« فهرست دروس
الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/04/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستصحاب الكلي /الاستصحاب /الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب /الاستصحاب الكلي

انتهى بنا الكلام إلى بيان رأي الشيخ عبد الكريم الحائري (قدّس سرّه) في الدرر، وقد تبيّن أنّه يذهب إلى القول بجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي مطلقاً، من غير تفصيل بين أقسامه، وقد وافقه على هذا المبنى بعض تلامذته، كالشيخ محمّد علي الأراكي (قدّس سرّه)، والشيخ محمود الإشتياني (قدّس سرّه) في حاشيتهما على الدرر.

إذن، بعد أن تبيّن رأي الشيخ الحائري (قدّس سرّه) وموافقة بعض تلامذته له في جريان الاستصحاب مطلقاً، تجدر الإشارة إلى أنّ مبناه امتاز ببعض الخصوصيّات الدقيقة التي لم يتعرّض لها مَن سبقه، الأمر الذي دعا سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه) إلى تحليل مبانيه ومناقشة أصل ما أفاده صاحب الدرر.

ولكن قبل الدخول في تحليل السيد السيستاني ومناقشته لمطلب الشيخ الحائري، لابدّ أولاً من الوقوف على رأيه (دام ظلّه) في المسألة؛ إذ إنّ معرفة الموقف الأساس تعين على فهم جهة مناقشته وتفسير طريقته. فقد ذهب (دام ظلّه) إلى ما عليه المشهور، وهو أنّ الاستصحاب لا يجري في الكلي من القسم الثالث، في كلا قسميه، موافقاً بذلك للمحقق النائيني والسيد الخوئي (قدّس سرّهما)، بل إنّ البرهان الذي اعتمد عليه هو نفس البرهان الذي بنى عليه أولئك الأعلام منع الجريان، غير أنّ السيد السيستاني (دام ظلّه) أضاف بعض الدقائق التحليلية التي يمكن أن تُستثمر لاحقاً في المناقشة.

قد قال (دام ظلّه) "إنّ الكلي يوجد بوجود الفرد، وينعدم بانعدامه…"([1] ).

توضيح مراده (دام ظلّه):

إنّ وجود الفرد له إضافات متعددة، ومن جملتها الإضافة إلى الماهية الشخصية، وهي الهوية الخاصة لذلك الفرد بعينه، كالزيدية في مثالنا. وهذه الإضافة تمثل نفس حقيقة زيد بما هو هو، ويترتب عليها إمكان توصيفه بأوصافه العارضة كالعلم والطول والمكان والزمان، وهذه كلّها إضافات بلحاظ الهوية الشخصية.

فحين نقول: هذا الإنسان عالم، فالملحوظ في الحقيقة هو الفرد الشخصي، أي زيد نفسه، وليس الكلي بما هو كلي، ومن هنا كانت الإضافة للفرد لا للكلي. إلّا أنّ الكلي الطبيعي يوجد بوجود هذا الفرد، فيُقال على نحو الحقيقة – لا المجاز ولا المسامحة –: هذا زيد، وهذا إنسان. فوجود الإنسان إنّما تحقّق في ضمن وجود زيد، كما أنّه ينعدم بانعدام زيد؛ لأنّ الكلي لم يكن متحققاً في الخارج إلّا بوجود هذا الفرد.

ومن هنا يقول السيد السيستاني (دام ظلّه): "فله وجودات متعددة بتعدّد وجودات الأفراد، وله أعدام متعددة بتعدّد أعدامها…"، أي إنّ الكلي لا وجود له في الخارج إلا بتشخص الأفراد، فلكل فردٍ وجود مستقلّ للكلي، ومع انعدام الفرد ينعدم الكلي المتحقّق في ضمنه، فإذا وُجد فرد آخر – كعمرو – فقد وُجد الكلي بوجود جديد منفصل عن الوجود الأول، لا أنه استمرار لذلك الوجود السابق، فلا يُصدق حينئذٍ بقاء الكلي في الخارج.

إذن، تتّضح هنا النكتة المحورية التي أشرنا إليها مراراً، وهي أنّ الخلاف الحقيقي في هذا الباب ليس في الجزئيات أو في صغريات المسألة، بل في موضوع الكلي وارتباطه بالفرد فـ الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) بنى على التفصيل، فاختار جريان الاستصحاب في بعض الأقسام دون بعض، بينما من جاء بعده من الأعلام ومنهم الشيخ الحائري فقد أنكروا إمكان البقاء حقيقة، وقالوا بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقاً، فهذه النكتة هي مفتاح الفرق الجوهري في هذا الباب .

