47/05/04
الاستصحاب الكلي/الاستصحاب الكلي /الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب الكلي /الاستصحاب الكلي
مازال الكلام في الجواب الخامس الذي ذكره الميرزا الزنجاني (قده) في تحرير الأصول، وقد تقدّم أنّه اشتمل على مطلبين.
المطلب الأوّل: في بيان رأيه، وقد مضى الكلام فيه تفصيلاً. وخلاصته: أنّ المثال الذي ذكروه لتوضيح محلّ الاشكال في استصحاب الكلّي لا تترتّب عليه ثمرة عمليّة؛ لأنّ كليّ الحدث ليس هو محلَّ الأثر الشرعي بنظر الشارع المقدّس، وإنّما الآثار مترتّبة على الأحداث الخاصّة بعناوينها المتميّزة، كالبول والنوم والجنابة ونحوها، فهي التي تكون موضوعاً للأحكام من وجوب الطهارة أو الغُسل أو نحو ذلك.
وعليه، فسواء بُني الأمر على مقالة الشيخ الأعظم (قده) في جريان الاستصحاب في المثال، أم على مقالة المشهور القائلين بعدم جريانه، فإنّ المورد خارجٌ عن محلّ البحث تخصّصاً لا تخصيصاً، إذ لا مورد للاستصحاب في ما لا أثر له شرعاً.
ومن هنا، يظهر أنّ ما ذكره الميرزا الزنجاني (قده) يتفق مع ما ذكره سيدنا الأستاذ الحكيم
(قده) في أنّ كليّ الحدث بما هو كليّ ليس محطّاً لترتّب الآثار، بل المدار في ترتّب الأحكام على الأفراد الخاصّة التي قامت الأدلة الشرعية على ترتّب آثارها بالخصوص .
ثمّ حاول الميرزا الزنجاني (قده) أن يتبرّع بتقريب آخر للمثال، فقال: إنّ المثال السابق يمكن استبداله بفرضٍ آخر أوضح في ترتّب الأثر، وذلك في موارد الخبث، لا الحدث؛ لأنّ النجاسة ـ بخلاف الحدث ـ لم تُلحظ فيها خصوصيّة نجاسةٍ معينةٍ في الثوب النجس، بل العنوان الكلّي للنجاسة هو الموضوع لترتّب الأثر الشرعي، وهو مانعيّة النجاسة عن الصلاة.
وبيانه: أنّه لو تيقّن المكلّف بنجاسةِ موضعٍ من الثوب، ثمّ طهّره، وكان يحتمل في عين زمان تلك النجاسة المتيقّنة نجاسةً أُخرى في موضعٍ آخر من الثوب، فحينئذٍ ـ بناءً على جريان الاستصحاب ـ يُحكم ببقاء النجاسة في الثوب، لعدم إحراز طهارته بعد احتمال نجاسةٍ ثانيةٍ مقارِنةٍ للأُولى، فلا يجوز له الصلاة فيه إلا بعد حصول اليقين بالطهارة.
وأمّا على القول بعدم جريان الاستصحاب في مثل هذا الفرض، فلا مانع من الحكم بالطهارة بعد إزالة النجاسة المتيقّنة، إذ لا مقتضي للاعتناء بالنجاسة المحتملة، فيجوز للمكلّف الصلاة في الثوب بعد تطهير الموضع المعلوم نجاسته.
وهذا هو خلاصة ما أفاده (قده) في تقريب المثال البديل.
ثمّ إنّ الميرزا الزنجاني (قده) انتقل إلى مناقشة أستاذه المحقّق النائيني (قده)، وقد تعرّض له بعدّة مناقشات.
وقبل بيان وجه المناقشة، لا بُدّ من استعراض أصل ما ذكره المحقّق النائيني (قده) في المقام، ليتّضح وجه الإشكال عليه بصورة دقيقة.
