1447/06/11
الاستصحاب الكلي/الاستصحاب الكلي /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب الكلي /الاستصحاب الكلي
انتهى بنا الكلام الى بيان ما ذهب إليه السيّد الخوئي(قده) في مخالفة المشهور وموافقة الفاضل التوني، وذلك من خلال مطلبين أساسين:
المطلب الأوّل: قرّره(قده) في مباحث الأصول عند الحديث عن حقيقة الميتة، وذكر أنّالميتة عنوانٌ وجودي، وهو عبارة عن زهاق الروح المستند إلى سببٍ غير شرعي، كما نصّ عليه صاحب المصباح المنير. وحيث إنّ هذا العنوان وجودي، فلا يثبت بمجرد استصحاب عدم التذكية؛ لأنّ غاية ما يثبت بالأصل هو عدم تحقق التذكية الشرعية، وأمّا إثبات عنوان الميتة بما هو أمرٌ وجودي زائد، فهو من قبيل الأصل المثبت، ولا يكون حجة. وبذلك تكون أصالة عدم التذكية مفيدةً في إثبات حرمة الأكل فحسب، ولا تثبت بها النجاسة؛ لأنّ النجاسة مترتّبة على عنوان الميتة، وهو غير محرز في المقام.
المطلب الثاني: ذكره(قده) في مباحثه الفقهيّة ضمن كتاب التنقيح، الجزء الثاني
(بحسب طبعة الموسوعة)، وقد تعرّض له غيرُ واحدٍ من الأعلام أيضاً في مباحث النجاسات و لباس المصلّي.
وحاصله: أنّه لا أقلّ من الشكّ في حقيقة الميتة؛ فإنّ الميتة إمّا أن تكون عبارة عن زهوق النفس المستند إلى سبب غير شرعي ـ وهذا ما اختاره(قده) في مباحث الأصول ـ، أو تكون عبارة عن زهوق النفس غير المستند إلى سبب غير شرعي ـ وهذا أيضاً ما اختاره (قده) في الفقه.
ومع تردد الأمر بين هذين المحتملين لا يحرز مفهوم الموضوع الذي يترتب عليه حكم النجاسة؛ فلا يصحّ التمسك بالأوّل ولا بالثاني لعدم الدليل على تعيين أحدهما.
ومع عدم إحراز موضوع النجاسة، يكون المرجع هو أصالة الطهارة، لسلامتها عن المعارض. وأما أصالة عدم التذكية فهي جارية أيضاً، ولم يقم ما يوجب رفع اليد عنها، فتثبت بها حرمة الأكل. وبذلك تكون النتيجة: أنّ الجلد أو اللحم الملقى حرام من جهة الأكل وطاهر من جهة النجاسة، وهو ما انتهى إليه السيّد الخوئي(قده) في فتواه.
وأمّا الشيخ الوحيد(دام ظلّه)، وهو من تلامذة السيّد الخوئي(قده)، فقد حاول الاعتراض على أستاذه في هذا المبحث، ولا سيّما أنّه من القائلين بمقالة المشهور.
وقد أفاد(دام ظلّه) في مقام المناقشة: أنّ الروايات الواردة في الباب مؤيِّدةٌ لما ذهب إليه المشهور، وأنّ الاعتماد على كتب اللغة في تحديد مفهوم الميتة لا مورد له في المقام، ولا سيّما على مبنى السيّد الخوئي(قده) نفسه؛ إذ سيتّضح لاحقاً أنّ ما ذكره(قده) في كيفية التعامل مع التعريف اللغوي لا ينسجم مع جعل اللغة هي المرجع في تحديد الموضوع الشرعي. وسنعرض لذلك في ما يأتي ليتّضح المقصود.
ولأجل ذلك نقد الشيخ الوحيد(دام ظلّه) كلام السيّد الخوئي(قده) في كلا الوجهين اللذين ذكرهما: ما حرّره في الأصول، وما أفاده في الفقه.
وقد قال (دام ظلّه): "أمّا الوجه الأوّل، فيُردّ عليه: أوّلاً: أنّه مخالف لمسلكه في الأصول؛ أعني اعتبار قول اللغوي من باب الشهادة، لا لكونه من أهل الخبرة"([1] ).
