1447/06/16
راي الشيخ الانصاري في الفرائد/استصحاب الامور التدريجية /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/استصحاب الامور التدريجية /راي الشيخ الانصاري في الفرائد
ما زال الكلام في التنبيه الثاني؛ المتعلّق ببحث جريان الاستصحاب وعدمه في التدريجيات، أو الأمور غير القارّة بالذات. وقد تقدّم سابقاً أنّ بعض الأخباريين ـ وفي مقدّمتهم المحدّث الاسترابادي ـ صرّح بأنّ استصحاب الليل والنهار من الضروريات، كما نقلنا عبارة صاحب الجواهر(قده) التي يظهر منها أنّ جريان الاستصحاب في الليل والنهار أمرٌ معروف ومتسالَم، بل هو المرتكز في فتاوى الفقهاء أيضاً.
إلّا أنّ الإشكال: كيف يمكن تخريج هذا العمل الفتوائي على طبق المبنى الاصولي في الاستصحاب فإن المورد المذكور من الأمور التدريجية والتي أنكروا جريان الاستصحاب فيها؟ وبتعبير آخر: كيف يُجمع بين إنكارهم لجريان الاستصحاب في الأمور غير القارّة، وبين بنائهم العملي على جريانه في الليل والنهار وهما من قبيل التدريجي؟ومن هنا شرع الشيخ الأعظم(قده) بتقسيم البحث إلى ثلاثة أقسام؛ ولابد في التقسيم العلمي من أن يكون لكلّ قسم ثمرة خاصة، وهذه الثمرة هي التي تكشف عن المقصود من هذا التفصيل كما سيأتي .
القسم الأوّل: الزمان
والمقصود به نفس الحقيقة الزمانية بما لها من مصاديق متعارفة، كالليل والنهار، والساعة، والشهر، ونحوها، ممّا هو عبارة عن نفس الامتداد الزماني.
القسم الثاني: الزمانيّات
وهي الأمور الغير القارة الذات التي ليست هي نفس الزمان، وإنّما تقع فيه ولكنها من التدريجيات التي لا تجتمع في الوجود بل تجدد شيئا فشيأ ، كالحركة، وسيلان الماء، وسيلان الدم من الرحم في الحيض، والتكلّم، وما شابه ذلك. فهذه كلّها أمور تدريجية غير قارة الذات ولا تجتمع في زمان واحد .
القسم الثالث: الأمور القارّةالذات ولكنها مقيدة بالزمان وهي ما تكون قائمة في ذاتها وثابتة في نفسها، إلّا أنّها مقيدة بالزمان فتجعل بعض أحكامها مرتبطة بالأمر غير القارّ، كما في الصوم؛ فإنّ الصوم ـ بما هو كفُّ النفس عن المفطرات ـ أمر قارّ في نفسه، لكنّه إذا قيد بزمان معيّن، كصوم يوم الخميس، دخل في ارتباط مع الأمر غير القارّ؛ لأنّ يوم الخميس بنفسه حقيقة زمانيّة.
وسيأتي قريباً بيان كيفية حساب هذه الأقسام، وغرض الشيخ الأعظم(قده) من هذا التفصيل، وكيف تترتب الثمرة المدعاة بكلّ واحد من هذه الأنحاء الثلاثة.
وبعد أن فرغ الشيخ الأعظم(قده) من تقسيم محلّ البحث، شرع في الكلام عن القسم الأوّل: اعني الزمان، وافاد بأنّ الزمان ـ بما أنّه أمرٌ غير قارّ ـ فلا تتوفر فيه أركان الاستصحاب.
ومراده من الأركان: ما تقدم من أنّ الاستصحاب يتقوّم بـ اليقين بالحدوث و الشك في البقاء؛ فمتى فُقِد أحد الركنين لم يتحقّقُ موضوع الاستصحاب من أصله. وبما ان أجزاء الزمان من الأمور التدريجية بمعنى أن لكل جزء منه حدوث خاص فالجزء المشكوك فيه من أجزاءه لا يوجد يقين بحدوثه سابقا والذي هو أحد أركان الاستصحاب وعليه فلا إشكال فيي، عدم جريان الاستصحاب فيه .