ذهب (قده) إلى أنّ المثال الذي ذُكر في محلّ البحث لا تترتّب عليه ثمرة عمليّة، وبيان ذلك: أنّ الآية الشريفة في سورة المائدة ـ قد قابلت النوم بالجنابة، كما قابلت الوضوء بالغُسل، وهذه المقابلة تدل على التفصيل بين الحدثين؛ إذ أعطت الآية حكماً خاصّاً للنوم، وحكماً آخر للجنابة، فدلّ ذلك على أنّ بينهما مغايرةً تامّة، وأنّ التفصيل قاطعٌ للشركة، فلا يجتمع الوضوء مع الغسل .
ومن هنا استظهر (قده) أنّ وجوب الوضوء متقوّم بشرطين: شرطٍ وجودي، وهو تحقّق النوم ؛وشرطٍ عدمي، وهو عدم الجنابة.
فالمكلّف متى تحقّق منه النوم وجدانا كما في المثال، وتحقق منه عدم الجنابة ولو بالأصل ،
وجب عليه الوضوء. فموضوع الوضوء مركّب من أمرٍ وجوديٍّ وهو النوم، ومن أمرٍ
عدميٍّ وهو عدم الجنابة.
وبناءً على ذلك، لا تترتّب الثمرة على المثال الذي ذُكر في معرض الإشكال على القول باستصحاب الكلي، من القسم الثالث إذ في مورد القيام من النوم و الشكّ في الجنابة يجري استصحاب عدمها، فيتحقق موضوع الوضوء المركب، ويجوز له بعد الوضوء الإتيان بكلّ ما هو مشروط بالطهارة .
ونعود بعد هذا إلى ما ذكره الميرزا الزنجاني (قده) من مناقشة وتقدم انه ذكر أكثر من مناقشة اما المناقشة الأولى فهي أنّه وإن وافق استاذه في أصل الكبرى، وهي عدم ترتّب الثمرة على المثال المذكور، إلّا أنّه خالفه في التطبيق، وافاد بأنّ الثمرة وإن لم تترتّب على المثال بالصورة التي ذكرها أستاذه، إلّا أنّها تترتّب على عكسها.
توضيح ذلك: لو فُرض أنّ المكلّف أحرز الجنابة، فاغتسل بقصد رفعها، ولكنّه احتمل صدور الحدث الأصغر منه مقارناً لرفع الجنابة، فهنا قد تحقّق منه الحدث الأكبر قطعاً، وارتفع بالغُسل، غير أنّه يشكّ في بقاء الكلي لحدوث الحدث الأصغر في أثناء زوال الجنابة بالغسل.
فعلى هذا، يكون الغُسل رافعاً للجنابة جزماً، ولكنّه غير رافعٍ لكلي الحدث المحتمل
الحدوث، فيجري حينئذٍ استصحاب كليّ الحدث، بناءً على ما أفاده الشيخ الأعظم (قده) من جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من القسم الثالث، لأنّ الكلّي (وهو الحدث) قد تحقّق في ضمن الجنابة المتيقّنة، ويُحتمل تحقّقه في ضمن حدثٍ أصغر، فبعد ارتفاع الفرد الأوّل المعلوم (الجنابة)، يشكّ في بقاء الكلّي لاحتمال حدوث فردٍ آخر (الحدث الأصغر) مقارن لرفع الحدث الأكبر ، فيستصحب الكلّي.
وعليه، فبناءً على القول بجريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثالث، يجب على المكلّف بعد الغُسل أن يتوضّأ أيضاً، لأنّ احتمال الحدث الأصغر لم يُرفع ، فيستصحب بقاء الكلّي. أمّا بناءً على عدم جريانه، فيكفيه الغُسل فقط، ولا يجب عليه الوضوء.