ثمّ قال (دام ظلّه): فلا يصدق البقاء الذي هو ركن جريان الاستصحاب". وعليه، فإن رأي السيد السيستاني (دام ظلّه) في هذه المسألة موافقٌ لرأي المشهور من الأعلام، في القول بعدم جريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثالث، سواء في صورته الأولى أو الثانية، لانتفاء ركن البقاء الذي يتوقّف عليه صدق الاستصحاب.

أمّا إذا رجعنا إلى كلام الشيخ الحائري (قدّس سرّه) في الدرر، فنراه قد استند في تقرير مبناه إلى بعض القواعد المنطقية والأصولية التي حاول من خلالها إثبات إمكان جريان الاستصحاب مطلقاً.

فقد استشهد أوّلاً ببعض القواعد المنطقية، مثل قوله: "الموجبة الجزئية نقيضها سالبة كلية"، ليدلّ بذلك على أنّ الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث يعبّر عن تردّد بين وجودٍ جزئيٍّ وعدمٍ كليٍّ.

ثمّ دعم استدلاله ببعض المباني الأصولية، مبيّناً أنّ بين الأوامر والنواهي فرقاً جوهرياً في جهة الامتثال؛ إذ في باب الأوامر يكفي في الامتثال إيجاد فردٍ واحدٍ من أفراد الطبيعة لتحقّق الغرض المطلوب، بخلاف باب النواهي، فإنّ الامتثال لا يتحقّق إلا بإعدام جميع أفراد الطبيعة المنهيّ عنها.

فالمولى حين يقول: "لا تكذب"، يريد من المكلَّف إعدام جميع أفراد الكذب، فلا يتحقّق الامتثال بالكفّ عن فردٍ واحدٍ فقط، وأمّا إذا قال: "تصدّق"، فيكفي إيجاد فردٍ واحدٍ من الصدقة لتحقّق الطبيعة المطلوبة.

وقد أراد الشيخ الحائري (قدّه) من هذا البيان أن يوضّح أنّ مبناه في الاستصحاب مبنيّ على هذه الدقائق المنطقية والأصولية، التي يعدّها من الواضحات في الأوساط العلمية.

ثمّ جاء السيد السيستاني (دام ظلّه) محلّلاً لكلام الشيخ الحائري من جهتين:

1- الجهة العقلية: وهي تحليل البنية البرهانية التي استند إليها الشيخ الحائري، ومدى تماميّة استدلاله المنطقي في مقام الإثبات.

2- الجهة العرفية: وهي النظر في مدى موافقة ما أفاده الشيخ الحائري للعرف العام، حيث قال (دام ظلّه) بأنّ العرف يرى في امتداد النوع الإنساني من زمن آدم (عليه السلام) إلى الآن بقاءً للإنسان، مع أنّ الأفراد متبدّلة ومتغايرة، فهو يشير بذلك إلى أنّ الشيخ الحائري أراد إثبات نحوٍ من البقاء العرفي للكلي، وإن كان الأفراد تتعاقب وتتبدّل. إلا أنّ السيد السيستاني (دام ظلّه) سعى من خلال هذا التحليل إلى تشييد مبنى الشيخ الحائري وتقويته أولاً، ثمّ محاكمته بعد ذلك ليرى هل هذه الدعوى في محلّها أم أنّ فيها ثغراتٍ علمية تستوجب الرجوع إلى مقالة المشهور.

وبعبارةٍ أخرى: فإنّ السيستاني (دام ظلّه) أراد أن يُنصف الشيخ الحائري في بناء مدّعاه من حيث التحليل العقلي والعرفي، قبل أن يبيّن مواضع الإشكال والخلل التي تقتضي ترجيح قول المشهور، وأنّ في كلام الحائري بعض الاشتباهات في مقام التطبيق وإنْ كان مبناه في نفسه دقيقاً من حيث التصوّر.

إذن، يتّضح أنّ مضمون كلام الشيخ الحائري (قدّس سرّه) – كما نقله وبيّنه السيد السيستاني (دام ظلّه) " هو أنّ العقل والعرف كلاهما يؤيّدان القول بأنّ الشكّ في المقام هو شكّ في البقاء، لا في الحدوث، لأنّ الكلّي ـ بحسب نظرهما ـ باقٍ ما لم ينعدم جميع أفراده".([2] )

فبيّن (دام ظلّه) أنّ هذا من أقوى الوجوه التي اعتمدها الشيخ الحائري؛ إذ إنّ تأييد العقل والعرف معاً يُعدّ عنده من أقوى البراهين على جريان الاستصحاب في مثل هذا المورد، لأنّ الركنين العقلي والعرفي متكاملان في تقرير بقاء الكلي ما دام يحتمل وجود فرد آخر له في الخارج.