وتوضيح مراده (دام ظلّه): عندنا في المباحث الأصولية ـ في الجزء الثاني منها، لا في مباحث الألفاظ ـ توجد مباحث القطع ومباحث الظن ومباحث الشك، فهذه هي الفهرسة العامة لعلم الأصول. أمّا بالنسبة إلى مباحث القطع، فقد بحث الأعلام فيها ما يترتّب على القطع، وغرضنا من ذلك بيان كيفية الوصول إلى الأحكام الشرعية؛ فإنّ البحث في القطع ناظرٌ إلى ما له دخلٌ شرعي، وهل حجية القطع حجية ذاتية بمعنى أنّنا لا نحتاج إلى الشارع كي يقول: «جعلتُ القطعَ حجّةً»، أو أنّ حجيته اعتبارية بحيث يكون للشارع أن يتدخل؟ فهذا هو المطلب الأوّل.
وأمّا المطلب الثاني، وهو ما يرتبط بالظن، فقد أسّس الأعلام أصلًا مفاده أنّ الأصل في الظن عدم الحجّية، وقالوا: إنّ كشف الظن كشفٌ ناقص، فهذا هو المطلب الثاني. ثمّ انتقلوا إلى البحث عن المخرَجات من هذا الظنّ الذي اعتبره الشارع، فقالوا: إنّ الأصل في الظن عدم اعتباره، ثم ذكروا أنّ هناك ظنونًا قد اعتبرها الشارع، وأبرزها حجية خبر الآحاد. فذكروا الإجماع ـ منه المنقول والمحصَّل ـ وإنْ كان استعمالهم للإجماع المنقول أكثر وأشهر باعتبار أنّه يُنقَل بخبر الواحد، ثم ذكروا الشهرة، ثم بعد ذلك ذكروا الكلام اللغوي، وذلك لوجود معاجم كثيرة نرجع إليها، فإذا رجعنا إليها وذكر لنا أحدُ اللغويين أنّ هذا اللفظ يدلّ على هذا المعنى، فهل يكون ذلك مرجعًا نعتمد عليه أو لا؟
فبعض الأعلام قال: إنّ اللغوي إنّما يُرجَع إليه لكونه من أهل الخبرة، كما يرجع الجاهل إلى غيره من أهل الخبرة. فهذا وجهٌ في المسألة، سواء قبلناه أو لم نقبله.
وقد اختلفت كلمات الأعلام هناك على مبنيين:
الأول: أنّ الرجوع إلى اللغوي من باب كونه من أهل الخبرة، فيكون الرجوع إليه كالرجوع إلى الطبيب أو المهندس في مورد تخصّصه.
الثاني: أنّ الاعتماد عليه من باب الشهادة، أي أنّ اللغوي يشهد بأنّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فيكون قوله من باب البيّنة في باب نقل الوضع.
يرى السيّد الخوئي(قده) أنّ الرجوع إلى أهل اللغة ليس من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، بل من باب الشهادة؛ لأنّ اللغوي ـ في نظره ـ يخبر عن أمرٍ خارجي، وهو الوضع اللغوي، لا عن تحليلٍ صناعي أو خبرةٍ فنية. فإذا كان المدار هو باب الشهادة، فشروط الشهادة ـ بطبيعة الحال ـ تُلزم في المقام؛ إذ الشهادة لا بدّ فيها أوّلاً من كونها حسّية، كأن يقول الشاهد: "سمعتهم أو رأيتهم يضعون اللفظة لهذا المعنى". كما أنّ الشهادة تحتاج ـ ثانياً ـ إلى التعدّد والعدالة، أي وجود بيّنة تتكوّن من شاهدين عادلين . ومع أنّ السيّد الخوئي قَبِل هذا المسلك في الموضوعات الخارجية، إلا أنّ تطبيقه لهذا المبنى في باب المعاني اللغوية لا ينسجم مع ذلك؛ إذ لا يوجد لدينا في المقام شاهدان عدلان، بل مجرّد قولٍ واحد لصاحب المصباح المنير. هذا مع أن العدالة ـ وهي شرط في الشهادة ـ غير محرزة في حقّ الفيّومي، فكيف تُعتمد شهادته في إثبات معنى لغوي تُبنى عليه ثمرة فقهية كالحكم بالنجاسة؟
ثمّ يُضيف الشيخ الوحيد(دام ظلّه) نكتةً ثالثة مهمّة، وهي أنّ اللغوي يُرجَع إليه في موارد الاستعمال، لا في موارد الوضع. وهذا أصلٌ دقيق كثيراً ما يكرّره الأعلام؛ لأنّ البحث في الوضع يختلف جوهراً عن البحث في الاستعمال. فالوضع عبارة عن جعلٍ ابتدائي يُربط فيه اللفظ بالمعنى، وهو فعلٌ اعتباري محض، لا توجد فيه علاقة ذاتية بين اللفظ والمعنى، بل هو من التواضع والاتفاق. ومن هنا بحث الأعلام: مَن هو الواضع؟ وهل هو الله تعالى؟ أم الواضع هم البشر؟ وهل علاقة اللفظ بالمعنى ذاتية كالنار والدخان، أم هي علاقة اعتبارية محض؟ فذهبوا إلى أنّ الألفاظ كلّها اعتباريات نشأت من خلال المواضعة والأوضاع التعينية، كتعلّم الطفل للفظ وربطه بالمعنى الخارجي، ومن هنا نشأت المدارس المختلفة كـ نظرية التعهّد للسيد الخوئي، و نظرية الانعكاس الشرطي للشهيد الصدر،
وغيرها.