ثم نبه الميرزا الزنجاني (قده) إلى أنّه لا يوجد من الفقهاء من يقول إنّ شرط الغُسل هو عدم الحدث الأصغر، بمعنى أنّ من أجنب وتوضّأ لا يصحّ منه الغسل! بل الجميع متّفق على أنّ تحقّق الجنابة يستتبع وجوب الغُسل سواء كان هناك حدث أصغر أم لم يكن، فلا يُتصوّر في باب الغُسل تركيب موضوعه من أمرٍ وجوديٍّ (الجنابة) وأمرٍ عدميٍّ (عدم الحدث الأصغر)، كما مر في الوضوء، حيث إن موضوعه مركّب من أمرٍ وجوديٍّ (الحدث الأصغر) وأمرٍ عدميٍّ (عدم الجنابة).
فإذا كان التفصيل الذي ذكره النائيني (قده) قاطعاً للشركة في المثال الذي صوره (أي بين الوضوء والغُسل)، فإنّه ليس قاطعاً لها في المثال بتصوير الزنجاني ، أي في عكس الصورة الاولى.
وبهذا يظهر أنّه على مبنى الشيخ الأعظم (قده) من جريان استصحاب الكلّي، تترتّب ثمرة عملية واضحة، وهي: من يقول بمقالة الشيخ الأعظم يوجب على المكلف الوضوء بعد الغُسل، وأمّا على من يقول بعدم جريان الاستصحاب في هذا الفرض، فيكتفي بالغُسل دون وضوء.
فبهذا تتمّ المناقشة الأولى التي وجّهها الميرزا الزنجاني (قده) إلى المحقّق النائيني (قده)، وهي مناقشة دقيقة قائمة على عكس ما فرضه أستاذه وذلك لإثبات ترتّب الأثر على المثال المذكور في الإشكال .
قال (قده) مانصه: "فنقول يرد عليه « أولا » ان ثمرة جريان الاستصحاب وعدمه في القدر المشترك - الكلي الذي قال به الشيخ الأعظم - وان كانت لا تظهر في الفرض المذكور - اي المثال المتقدم - إلّا انها تظهر في عكس ذلك الفرض ، كما إذا علم المكلف بحدوث حدث الجنابة له فاغتسل منها واحتمل حدوث الحدث الأصغر له مقارنا لزوال الحدث الأكبر ، وحينئذ فان قلنا بجريان الاستصحاب في القسم الثالث لزم الحكم بوجوب الوضوء وعدم جواز المس ونحوه بدونه - الوضوء وان قلنا بعدم جريانه - الاستصحاب - فلا يجب ذلك ولا يتم في هذا الفرض ما افاده « ره » من تركب موضوع الوجوب من جزءين بمقتضى قاطعية التفصيل للشركة لأنه وان كان كذلك في الوضوء إلّا انه لا يمكن القول بتركب موضوع وجوب الغسل أيضا من امرين أحدهما وجودي - وهو حدوث حدث الجنابة - والآخر عدمي - وهو عدم حدوث الحدث الأصغر - ولم يقل به أحد ، وذلك لأن مقتضى الأدلة وفتاوي الأصحاب وجوب الغسل عن حدث الجنابة مثلا ، سواء قارن الحدث الأصغر أم لا، وكونه رافعا لكليهما في فرض المقارنة وحينئذ يتوجه ظهور الثمرة لجريان الاستصحاب وعدمه في القدر المشترك من الحدث للقطع بعدم ارتفاع الحدث الأصغر على تقدير تحققه مقارنا لزواله بذلك الغسل المزيل للأكبر"([1] ).
توضيح مراد الميرزا الزنجاني (قده): ويتّضح مراده من خلال تحديد محلّ الثمرة التي أنكرها النائيني. فهو (قده) يرى أنّ الثمرة التي نفاها النائيني إنّما لا تترتّب في الفرض المذكور عنده، أي فيما إذا تيقّن المكلّف بالحدث الأصغر واحتمل وجود الحدث الأكبر مقارناً له، وذلك لأنّ موضوع الوضوء ـ كما قرّر النائيني ـ مركّب من أمرٍ وجوديٍّ ، وهو نفس الحدث الأصغر، وأمرٍ عدميٍّ ، وهو عدم الجنابة، فبمجرّد إحراز هذين الأمرين يثبت وجوب الوضوء، ولا حاجة حينئذٍ إلى الغسل، لانتفاء الدليلٍ على اعتباره في هذا الفرض وهذا بخلاف ما فرضه هو من مثال فيمكن ترتب الثمرة .