ثم قال (دام ظلّه) مبيّناً أساس هذا الوجه العقلي الأصولي: "أمّا عقلاً، فإنّ الطبيعي يوجد بوجود الفرد، ولا ينعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد، بحيث نقول: لا يوجد إنسان أصلاً.

ولذا قال الأصوليون إنّ المسألة تختلف بالموافقة والمخالفة بين الأمر والنهي؛ فإنّ الامتثال في الأوامر يتحقّق بصرف الوجود وإيجاد فردٍ واحدٍ من هذا الطبيعي، وأمّا مخالفته فلا تحصل إلّا بترك جميع الأفراد.

وفي النواهي الأمر بالعكس؛ فإنّ النهي لا يتحقّق إلّا بانعدام جميع أفراده، فلذا لو أتى بفردٍ واحدٍ منه لم يمتثل نهي المولى، وموافقته تكون بترك جميع الأفراد".

فبهذا البيان أراد السيد السيستاني (دام ظلّه) أن يوضّح أنّ الشيخ الحائري (قدّه) لم يقتصر في استدلاله على مجرد دعوى عرفية أو حدس وجداني، بل أقام بناءه على قاعدة عقلية ومنطق أصولي متين، وهو أن الطبيعي لا يُعدّ معدوماً حقيقةً إلّا بعد ارتفاع جميع أفراده، كما هو الحال في باب النواهي التي لا يتحقّق امتثالها إلّا بإعدام جميع الأفراد.

فمن هذا المنطلق رأى الحائري أنّ الشكّ في وجود فردٍ آخر بعد ارتفاع الأول هو بعينه شكّ في بقاء الطبيعي، لأنّ العقل لا يرى الكلي منعدماً ما دام يحتمل وجود فردٍ له، والعرف كذلك يتسامح فيصدق عليه عنوان البقاء.

وعليه، فإنّ هذا الوجه الذي قرّره السيستاني في تحليل كلام الحائري يُظهر الجهة البرهانية الدقيقة في مبناه، وأنّه حاول أن يُسند مدّعاه إلى كلٍّ من العقل والعرف معاً.

ثمّ أضاف (دام ظلّه) مؤكِّداً هذا المسلك البرهاني بقوله:

"ويدلّنا على ذلك أيضاً ما ذكره المنطقيّون من التناقض بين الموجبة الجزئية والسالبة الكلّية، فإذا وُجد الإنسان بوجود زيد لا ينعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد".

فهذا البيان يُكمِّل ما سبقه من التقرير العقلي والأصولي، إذ إنّ القاعدة المنطقية التي تقول إنّ نقيض الموجبة الجزئية هو السالبة الكلية، تقتضي أنَّه ما دام لم يُحرَز انعدام جميع الأفراد، فلا يمكن الحكم بانعدام الطبيعي نفسه، لأنّ إثبات عدم الكلّية لا يتمّ إلّا بعد العلم بارتفاع كلّ الأفراد.

وعليه، كما أوضح (دام ظلّه)، فإنّه لابدّ من إحراز انعدام جميع أفراد الإنسان في الدار حتى يُمنع جريان الاستصحاب، إذ لو لم يُحرز ذلك، فلا يصحّ الجزم بارتفاع الكلي. والحال أنّه في مقامنا لا يوجد عندنا إحراز بانعدام الإنسان في الدار، لاحتمال وجود فردٍ آخر – كعمرو – بعد خروج زيد، فيبقى الشكّ في البقاء بحاله.

ثمّ عقّب (دام ظلّه) مبيّناً مضمون كلام الشيخ الحائري (قدّس سرّه) ومرتكزه العقلي بقوله: "فإذا احتمل وجود عمرو حين زوال زيد، ولم يُعلم انعدام جميع الأفراد، فيصدق الشكّ في البقاء".

ومن هنا يتّضح أنّ الشيخ الحائري (قدّه) اعتمد في تقرير مدّعاه على قاعدتين واضحتين في علمَي المنطق والأصول، وهما: القاعدة الأصولية: القائلة بأنّ الطبيعي لا ينعدم إلّا بانعدام جميع أفراده والقاعدة المنطقية: القائلة بأنّ الموجبة الجزئية نقيضها السالبة الكلية.