ثم أفاد وطرح(قده) السؤال الآتي: هل هناك محاولة لإجراء الاستصحاب في الزمان، أو أنّ الأمر مسدود تماماً؟
وأجاب بأنّ هناك محاولة لإثبات جريان الاستصحاب في الزمان، وتعرض لها، إلا أنّه سرعان ما اورد الإشكال عليها ، ثم سعى بعد ذلك للبحث عن طريقٍ آخر يرفع الإشكال ويحرّر محل النزاع بصورة أوضح. قال(قده) "والتحقيق: أنّ هنا أقساماً ثلاثة. أمّا نفس الزمان، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل أو النهار؛ لأنّ نفس الجزء لم يتحقّق في السابق، فضلاً عن وصف كونه نهاراً أو ليلاً."([1] )
توضيح كلامه(قده): أولاً: إنّه يجزم ـ في مقام الفتوى الأصولية ـ بعدم جريان الاستصحاب في الزمان، ولا يرى في ذلك إشكالاً. ثم بيّن النكتة في ذلك بقوله: "لأنّ نفس الجزء لم يتحقق في السابق، فضلاً عن وصف كونه نهاراً أو ليلاً."
وبيان ذلك: أنّ وصف الشيء بشيءٍ فرعُ ثبوته؛ فإذا لم يكن الجزء من الزمان بنفسه ثابتاً ولا متحقّقاً، امتنع أن نصفه بأنه ليل أو نهار.
وأمّا مراده من قوله: "لأنّ نفس الجزء لم يتحقق في السابق" فهو أنّه في الزمان ـ كالليل والنهار ـ عندما نأخذ هذا الجزء الحاضر، كجزءٍ من النهار مادامت الشمس طالعة، أو جزءٍ من الليل بعد غروبها، فهذا الجزء الذي نعيشه ليس له وجودٌ سابق كي يُقال: كان متحققاً ثم نشكّ الآن في بقائه.
والفرق واضح إذا قورن ذلك بموضوعات أخرى يجري فيها الاستصحاب، كالماء الكرّ؛ فإنّ الماء كان ـ في زمانٍ سابق ـ كراً بيقين، ثم طرأ الشك الآن في نقصانه بسبب احتمال الشرب منه. فهناك زمان لليقين وزمان للشك، فتتحقّق أركان الاستصحاب.
أمّا في الزمان، فإذا أردنا أن نُجري الاستصحاب على هذا الجزء الحاضر، فلا يمكن القول: كان هذا الجزء موجوداً سابقاً، الآن نشك في بقائه؛ لأنّ الذي كان موجوداً هو الجزء السابق من الليل أو النهار، وقد انقضى وتصرّم، ثم جاء هذا الجزء الجديد. والجزء المتصرّم غير الجزء الحاضر، فلا وحدة موضوع، ولا يتحقّق عنوان "ابقاء ما كان".
ولهذا قال(قده): "لأنّ نفس الجزء لم يتحقق في السابق، فضلاً عن وصف كونه من الليل أو من النهار"، أي أنّ أصل الوجود غير ثابت سابقاً، فكيف يُثبت الوصف، وكيف يُجري الاستصحاب مع فقدان ركن اليقين بالحدوث ابتداءً؟.
توضيح ذلك: إنّا لو أردنا إجراء الاستصحاب في الزمان، فلابدّ من القول: هذا الجزء الذي كان من الليل نشكّ الآن في بقائه، أو: هذا "الآن" الذي كان من النهار نشكّ في بقائه، فنحكم ـ تعبّداً ـ ببقائه، وهذا هو معنى الاستصحاب.
لكن هذا اللون من الاستصحاب لا يجري؛ لأنّ هذا "الآن" الحاضر لم يكن موجوداً سابقاً حتى يحرز فيه اليقين بالحدوث. فالآنُ السابق غير هذا الآن، لكون كلّ منهما قطعةً زمنيةً مستقلة، وحيث كان المائز بين القطع الزمانية بالتصَرُّم والحدوث المتجدّد، فلا وحدة بين الموضوعين في القضيتين: المتيقَّنة والمشكوكة.
فهذا الجزء لم يكن متحقّقاً في السابق، فضلاً عن أن يكون متّصفاً بعنوان الليلية أو النهارية؛ فكما لا يصحّ أن يقال: هذا الآن كان جزءاً من الليل، كذلك لا يصحّ أن يقال: كان متّصفاً بالليلية. وحيث لا يمكن إثبات أصل الوجود، فكيف بإثبات الوصف؟!
وعليه، لا تتوفّر أركان الاستصحاب فيه، حيث فقد ركن اليقين بالحدوث رأساً، فلا يجري الاستصحاب. وهذا الكلام تامّ ودقيق؛ لأنّ المستصحَب في باب الزمان ليس له قرار ولا استقرار، بل هو متجدّد بالحدوث في كلّ آن، فلا يمكن الظفر بشيء ثابت يقال: إنّه كان سابقاً لنُجري عليه الاستصحاب، بخلاف ما لو كان من الامور القارة الذات كالماء الموجود بوجود مستقر، لا كسيلان الماء الذي سيأتي البحث عنه.