ولابد من تصوير محلّ الكلام بشكلٍ واضح حتى يتضح ورود الإشكال على المحقق النائيني ام لا : فنقول إن محل الكلام هو الشق الأوّل من القسم الثالث من استصحاب الكلي والذي اختار الشيخ الأعظم جريان الاستصحاب فيه هو ما إذا كان الفرد المشكوك (الحدث الأكبر) مقارناً لوجود الفرد المعلوم الارتفاع (الحدث الأصغر)، لا ما إذا كان مقارناً لزواله. فالصورة الصحيحة للمثال المذكور في الأشكال هي أن يتيقّن المكلّف بالحدث الأصغر، ويحتمل معه أي في زمان وجوده حدوث الجنابة، فحينما يتوضّأ لرفع الحدث الأصغر، يشكّ في بقاء الكليّ (الحدث الجامع)؛ لاحتمال وجود فردٍ آخر له مقارنٍ للفرد المتيقّن، وهو الحدث الأكبر.
فعلى مبنى الشيخ الأعظم، يجري استصحاب الكليّ في مثل هذا الفرض، فيُحكم
بوجوب الغسل بعد الوضوء. فهذا هو المثال الذي دار حوله البحث.
وهذه هي الصورة التي ناقش المحقّق النائيني (قده) فيها المثال المذكور في الإشكال وأجاب عنه، بعدم ترتب الثمرة العملية على المثال المذكور سواء قلنا بجريان الاستصحاب أم لا وذلك بالنظر إلى خصوصية المثال فإن الوضوء بحسب الآية الشريفة، حيث دلت على التفصيل ومقابلة الوضوء للغسل والتفصيل قاطعٌ للشركة، أي إنّ الشارع فصل بين مورديهما حكماً وموضوعاً، فجعل الوضوء خاصّاً بما إذا لم يكن هناك جنابة، فبناءً على هذا التفصيل لا يترتّب أثر لاستصحاب الكليّ.
وأما ما ذكره الميرزا الزنجاني (قده) من مثال في مناقشته لاستاذه وهو عكس المثال السابق فلا يَرِدُ على الشيخ الأعظم (قده)، من اول الأمر لأنه غير ناظر إلى ما فرضه الشيخ الأعظم، موردا لجريان الاستصحاب من القسم الثالث ولم يلتزم الشيخ الأعظم بجريان الاستصحاب في مثل هذا الفرض .
والحاصل فإن المحقق النائيني نَظَر إلى ما هو المفروض عند الشيخ الأعظم من تحقق اليقين بالحدث الأصغر واحتمال مقارنة الحدث الأكبر له، وبعد اليقين بارتفاع الأصغر يشك ببقاء الكلي لتحققه في ضمن الحدث الأصغر المحتمل الوجود مع الحدث الأكبر وأما في فرض احراز المكلّف الجنابة، ثمّ احتمال حدوث الأصغر في زمانٍ مقارنٍ لرفعها اي بعد أن يغتسل لرفع الحدث الأكبر، فيشكّ في بقاء الكليّ لاحتمال حدوث (الحدث الأصغر) في زمان ارتفاع الجنابة. وبما أنّه لا يوجد في كلمات الفقهاء من يقول إنّ الغسل مشروطٌ بعدم الحدث الأصغر،فتترتب الثمرة كما صور الميرزا الزنجاني فهذا خارج عن محل النزاع مع الشيخ الأعظم اصلا فإذن، ما فرضه الميرزا الزنجاني من مثال ورتب عليه الثمرة ليس هو الفرض الذي قصده الشيخ، لأنّ الشيخ الأعظم لم يقل بجريان الاستصحاب إذا احتُمل الحدث الأصغر بعد ارتفاع الحدث الأكبر، بل إذا احتمل المكلف وجود الحدث الأصغر مقارناً للحدث الأكبر .
