« فهرست دروس
الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/05/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب الكلي /الاستصحاب الكلي

كان الكلامُ في الإشكالَين اللذَين ذكرهما الشيخُ مجتبى الطهراني (قده) في مناقشته لجواب المحقق النائيني (قده) عمّا أُورد من إشكال على الشيخ الأعظم (قده) في جريان استصحاب الكلي من القسم الثالث.

وخلاصةُ ما أفاده المحقق النائيني في جواب الإشكال : أنّ المثال الذي ورد في الإشكال له خصوصية تقتضي الاكتفاءَ بالوضوء لمن قام من النوم ، وإن احتمل الجنابة. وذلك : لأنّ الآيةَ المباركة قد فصّلت بين موضوعَي الوضوء والغسل فجعلت النومُ سببٌ للوضوء ، والجنابةُ سببٌ للغسل ، وهذا التفصيلُ قاطعٌ للشركة، بمعنى أنّ موضوع الوضوء ينبغي أن يكون مركب من النوم (الحدث الأصغر) ومن عدم الجنابة فمن أحدث بالنوم ولم يكن جنبا وجب عليه الوضوء دون الغسل، و من أجنب وهو نائم فعليه الغسل دون الوضوء.

وعليه، فإذا استيقظَ المكلّفُ من النوم واحتمل الجنابة كما في المثال فقد تحقّق في حقّه أحد جزئي موضوع الوضوء وهو النوم وجداناً، وبما ان الجنابةُ مشكوكٌ فيها، فيُحرز عدمُها بالأصل، فيتحقق بذلك الجزء الآخر من الموضوع فيجب الوضوء في حقه وبعبارة أخرى قد تحقق في حقه موضوع الوضوء المركب من الأمرُ الوجودي المحرز بالوجدان وهو النوم والأمرُ العدمي المحرز بالأصل، وهو عدم الجنابة فيجب عليه الوضوء دون الغسل.

بل أن الحكم بوجوب الغسل مع الوضوء في المثال يلزمه الحكم بكون المكلف غير مجنب و مجنباً في الوقت نفسه وهذا عين اجتماعُ النقيضين.

وأورد عليه الشيخُ مجتبى الطهراني (قده) بإشكالين. وقد تقدّم منّا الجوابُ عن الإشكال الثاني .

وخلاصة اشكاله : أنّ التناقض لا يجري في الأمور الاعتبارية، وقد بيّنا أنّ هذه المسألة مبنائية، وقد تصدّى سيدنا السيستاني (دام ظلّه) لبيان المبنى الصحيح فيها، فأفاد أنّ الأمورَ الاعتبارية يجري فيها التناقض كما يجري في الأمور الواقعية، إذ إنّ مبدأَ استحالة اجتماع النقيضين أصلٌ عامٌّ يسري في جميع العلوم، سواء تعلّقت بالواقعيات أو بالاعتباريات. وبهذا الجواب يُندفع الإشكالُ المذكور وبه ايضا يندفع القول بعدم جريان التناقض في الاعتباريات، كما هو مذهب صاحب الجواهر وشيخنا الأستاذ الشيخ الفياض (دامت بركاته). هذا ما كان من أمر الإشكال الثاني للمحقق الطهراني والكلام الان في دفع أشكاله الأول والذي خلاصته ان ما استفاده المحقق النائيني من كون موضوع الوضوء مركب من النوم وعدم الجنابة وذلك بالاستناد الى المقابلة والتفصيل في الآية الكريمة بين الوضوء والغسل غير صحيح وتطبيق للاية في غير موردها والوجه في ذلك: أنّ الآيةَ الشريفة بصدد بيان تعدد الشرط وتعدد الجزاء فهي تشبه المثالَ العرفي القائل: "إن جاء زيدٌ فأكرِمه، وإن جاء عمروٌ فأهنِه"، حيث إنّ لدينا جملتين شرطيتين مستقلتين، كلٌّ منهما مركّبة من شرطٍ وجزاءٍ، ولا ترتبط إحداهما بالأخرى، فلا اكرام زيدٍ متوقفٌ على عدمِ مجيءِ عمرو، ولا العكس. فكلّ شرطٍ له مقتضاه وجزاؤه الخاصّ، فإذا جاء زيدٌ أُكرم، وإذا جاء عمرو أُهين، وإن اجتمعا فكلٌّ منهما يترتب عليه حكمُه بلا تمانع.

