبة واحدة أو مشي واحد من نقطة "ألف" إلى نقطة "ياء"، فإنّ العرف يعدّ ذلك فعلاً واحداً، والمشي هنا كلي له مصداق واحد. فإذا شككنا في أنّ المشي قد انتهى أو لا، جرى الاستصحاب؛ لأنّ المصداق واحد، والشكّ في بقائه بعد اليقين بوجوده.
أمّا إذا فُرض أنّ المشي عبارة عن مصاديق متعددة لكلي المشي، وإن كلّ خطوةٍ مصداق مستقل للمشي، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنّه من سنخ استصحاب الكلي من القسم الثالث، حيث يرتفع الفرد الأول، ويكون الشك في وجود الثاني شك بالحدوث لا بالبقاء ، فلا يجري فيه الاستصحاب.
ثم بعد ذلك نرجع إلى كلام الشيخ الأعظم (قده) ونطبّقه على ما تقدّم، ليظهر المطلب بصورةٍ جليّة وواضحة. [ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]