وأمّا الفرض الذي ذكره الميرزا الزنجاني، بأن يرتفع الحدث الأكبر (الجنابة) ثمّ يُحتمل بعد الارتفاع حدوث حدثٍ أصغر، فهذا ليس من موارد استصحاب الكليّ على مبنى الشيخ الأعظم، لأنّه شكّ في الحدوث لا في البقاء، فلا يجري فيه الاستصحاب أصلاً. نعم، على مبنى من يقول بجريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقا كالشيخ الحائري (قده) فيمكن ورود الإشكال، وإمّا أن يدفع المحقق الحائري الإشكال بالتمسّك بأصالة عدم الحدث الأصغر كأصلٍ موضوعيٍّ حاكم على استصحاب الكلي ، أو أن يلتزم بوجوب الوضوء بعد الغسل بمقتضى استصحاب الكلي ، إذا احتمل صدور الحدث الأصغر بعد الغسل. لكنّ هذا الالتزام معارض بما دلّ من النصوص المانعة عن ضمّ الوضوء إلى الغسل، حيث ورد النهي عن ضم الوضوء الى الغسل ، وهذه النصوص مقدَّمة رتبةً على الأصول العمليّة، لأنّها أدلّة اجتهادية في مقابل الأصل العملي، فهي أسبق مرتبة منه، فيقدَّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ( الدليل الفقاهتي) ويُرفع به موضوع الاستصحاب تعبّداً.
والحاصل ان الإشكال الذي أرهق الميرزا الزنجاني (قده) نفسه في بيانه وتفصيله غير واردٍ في الحقيقة.
ثمّ انتقل الميرزا الزنجاني (قده) إلى المناقشة الثانية على أستاذه المحقّق النائيني (قده)، فقال:
"وثانياً: إنّ جريان استصحاب عدم الجنابة لإحراز الجزء العدمي لموضوع وجوب الوضوء، بمقتضى الآية الكريمة، إنّما يصحّ في حدّ نفسه، مع قطع النظر عن جريان الاستصحاب في القدر المشترك، سواء أجرينا الاستصحاب في القدر المشترك أو لم نجْرِه، فإنّ هذا لا ربط له بذلك، إذ نفس أصالة عدم الجنابة تجري، أو البناء على عدم جريانه في مثل المقام".
توضيح مراده (قده): إنّ الميرزا (قده) يُقرّر هنا مطلبين متغايرين ينبغي التفكيك بينهما:
المطلب الأوّل: في أنّه هل يجري استصحاب القسم الثالث من الكليّ أو لا؟ وهذا هو مورد البحث .
المطلب الثاني: في أنّه هل يجري استصحاب عدم الجنابة في المقام أم لا؟ فيقول (قده): نعم، يجري استصحاب عدم الجنابة بنفسه بلا إشكال، وهذا ثابت في حدّ ذاته، ولكنّ البحث في استصحاب الكليّ شيء آخر. فإجراء أصالة عدم الجنابة لا يتوقّف على البناء على استصحاب الكليّ أو نفيه، لأنّ كلا الموردين مستقلّان، فاستصحاب عدم الجنابة يجري سواء قلنا بجريان استصحاب الكليّ أم لا.
وعليه، فإنّ ما أفاده المحقّق النائيني (قده) من الاكتفاء باستصحاب عدم الجنابة لإحراز الجزء العدمي لموضوع الوضوء، لا يصحّ أن يُتّخذ دليلاً على عدم جريان استصحاب الكليّ؛ لأنّ الاستصحابين من مقامين مختلفين: أحدهما استصحاب عدميّ موضوعيّ (عدم الجنابة)، والآخر استصحاب جهة مشتركة (الكليّ الطبيعيّ للحدث).