وعلى هذا تكون الآية الكريمة كما يرى الشيخ الطهراني دالة على أن النوم سبب للوضوء والجنابة سبب للغسل فيكون مفاد الآية : "إذا كان محدثاً بالأصغر توضأ، وإذا كان محدثاً بالأكبر اغتسل"، فكلّ سببٍ له أثرُه المستقلّ، ولا تمانع بين الحدثين في أنفسهما. ثمّ أضاف (قده) : بانه لو كنّا وهذه الآية فقط، ولم تَرِدْ أدلّةٌ أخرى تدلّ على عدم جواز اجتماع

الوضوء مع الغسل، لأفتينا بجواز اجتماعهما، إذ لا مقتضي للمنع بالنظر للاية الكريمة.

وببيانٍ أوسع: إنّ الشيخَ مجتبى الطهراني (قده) أراد أن يُبيّن من خلال المثال العرفي وجهَ الشبه بين المثال وبين مفاد الآية المباركة. فلدينا أمران: المثال الذي ذكره، والآيةُ القرآنية التي فُسِّرت بالقيام من النوم فالمراد من قوله تعالى : "إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ" أي إذا قمتم من النوم، فيكون موردها الحدثُ الأصغر، كما أنّها تضمّنت أيضاً ذكرَ الجنابة، وهي الحدثُ الأكبر.

فشبّه الشيخُ الطهراني المذكور في الآية بالمثال العرفي القائل: "إن جاء زيدٌ فأكرِمه، وإن جاء عمروٌ فأهنِه". ففي المثال، مجيءُ زيدٍ سببٌ للإكرام، فمجيء زيد سبب مستقلّ، للاكرام كما أنّ مجيءَ عمرو سببٌ مستقل للإهانة، ولا ارتباط بين المجيئَين ولا بين جزائِهما. وعلى هذا فيكون مفاد الآيةُ الكريمة: إذا حصل النوم ـ أي حصل الحدثُ الأصغر ـ فعليه الوضوء، وإذا حصلت الجنابة فعليه الغُسل، فكلٌّ منهما سببٌ مستقلّ له أثرُه الخاصّ، ولا تلازم بينهما وجوداً أو عدماً.

ومن هنا يتساءل الشيخُ الطهراني (قده): من أين جاء القولُ بأنّ الإكرامَ في المثال العرفي مشروطٌ بعدم مجيءِ عمرو؟ وكذلك من أين جاء الاشتراطُ بأنّ الوضوءَ لا يكون إلاّ مع عدم الجنابة؟! فكما لا وجهَ لجعل العلاقة بين المجيئين في المثال العرفي علاقةَ تضادّ أو أن عدم احدهما شرط لترتب الجزاء على الاخر ، كذلك لا وجهَ لاشتراط الوضوء بعدم الجنابة في الاية، بل لكلٍّ منهما موضوعُه وحكمُه المستقلّ.

وقد تَعقّبَ سيدنا السيستاني (دام ظلّه) ما أفاده الشيخُ الطهراني (قده)، وبيّن أنّ المثالَ الذي ذكره لا ينسجم مع مفادِ الآيةِ المباركة، بل المثالُ الموافق لها هو غيرُه تماماً.

وافاد (دام ظلّه): بإنّ المثالَ الصحيح المقابلَ لما ذكره الشيخُ الطهراني هو نحوُ قوله: "إن جاء زيدٌ فأعطِهِ غنماً، وإن جاءك زيدٌ مع عمرو فأعطِهِ إبِلاً".