وبناءً على ذلك، يتبيّن أنّ أهل اللغة لا شأن لهم بالوضع نفسه؛ أي لا طريق لهم إلى معرفة من وضع هذا اللفظ لهذا المعنى، ولا كيفيته. غاية ما عندهم هو نقل الاستعمالات، وهذه الاستعمالات ـ كما هو معلوم ـ أعمّ من الحقيقة والمجاز، بل قد تغلب الاستعمالات المجازية على الاستعمالات الحقيقية في بعض الموارد. ومن هنا لا يكون قول اللغوي كاشفاً عن الوضع، بل غايته إفادة الظنّ بالمعنى، والظنّ ـ بحسب القاعدة الأولية في مباحث الظن ـ غير حجّة، ما لم يدلّ دليل شرعي خاصّ على اعتباره، والأصل عدم الاعتبار. وعليه: يسقط قول اللغوي في هذا المجال ولا يصحّ الركون إليه في استظهار المعاني التي تترتب عليها الأحكام الشرعية، فلا يصلح أن يكون أساساً لنقض ما فهمه المشهور من الروايات في معنى الميتة.
وهذا الكلام في نفسه كلامٌ عام، إلّا أنّ بعض الأجلّاء يذهبون إلى أنّ كلمات اللغويين لا يُستغنى عنها مطلقاً، ولكن بشرط الرجوع إلى الكتب اللغوية القديمة التي تمثّل أصول الصناعة، لا إلى الكتب المتأخرة كـ المنجد ونظائره. أمّا كتاب العين للخليل، والمقاييس لابن فارس، وما شاكلهما من المعاجم الأصيلة، فهذه يمكن الرجوع إليها؛ إذ لا أقلّ من أنّها تورث حالةً من الاطمئنان، ولا يقال فيها إنّ هذا ينقل عن ذاك بنحوٍ يفقد معه الكشف؛ لأنّ كثيراً من المعاجم المتأخرة يرجع بعضها إلى بعض، فتكون من قبيل النقل الواحد لا المتعدد فمراجعتها لا تورث الاطمئنان . ومن هنا يظهر أنّ هذا البحث ليس بحثاً سهلاً، حتى إذا لم نُحرز طريقاً واضحاً فيه، نرجع إلى العرف وما يفهمه العرف من مفردات الباب.
ثم أفاد الشيخ الوحيد(دام ظلّه) أنّه كما أنّ السيّد الخوئي(قده) رجع إلى أهل اللغة، كذلك نحن نرجع إلى اللغة، ولكن لا بالكيفية التي اعتمدها السيّد الخوئي. فكتاب الصحاح مثلاً عند تعريفه للميتة عبّر عنها بأنّها: ما لم يُذَكَّ، وهذا تعريف عدمي، وهو أيضاً من كتب اللغة المعتبرة. وليس دائماً أنّ الميتة هي "زهاق الروح المستند إلى سبب غير شرعي" ليكون عنواناً وجودياً كما ذكر السيّد الخوئي، بل الميتة في أصلها عنوان عدمي، وهي: ما لم تجرِ عليها التذكية. فالاستصحاب عندئذٍ يجري؛ لأنّ عدم التذكية وصفٌ عدميّ يمكن استصحابه، فإذا كانت الميتة هي "ما لم يُذكَّ" فعدم التذكية بنفسه يحقق موضوع النجاسة ، ولا حاجة لافتراض عنوان
وجودي زائد.
وثانياً: إنّ الروايات نفسها دلّت على أنّ "غير المذكى" هو "الميتة" في لسان الشرع، وهذا الاستعمال الشرعي هو الذي اعتمده المشهور، فكان فهمهم موافقاً للأدلة، لا متوقّفاً على النقل اللغوي فحسب.