فليس بينهما ارتباط سببيّ ولا ملازمة إثباتيّة، كما حاول النائيني أن يُثبت، على ما فهمه الميرزا (قده).
إلا أنّ هذا الفهم الذي تبنّاه الميرزا (قده) لا يخلو من مؤاخذة؛ إذ إنّ المحقّق النائيني (قده) لم يتعرّض في عباراته إلى عنوان "كليّ الحدث" أصلاً، ولا بنى جوابه على هذا الأساس، بل غاية ما أفاده أنّ الوضوء مركّب من أمرين: أمرٍ وجوديٍّ وهو وجدانيٍّ، في المثال وهو النوم ،وأمرٍ عدميٍّ وهو تعبّديٍّ، في المثال وهو عدم الجنابة المحرز بالاستصحاب.
فلم يتطرّق (قده) إلى بحث الكليّ لا إلى نفيه ولا الى إثباته، وإنّما جعل مناط التفصيل خصوصيّة الوضوء كما دلّت عليها الآية الشريفة، لا عنوان "الكليّ" الذي لم يكن في باله أصلاً.
ومن هنا، علّق سيدنا السيستاني (دام ظلّه) على كلام الميرزا الزنجاني، بأنّ ما أفاده ناشئٌ من غفلةٍ عن مراد أستاذه المحقّق النائيني، إذ النائيني (قده) في صدر كلامه صرّح قائلاً:
"سواء قلنا بجريان الاستصحاب أم لم نقل به، فإنّه لا تُضمّ الجنابة إلى الوضوء لخصوصيّةٍ في المثال".
وهذه العبارة ـ وردت في الفوائد وأجود التقريرات ـ وهي ظاهرة في أنّ النائيني لم يكن بصدد البحث عن استصحاب الكليّ ولا عن ربطه بأصالة عدم الجنابة، بل كان يستند إلى الخصوصية القرآنية المستفادة من مقابلة الوضوء للغسل في الآية، وهي التي تقطع الشركة
بين الحدثين، فاستغنى بها عن أيّ استدلالٍ بمسألة الكليّ.
فإذن، إدخال الميرزا الزنجاني لمسألة الكليّ في تقرير كلام أستاذه تحصيلٌ لما لا محلّ له، وحملٌ للعبارة على غير وجهها، إذ المحقّق النائيني لم يبنِ جوابه على نفي استصحاب الكليّ، وإنّما على تفصيلٍ تعبّديٍّ مستفادٍ من لسان الدليل الشرعيّ نفسه .
ثمّ قال الميرزا الزنجاني (قده) في تتمّة مناقشته: "وأمّا بالنظر إلى استصحاب القدر الجامع، بعد تسليم جريانه، فلا وجه لتقديم ذلك الأصل العدمي عليه، إلّا بتوهّم السببيّة والمسببيّة، باعتبار أنّ الجنابة سببٌ لبقاء الكلّي، وهو مدفوعٌ قطعاً. ثمّ إنّ مقتضى أصالة عدم الجنابة عدم وجوب شيءٍ عليه في المثال، وجواز المكث ونحوه من دون الغُسل، ومقتضى أصالة بقاء القدر المشترك وجوب الغسل وعدم جواز المكث بدونه. فبعد تساقط الأصلين بالمعارضة، تصل النوبة إلى الأصل الحكمي الجاري في المسألة، وهو استصحاب حرمة المسّ وعدم جواز الدخول في الصلاة ونحو ذلك من الآثار إلى أن يغتسل".
توضيح مراده (قده): إنّ الميرزا (قده) أراد أن يُبيّن أنّه على مبنى المحقّق النائيني (قده)، إذا سلّمنا ـ جدلاً ـ جريان استصحاب القدر الجامع (كليّ الحدث)، فإنّ أصالة عدم الجنابة ستعارضه؛ لأنّ كلاً من الأصلين يُثبت نقيض ما يثبته الآخر.