فهذا المثالُ ـ بحسب الفهم العرفي ـ يُفهم منه أنّ المجيءَ الأوّلَ في الشرطية الأولى مقيَّدٌ بعدم المجيء مع غيره، لأنّه إن جاء زيدٌ منفرداً استحقّ الغنم، أمّا إن جاء منضمّاً إلى غيره ـ كعمرو ـ فله الإبل. فالموضوع في الجملتين واحدٌ وهو "مجيء زيد"، إلا أنّه يُؤخذ في إحداهما مطلقاً، وفي الأخرى مقيّداً بقيد الانضمام، فتكون النتيجة أنّ مجيءَ زيدٍ منفرداً غيرُ مجيئه منضمّاً إلى غيره، وإن اشتركا في أصل العنوان.

ثم انه وبالنظر لما تقدم تبقى المسألةُ موضعَ بحثٍ: فهل الآيةُ الكريمةُ أقربُ في دلالتها إلى ماذكره الشيخ الطهراني من مثال بحيث لا ارتباط بين الشرطيتين وعليه فلا يصح ما ذهب إليه المحقق النائيني(قده) من الاستدلال بالآيةِ على تركب موضوع الوضوء من القيد الوجودي (النوم) والقيد العدمي(عدم الجنابة) وان موضوع وجوب الوضوء لا يجتمع مع الجنابة لتقيده بعدها

أم هي أقرب إلى ماذكره سيدنا السيستاني، من مثال حيث يوجد ارتباط ما بين الشرطيتين فيصح ما أفاده المحققَ النائيني؟ والمشكلة لم تُحسم بعد، وتحتاج إلى تحقيقٍ أدقّ في مفاد الآية.

والتحقيق إنّ التامل في الآية يقتضي أن تكون أقرب إلى المثال الذي ذكره سيدنا السيستاني (دام ظلّه). وذلك لأنّ مقدم الشرطية الأولى فيها هو القيام من النوم وذلك بمعونة موثقة ابن بكير التي فسرت قوله تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة" بالقيام من النوم. ومقدم الشرطية الثانية فيها القيام من النوم ايضا ولكن بشرط الجنابة . اي الاحتلام فتصير النسبة بين الشرطيتين كالنسبة ما بين الشرطيتين في المثال الذي ذكره السيد السيستاني: "إن جاء زيدٌ فأعطِه غنماً، وإن جاء زيدٌ مع عمرو فأعطِه إبِلاً"و يُفهم من ذلك عرفاً أنّ المجيءَ الأوّل مشروطٌ بعدم الانضمام .

فيكون مفاد الشرطيتين في الآية : إذا قام المكلف من النوم ولم يكن جنباً، فعليه الوضوء،

وأمّا إذا قام وهو جنب فعليه الغسل، فيُفهم منها أنّ موضوع الوضوءَ مقيدٌ لُبّاً بعدم الجنابة.

نعم القول بكون مفاد المقدم في الشرطية الثانية مركب من النوم والجنابة اي : "إذا قمتم من النوم وكنتم جنباً" لا يستفاد من الآية صريحاً، بل بملاحظة أنّ الجنابة تتحقَّق بأمرين: إمّا بنزول المني أثناء النوم أعني الاحتلام ، أو بملامسة النساء، وبما ان الاية قد ذكرت "ملامسة النساء" بعد ذلك في قوله تعالى﴿: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾، فيكون المراد من قوله ان كنتم جنبا خصوص الاحتلام بقرينة المقابلة بين الجنابة وملامسة النساء وعلى هذا يكون المراد ان القيام من النوم على نحوين قيام مع عدم الجنابة فيجب على المكلف حينئذ الوضوء وقيام مع الجنابة فيجب عليه حينئذ الغسل فالمقدم في كلا الشرطيتين هو القيام من النوم الا ان الثاني مقيد بقيد زائد وهو الجنابة .