فبناءً على هذا المبنى، الاستصحاب في نفس الزمان لا يجري لانتفاء موضوعه.
ثم بعد أن قرّر الشيخ الأعظم(قده) عدم جريان الاستصحاب في نفس الجزء الزماني، حاول أن يفتح باباً لإمكان الجريان، فاستدرك على ما أفاده قائلاً:
"نعم، لو أُخذ المستصحَب مجموعَ الليل أو مجموعَ النهار، ولُوحظ كونه أمراً خارجياً واحداً…"
وحاصل مرامه(قده): أنّ الإشكال السابق إنّما يَرِد فيما لو لوحظ كلُّ "آنٍ" أو "جزءٍ" من الزمان بنحوٍ استقلالي، إذ لم يكن ذلك الجزء موجوداً سابقاً، فلا يتحقق يقين بحدوثه ليُستصحَب بقاؤه.
أمّا إذا لم نُجزّئ الزمان إلى آناته، بل أخذنا الليل بتمامه أمراً واحداً، يبدأ من سقوط قرص الشمس أو ذهاب الحمرة المشرقية إلى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، وكذلك أخذنا النهار أمراً واحداً من طلوع الفجر أوالشمس إلى سقوط القرص او ذهاب الحمرة ، فإنّ هذا المجموع ـ بوصفه وحدةً عرفية ـ يمكن النظر إليه كأمرٍ خارجي واحد.
والنكتة في هذا الاعتبار: أنّ العرف لا يتعامل مع الليل والنهار كقطعٍ وآنات متصرّمة، بل يرى كلّ واحد منهما وحدةً زمانيةً مستمرة، والشارع في كثير من الأحكام قد نزّل خطاباته على فهم العرف. فإذا اعتبر العرف الليل أمراً واحداً، اعتُبر ذلك في مقام تشخيص الموضوع.
ثم قال(قده): "وجعلَ بقاؤه ـ أي بقاء الليل أو النهار ـ وارتفاعه عبارةً عن عدم تحقّق جزئه الأخير وتحقّقه."
ومراده(قده): أنّه بعد أن افترضنا الليل أو النهار أمرا واحدا في الخارج بالوحدة العرفية، فالبقاء والارتفاع يُجعلان تابعين لتحقّق الجزء الأخير من هذه الوحدة أو عدم تحقّقه.
فإذا قلنا: ارتفع الليل أو ارتفع النهار، فمعناه أنّ جزءه الأخير قد تحقّق، فانصرم المجموع بكماله. وإذا قلنا: بقي الليل أو بقي النهار، فذلك يعني أنّ جزءه الأخير لم يتحقّق بعدُ، فالوحدة الزمانية ـ باعتبارها الكلّي العرفي ـ لا تزال باقية.
فالنظر هنا ليس إلى الأجزاء الماضية التي تَصَرَّمَت، بل المدار على الجزء الأخير: فتحقّقه يساوي الارتفاع. عدم تحقّقه يساوي البقاء.
وبهذا يحاول الشيخ الأعظم(قده) أن يعطي للزمان ـ بوصفه وحدة عرفية ـ قيداً يمكن معه تصوير البقاء والارتفاع بنحو ينسجم مع أركان الاستصحاب.
ثم أردف قائلاً: "أو عن عدم تجدّد جزءٍ مقابله – الذي هو النهار – وتجدّده، وعليه أمكن القول بالاستصحاب؛ لأنّ بقاء كلّ شيء عند العرف إنّما هو بحسب ما يتصوّره العرف له من الوجود."
وحاصل مرامه(قده): إنّ تصوير الزمان باعتباره مجموع آناتٍ متصرّمة ومتجدّدة ـ كلُّ آنٍ منها حادث بعد انصرام سابقه ـ يَسُدّ الباب امام جريان الاستصحاب؛ إذ لا يبقى لدينا شيءٌ ثابتٌ نحرز وجوده سابقاً لنستصحب بقاءه. فهذا الطريق، بطبيعته، لا يُنتج توفر احد أركان الاستصحاب.