وبيان ذلك: إنّ استصحاب عدم الجنابة يقتضي نفي وجود الكلّي، لأنّ الجنابة ـ وهي أحد أفراد الكلّي ـ منفية بالاستصحاب، والحدث الأصغر المعلوم قد ارتفع بالوضوء، فينتفي بذلك الكلّي رأساً، فيحكم بجواز المكث في المسجد وجواز الصلاة.
وأمّا استصحاب بقاء القدر الجامع (الحدث الكلي)، فيقتضي ثبوت الكلّي، ومن ثمّ وجوب الغُسل وعدم جواز المكث والدخول في الصلاة.
وعليه، فهذان الأصلان متعارضان في الأثر، لأنّ أحدهما يثبت الطهارة والآخر يثبت النجاسة، فيتساقطان بالتعارض، وبعد تساقطهما تصل النوبة إلى الأصل الحكمي، وهو استصحاب حرمة مسّ المصحف وعدم جواز الصلاة ونحوها إلى أن يتحقّق الغُسل.
فنتيجة ذلك ـ بحسب تقرير الميرزا (قده) ـ تنقلب عمّا أفاده المحقّق النائيني (قده)، إذ تؤول إلى وجوب الغسل وعدم كفاية الوضوء.
لكن هذا الاستظهار غير تامّ، كما نبّه عليه سيدنا السيستاني (دام ظلّه) حيث قال:
"إنّ هذا ناشئ من الغفلة، فإنّ المحقّق النائيني (قده) لم يقل، ولا يمكن أن يقول، بجريان أصالة عدم الفرد الآخر لنفي الجامع، بل هو يرى أنّ الوضوء مركّب من أمرٍ وجوديٍّ وعدميٍّ، فيجري أصالة عدم الجنابة في مرحلة رافعية الحدث للوضوء، لا في مقام نفي
الجامع حتى يُقال إنّ بينهما علاقة سببيّة أو مسببيّة"([2] ).
وبتعبيرٍ أدقّ:إنّ الميرزا الزنجاني (قده) خلط بين موردين مختلفين:الأوّل: مورد استصحاب عدم الجنابة بما هو أصل عدمي موضوعي لإحراز الجزء العدمي في موضوع وجوب الوضوء، وهو ما قصده النائيني.
والثاني: مورد استصحاب الكلّي الطبيعي (القدر الجامع) بما هو أصل وجودي لإثبات بقاء الحدث المشترك.
فالنائيني (قده) لم يكن بصدد جعل أصالة عدم الجنابة نافيةً للجامع، بل غايته أنّ الشارع جعل الوضوء متقوّماً بعدم الجنابة، فبأصالة عدمها يحرز موضوع الوضوء، ولا شأن له بالقدر الجامع أصلاً.
وعليه، فافتراض التعارض بين استصحاب الكلي واستصحاب عدم الجنابة ناشئ من سوء فهمٍ لجهة جريان الأصل عند النائيني؛ لأنّه لم يُجرِ أصالة عدم الجنابة بعنوانها منافيةً للجامع، بل بوصفها رافعاً لموضوع وجوب الغسل ومحقِّقاً لموضوع الوضوء، فلا مجال حينئذٍ لدعوى المعارضة ولا لتساقط الأصول، ولا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي كما
توهّمه الميرزا (قده).
ومن هنا عُلِّق بأنّ ما ذكره الميرزا (قده) في هذا الموضع غريب، ولا ينسجم مع ما هو المرتكز في كلمات أستاذه النائيني، وهو الذي لم يُقم البحث على مسألة الجامع أصلاً، بل على خصوصيةٍ مستفادةٍ من الدليل اللفظيّ نفسه، كما تقدّم في المناقشة الثانية .
وللكلام بقية ..
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]