وعليه هاتان القاعدتان كما أشار السيد السيستاني (دام ظلّه) واضحتان لكلّ طالبٍ مبتدئ في دراسته المنطقية والأصولية، فيسلّم بصحّة أصل هذا البناء .

ثمّ انتقل السيد السيستاني (دام ظلّه) إلى البيان العرفي بعد أن أتمّ تقرير الوجه العقلي والمنطقي، فقال: "وأمّا العرف، فلوضوح أنّ انقراض النوع عندهم لا يصدق إلّا بانعدام جميع أفراده".

توضيح مراده (دام ظلّه):

إنّ العرف – سواء كان عرفاً عامّاً أو خاصّاً – لا يرى النوع منقرضاً ما دام له فرد واحد باقٍ في الخارج، بل لا يُطلق عليه عنوان الانقراض إلّا إذا انعدمت جميع أفراده وانقرض وجودها الواقعي بالكامل.

لذلك هناك مثالاً واضحاً،: إنّ الديناصور كان موجوداً في الأزمنة السالفة، ولكن بعد أن انقرضت جميع أفراده، لم يبقَ له وجود خارجي، ولذا إذا سُئل العرف العام أو العرف الخاص – كعلماء الحيوان – عن وجود الديناصور، فإنّهم يجيبون بأنّه غير موجود، لعدم بقاء أيّ فردٍ من نوعه في الخارج.

وعليه، فانعدام النوع عند العرف مرهون بانعدام كلّ أفراده، ما لم ينقرض الجميع لا يُقال إنّ النوع قد زال.

ومن هنا قال (دام ظلّه): "ويُصدق عندهم بقاء النوع ببقاء الأفراد المتعاقبة في الوجود، -كبقاء الإنسان أو الحيوان الفلاني -".

أي أنّ العرف يرى البقاء النوعي في تعاقب الأفراد، فطالما وُجدت أفراد متلاحقة من نوع الإنسان – وإنْ كانت الأجيال تتبدّل – فإنّهم يحكمون ببقاء “الإنسان” نوعاً.

فالإنسان الذي نعيشه اليوم ليس هو الإنسان الأوّل وجوداً، ولكنّ العرف مع ذلك يَعدّ "الإنسان" باقياً منذ آدم (عليه السلام) إلى يومنا هذا.

فالعرف، كما قرّره السيد السيستاني (دام ظلّه)، يرى أنّ صدق النوع على الأفراد صدقٌ حقيقيٌّ، لا مسامحيٌّ ولا مجازيٌّ، وإن تعاقبت الأفراد وتبدّلت بالوجود.

فكلّ فرد من أفراد النوع هو مصداق حقيقي لذلك الكلّي الطبيعي، فإذا انعدم فرد ووجد آخر من سنخه، فإنّ العرف يعدّ النوع – كالإنسان أو الحيوان الفلاني – باقياً حقيقةً لا مجرد بقاءٍ ادّعائي.

إذ العرف حين ينظر إلى توالي الأفراد عبر الأزمان لا يرى في ذلك انقطاعاً لوجود النوع، بل استمراراً حقيقياً له، لأنّ صدق الاسم "إنسان" مثلاً لا يتوقّف على وحدة الشخص، بل يكفي فيه وحدة الطبيعة النوعية.

فبناءً على ما تقدّم، يتبيّن أنّ خلاصة ما قرّره الشيخ الحائري (قدّس سرّه) – كما عرضها وبيّنها وشيدّها السيد السيستاني (دام ظلّه) – هي أنّ العقل والعرف كلاهما يشهدان ويدلّان على أنّ الشكّ في المقام هو شكّ في البقاء لا في الحدوث.

نعم، السيد السيستاني (دام ظلّه) بعد أن قرّر هذا البرهان الذي أقامه الشيخ الحائري (قدّس سرّه)، وأوضح قوّته من حيث البناء العقلي والمنطقي والعرفي، لم يُسلِّم به في النتيجة، بل تعرّض له بالنقد والمناقشة، وعدّه غير تامٍّ، وإنْ كان في ذاته برهاناً منسَّقاً ومتقناً من حيث الصورة .

فقال(دام ظلّه) في مقام الردّ على ما قرّره الشيخ الحائري (قدّه): "وما ذُكر في هذا التقريب مخدوشٌ كلّه.