ومن هذا يتبيّن أنّ المقابلةَ بين الحدثين هي كما أفادها المحققُ النائيني ، وبخلاف ما أفاده الشيخُ الطهراني، إذ جعل الشرطيتين مستقلتين بلا ارتباطٍ بينهما، بينما الآيةُ المباركة ظاهرةٌ في التقييد والارتباط.

ولذلك كان المحققُ النائيني ملتفتاً إلى دقّةِ هذا الارتباط.

والنتيجة فما أجاب به سيدنا السيستاني (دام ظلّه) على الإشكال الذي أورده الشيخُ مجتبى الطهراني (قده) تام و واضح جدا وهو المستفاد من الآية قال (دام ظله):

"والجواب عنه: إنّ الآيةَ الكريمة ليست كالمثال المذكور، بل هي من قبيل إضافةِ شرطٍ إلى شرطٍ آخر، فلو قيل مثلاً: (إن جاءك زيدٌ فأعطِه غنماً، وإن جاءك مع جماعةٍ فأعطِه ابلا)، فإنّ موضوعَ الشرطيةِ الثانية هو نفسُ موضوعِ الشرطيةِ الأولى إلا أنّه مع أمر زائدٍ. وفي مثل ذلك لا محيص من تقييد الشرطية الأولى بعدم تحقق الشرطية الثانية، وإلا لكان الجزاءُ هو الجزاءَ الثاني لا الأول.([1] )"

ثمّ اضاف (دام ظلّه) : "وأمّا كونُ الآيةِ المباركة من هذا القبيل، فلأنّ المرادَ من القيام هو القيامُ من النوم، كما هو الظاهر، وكما دلت عليه موثقةُ ابن بكير، وبقرينةِ ذكرِ الفردِ الآخر من الحدث الأصغر بعد ذلك، أي قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ). والمرادُ بالجنابة - في الشق الأول- هو خصوصُ الاحتلام، بقرينةِ ذكرِ الملامسة أيضاً بعد ذلك. فالنتيجة أنّ القيامَ من النوم على وجهين: أحدهما: أن يكون الإنسانُ جنباً، فيجب عليه الغسل. وثانيهما: أن لا يكون جنباً، فيكفيه الوضوء. فموضوعُ الشرطيتين واحدٌ، وهو القيامُ من النوم، وإنّما أُضيف في الشرطية الثانية شرطٌ آخر، وهو الجنابة، فيندرج هذا ضمن المثال المذكور، وتكون الشرطيةُ الأولى مقيّدةً بعدم تحقق الشرط الزائد في الشرطية الثانية."

وخلاصةُ مقصوده (دام ظلّه): أنّ الآيةَ المباركة ليست من قبيل تعدّد الشرطيات المستقلة، كما ظنّه الشيخُ الطهراني، بل هي من قبيل الشرطيتين المتداخلتين موضوعا، بحيث يكون موضوع أو مقدم الثانيةُ نفس الأولى الا انه متضمّن شرطاً زائداً فيلزم تقييدُ موضوع الأولى بعدم تحقّق الشرط في موضوع الثانية.

وبهذا فيكون السيد السيستاني (دام ظلّه) قد أجاب عن كلا إشكالي الشيخ الطهراني ؛وبيّن أنّ المثال الذي اعتمد عليه الطهراني غيرُ منطبقٍ على مفاد الآية، بل أنّ مفاد الآية منسجمٌ تماماً مع البناء الذي قرّره المحقق النائيني، وإن موضوع الوضوءُ مشروطٌ بعدم الجنابة، وإن الغسلُ مترتّبٌ على تحققها، ولا يمكن الاجتماعَ بينهما.

وللكلام بقية..

[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]

 


[1] - تقريرات الاستصحاب بقلم السيد مرتضى المهري (ص109).
logo