وثالثاً: إنّ السيّد الخوئي في مورد الشكّ يرى الرجوع إلى أصالة الطهارة، بدعوى أنّه لا دليل يحرز به الموضوع. لكن الشيخ الوحيد(دام ظلّه) يشير إلى أنّ الشك إنما يُرجع إليه عند فقدان الدليل، والحال أنّه يوجد دليل من اللغة والروايات يعيّن أنّ "الميتة تساوي غير المذكى"، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي. وعليه، فاعتبار المسألة شبهةً مفهومية أو مصداقية تستدعي الرجوع إلى الأصل ليس في محلّه.
وبناءً على ذلك، يظهر من المقدّمة أنّ السيّد الخوئي لا يلتزم بأنّ الميتة هي "غير المذكى"، بينما الشيخ الوحيد جزم بذلك، لا كما أفاد السيّد الخوئي في الترديد بقوله: إذا شككنا… إلخ. بل الشيخ الوحيد يرى أنّ الميتة هي عدم المذكى، وعليه لا نلجأ إلى الشك في حلّ الإشكال.
وبالنتيجة خلص الشيخ الوحيد(دام ظلّه) إلى أنّ قوله مطابقٌ لقول المشهور، ومخالفٌ لما ذهب إليه السيّد الخوئي والفاضل التوني، سواء في تصوير الموضوع أو في طريقة تطبيق الأصول العملية على المورد.
قال الشيخ الوحيد(دام ظلّه) في مناقشته لمسلك السيّد الخوئي(قده) في حجّية قول اللغوي :
"ويُشترط في الشهادة العدالة والتعدّد، وكلاهما مفقودان في المقام؛ لعدم ثبوت عدالة صاحب المصباح المنير، ولا تعدد في البين. وثانياً: سَلَّمْنا العدالة والتعدّد، إلا أنّ شأن اللغوي هو بيان موارد استعمال اللفظ في اللغة، لا بيان موضوعاته".
وبيان ما ذكره بعبارة أخرى؛ أنّ السيّد الخوئي بنى على أنّ الميتة عنوان وجودي استناداً إلى ما ذكره صاحب المصباح المنير، بينما يرى الشيخ الوحيد أنّ ما يذكره اللغوي ليس من باب تشخيص الوضع بل من باب الاستعمال. والاستعمال لا يكشف عن الوضع؛ لأنّ المستعمل قد يستعمل اللفظ في المعنى الحقيقي وقد يستعمله في المجاز، فلا طريق لنا إلى معرفة أنّ "الميتة" موضوعة لكذا، أو أنّها مستعملة فقط في هذا المورد.
ومن هنا يقول الشيخ الوحيد: من أين علمنا أنّ المراد من "الميتة" في نصّ المصباح المنير هو زُهُوق الروح المستند إلى سبب غير شرعي؟ فهذا مجرّد استعمال، لا يُثبت أنّ هذا هو المعنى الموضوع له. والاستعمال ـ حتى لو وافقناه عليه ـ لا ينفعنا في باب الوضع، لأنّ المطلوب عند التحقيق هو المعنى الموضوع له الذي تترتّب عليه الأحكام الشرعية، ولا يكفي مجرد موافقة استعمال لغوي.
إلّا أن يُقال: إنّ القرآن الكريم نفسه لم يتصدّ لبيان الوضع اللغوي، بل استعمل المفردات في موارد استعمالٍ عرفي، شأنه شأن سائر النصوص. فإذا اكتفينا بالاستعمال القرآني فحينئذٍ ينقطع البحث في أصل الوضع، لا لثبوت الوضع، بل لأنّ النصّ الشرعي ليس من شأنه بيان الموضوع له، بل بيان موارد استعمالٍ جارية عرفاً، فيكون نفس الاستعمال الشرعي هو المرجع الأخير.
وبهذا يتّضح أنّ الشيخ الوحيد(دام ظلّه) يريد أن يبيّن خللاً جوهرياً في مبنى السيّد الخوئي؛ إذ إنّ اعتماده على مصباح المنير لا يمكن قبوله. ثم أردف (دام ظلّه) قائلاً: "وليس شأن اللغوي بيان المعنى الموضوع له اللفظ"، بل غاية ما يذكره إنما هو موارد الاستعمال. وبذلك يظهر أنّ الرجوع إلى أهل اللغة لا يكشف لنا إلا
الاستعمالات، ولا يدلّ على الوضع .
ومن هنا اتجه البعض من الباحثين إلى دراسة جذور الكلمات وتتبع تصريفاتها؛ لأنّ الجذر في الغالب هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي، بينما تتشعّب منه الاستعمالات المختلفة لاحقاً.