لكن إذا رجعنا إلى الاعتبار العرفي، وجدنا أنّ العرف لا يتعامل مع الليل والنهار بوصفهما آناً بعد آن، بل يراهما وحدتين زمانيتين ممتدّتين تبدأ كلّ منهما من حدٍّ وتنتهي بحدٍّ آخر، ولذلك يصحّ في العرف أن يُقال: "لا تذهب في الليل" أو "اعمل في النهار". وهذه استعمالات شرعية وقرآنية استقرت على فهم العرف للّيل والنهار كوحدتين لا كأجزاء متفرّقة.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن يصوّر الاستصحاب بطريقتين: الطريقة الأولى: النظر إلى الجزء الأخير من الليل.
فإذا كان الليل أمراً واحداً عند العرف، فإنّ بقاءه يساوق عدم تحقّق جزئه الأخير، وارتفاعه يساوق تحقّق ذلك الجزء.
وعليه، إذا شككنا: هل تحقّق الجزء الأخير من الليل أم لا؟ فإن استصحاب عدم تحقّقه يثبت بقاء الليل.
وإذا تحقّق، حكمنا بارتفاع الليل ودخول النهار.
وبهذا التصوير أمكن تشكيل قضية متيقّنة (كان الليل ) و قضية مشكوكة (هل بقي واستمر أو ارتفع؟)، فتتحقق أركان الاستصحاب.
الطريقة الثانية: النظر إلى تجدد جزء مقابل الليل، وهو النهار فالسؤال هنا: هل تجدد أوّل جزءٍ من النهار أم لم يتجدد؟ إذا تجدد الجزء الأوّل من النهار، فمعناه أنّ الليل قد ارتفع.
وإذا لم يتجدد، فمعناه أنّ الليل باقٍ.
وبذلك يمكن إجراء الاستصحاب أيضاً، باستصحاب عدم مجيء الجزء الأوّل من النهار، فيثبت بقاء الليل.
نتيجة المحاولتين
بهاتين الطريقتين سعى الشيخ الأعظم(قده) إلى تشكيل ركني الاستصحاب اللذين كانا مفقودين في التصوير الأول (التجزئة الدقيقة للزمان)، وهما:
1- القضية المتيقّنة: حدوث الليل .
2- القضية المشكوكة: هل بقي إلى الآن أم لا؟
وعليه، أمكن ـ بحسب هذا الاعتبار العرفي ـ تصوير جريان الاستصحاب في الزمان، إمّا من خلال آخر جزءٍ من الليل، أو من خلال أوّل جزءٍ من النهار.
وهذا تمام الكلام في المحاولة المذكورة .
قال الشيخ الأعظم(قده): "فيصدق أنّ الشخص كان على يقينٍ من وجود الليل فشكّ فيه، - وهنا تتوفّر أركان الاستصحاب- فالعبرة بالشكّ في وجوده، والعلم بتحقّقه قبل زمان الشكّ، وإن كان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشكّ."
ثم قال(قده): "وإنّما وقع التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بملاحظة هذا المعنى في الزمانيات."
توضيح ذلك: إنّ الروايات الواردة في باب الاستصحاب لم تشتمل على لفظ البقاء، بل عبّرت بقولها: "لا تنقض اليقين بالشك". وأمّا عنوان "البقاء" فهو من اصطلاحات الأعلام في مقام تعريف الاستصحاب. ومن هنا رأى بعضهم، كالسيد اليزدي(قده)، أنّ الأصل هو قاعدة لا تنقض اليقين بالشك، كغيرها من القواعد. وعلى كلّ حالٍ، فالتعبير بالبقاء صار أمراً متسالَماً في كلمات الأعلام في مقام التعريف والتحليل.
ومن هنا يتّضح أنّ البقاء في الزمانيات له معنى خاص: فليس المقصود بقاء الذا، بل عدم تحقّق الجزء الأخير من الليل أو النهار، فيُعدّ ذلك بقاءً له عرفاً.
أمّا في الأمور القارّة، فمعنى البقاء هو عدم طروّ التغيير على موجودٍ قارّ، لأنّ الذات ثابتة، فيُسأل: هل تبدّل حكمه أو وصفه أم لا؟ فالبقاء إذن حقيقة واحدة، لكن مفهومه يختلف باختلاف متعلَّقه:
ففي الزمان: يلحظ بقاء المجموع باعتبار عدم تحقق جزئه الأخير.
وفي الأمور المستقرّة: يلحظ بقاء الشيء بلحاظ عدم عروض التغيير على وجوده القارّ.
وهذا هو المراد من كلام الشيخ الأعظم(قده) في توجيه استعمال "البقاء" في الاستصحاب بالنسبة إلى الزمان، دون تهافتٍ مع الاستعمال الجاري في غيره من الموضوعات.
وللكلام تتمة..
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]