ثم قال (دام ظلّه): "وعلى هذا فربما يكون ما ذكره المصباح المنير من معنى الميتة إنما هو أحد مصاديق المعنى الموضوع له اللفظ، لا نفس المعنى الحقيقي".
وعليه، فالمعنى الذي أورده صاحب المصباح لا يُثبت أنّه هو المعنى الموضوع له، بل لعلّه لا يعدو كونه مصداقاً من مصاديق الميتة، ونحن نسلّم بذلك؛ إذ إنّ بعض مصاديق الميتة هو موت الحيوان حتف الأنف، وبعضها وقوعه من شاهق، وبعضها غير ذلك من أسباب زهاق الروح. أمّا المعنى الموضوع له لفظ "الميتة" فإلى الآن غير واضح بنحوٍ يمكن الجزم به اعتماداً على كتب اللغة وموارد الاستعمال. ثم أفاد (دام ظله): بل إن السيد الخوئي ذهب إلى ذلك في الأصول، فقال: "إلى أن شأن اللغوي هو ذكر موارد الاستعمال لا الموضوع له اللفظ" ([2] )ثم
قال (دام ظلّه) بعد فاصلة: "إنّ قدماء اللغويين إلى المحدثين كصاحب القاموس، وصاحب الصحاح من المتقدمين واقرب الموارد وغيرهم عرّفوا الميتة بأنّها: ما لم تلحقه الذكاة. وهذا معنى عدمي لا وجودي، فيتحقق بجريان استصحاب عدم التذكية."
تنبيه: إنّ توصيف هذا المعنى بأنّه أمر وجودي أو أمر عدمي هو من تشقيقات أهل المعقول والأصوليين، لا من شؤون أهل اللغة. فاللغويون لم يكونوا في مقام بيان ما يترتب على اللفظ من آثارٍ شرعية أو فلسفية، ولم يقصدوا بالمعنى الذي ذكروه أنّه وجودي أو عدمي، بل اقتصرت وظيفتهم على نقل الاستعمال اللغوي وتعريف ما يتداول بين العرب. ومن ثَمّ لا يصحّ مؤاخذة أهل اللغة على أساس مباحث أهل المعقول؛ لأنّهم لم يكونوا بصدد تلك الدقائق، ولا أرادوا بيان المعنى بما ينسجم مع تقسيمات الوجود والعدم، بل هم بصدد إعطاء الحدّ اللغوي أو أقرب ما يفهمه السامع من اللفظ في محيط الاستعمال.
نعم، إنّ أهل اللغة ـ مع أنّهم غير معنيّين بتقسيم المعاني إلى وجودية وعدمية ـ إلا أنّ بعض اللغويين المدقّقين عندهم زيادةٌ في تحرير المعنى وتوضيحه، بحيث تختلف طريقة بيانهم عمّا نجده في الكتب المتأخرة. فالذي يقرأ كتاب العين للخليل ـ على سبيل المثال ـ يجد عمقاً ودقةً في بيان أصل الجذور ومواقع الاستعمال، يختلف تماماً عمّا يراه في المنجد وأمثاله من المعاجم المتأخرة. ومثل ذلك المقاييس لابن فارس الذي يُعنى بتتبع الجذر ومعانيه الكلية، بخلاف كتب المعاصرين التي تكتفي بذكر المعاني المتداولة بلا بحث في أصولها.
ومع هذا كلّه تبقى وظيفة اللغويين ـ مهما بلغت دقتهم ـ محصورةً في نقل الاستعمالات وبيان وجوهها، لا في بيان الموضوع له ولا في تحليل حقيقة المعنى بنحوٍ فلسفي أو أصولي كما يطلبه الفقيه في مقام استنباط الحكم الشرعي.
ثم قال (دام ظلّه): "وأمّا دليله الثاني، فلو وصلتِ النوبةُ إلى الشك لتمّ كلامه، ولكن ـ وهو محلّ الاستدراك ـ أنّ الأدلّة قد صرّحت بأنّ المراد من الميتة هو ما ليس بمذكى."
فبذلك لا يبقى مجالٌ للرجوع إلى الشكّ، ولا تصل النوبة إلى الأصول العملية؛ لأنّ الموضوع ـ بحسب ما دلّت عليه الروايات واللغة المعتبرة ـ محرزٌ، فلا يقع التردّد الذي فرضه السيّد الخوئي(قده) بين المعنيين الوجودي والعدمي.
وللكلام بقيةٌ تأتي لاحقاً إن شاء الله تعالى.
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]