أوّلاً: عدم صدق البقاء لا عقلاً ولا عرفاً. فأمّا عقلاً، فلأنّ التحقيق هو ما ذكرناه في بيان وجه المشهور من أنّ الطبيعي له وجوداتٌ متعدّدة وله أعدامٌ متعدّدة، والجملة المشهورة القائلة إنّ الطبيعي يوجد بوجود فردٍ واحدٍ، ولا ينعدم إلّا بانعدام جميع أفراده – فهي غير متينةٍ على الدقّة".

توضيح مقصوده (دام ظلّه): بيّن (دام ظلّه) أنّ هذه الجملة المتداولة على ألسنة المنطقيين – مع شهرتها – غير دقيقة في واقعها الفلسفي والوجودي، ولذا قالوا في عبارتهم اللافتة:

"وربّ مشهورٍ لا أصل له"، أي إنّ شهرة القول لا تعني صحّته، بل قد تكون العبارة مفهومةً عند الأذهان على نحوٍ تسامحيٍّ، بينما حقيقتها على الدقّة ليست كذلك.

ثمّ علّل (دام ظلّه) وجه الخلل في تلك الجملة بقوله: "لأنّ الطبيعي ليس له وجودٌ مستقلٌّ خارجاً".

وهذا من البديهيّات الفلسفية؛ إذ الكلّي بما هو كلّي لا يمكن أن يوجد في الخارج مستقلاً عن أفراده، لأنّ الكليّة تنافي التشخّص، والوجود الخارجي مساوق للتشخّص، فإذا تحقّق الوجود في الخارج صار شخصيّاً لا كلّياً.

ومن هنا أكّد (دام ظلّه) قائلاً: "والوجود الخارجي قد يُضاف إلى الماهية الضيّقة – التي هي بمقدار أن تأخذ حيّزاً من المكان والزمان والطول والعرض – فإذا أُضيف الكلّي إليها قيل له وجود الفرد، وقد يُضاف إلى الماهية الكلّية فيقال له الوجود الطبيعي. فالطبيعي يوجد بوجود كلّ فرد"

توضيح المراد بدقّة:

إنّ الماهية الضيّقة هي الشخص الخارجي المحدّد في الزمان والمكان، كزيدٍ الموجود في لحظةٍ معينةٍ من المكان، وأمّا الماهية الكلية فهي عنوان "الإنسان" بما هو هو.

فإذا تحقّق الوجود الخارجي في زيد، نُسب الوجود إلى الماهية الضيّقة فيقال "هذا زيد"، ونُسب أيضاً إلى الماهية الكلية فيقال "هذا إنسان".

لكنّ هذا لا يعني أنّ للطبيعي وجوداً واحداً مستمراً في جميع الأفراد، بل كلّ فردٍ هو وجودٌ خاصٌّ للطبيعي، فإذا تعدّدت الأفراد تعدّدت الوجودات، وإذا انعدم أحدها انعدم ما يخصّه من وجودٍ للطبيعي.

ولهذا كانت العلاقة بين الكلي الطبيعي وأفراده هي كعلاقة الآباء المتعدّدين بأبناء متعدّدين، فكلّ أبٍ له ابنٌ خاصٌّ به، ولا تتداخل الأبناء في نسبٍ واحد، فكذلك الطبيعي يوجد بوجود كلّ فردٍ، وينعدم بانعدام كلّ فردٍ، ولا يصحّ أن يُقال إنّه بقي ببقاء غيره على نحو الاستمرار الاتحادي.

ثمّ أردف (دام ظلّه) قائلاً في تتمّة كلامه: "ونقيض الواحد لا يكون إلّا واحداً".

وبيّن مقصوده من ذلك "بأنّ لكلّ وجودٍ عدمَه الخاصّ"

يعني أنّ هذا الإنسان نقيضه هو لا إنسان، ولكن بلحاظ نفس زيد، فنقيض زيد هو عدم زيد، ونقيض الإنسان عدم الإنسان .

أي أنّ نسبة العدم إلى الوجود دائماً شخصيّة ومتعيّنة، فكما أنّ الوجودات متعدّدة بتعدّد الأفراد، فكذلك الأعدام أيضاً متعدّدة بتعدّد تلك الوجودات، ولا يُعقل أن يكون لوجوداتٍ متعدّدةٍ عدمٌ واحدٌ جامع، لأنّ العدم طاردٌ للوجود، فحيثما تعدّد الوجود تعدّد العدم المقابل له.

ومن هنا خلص (دام ظلّه) إلى النتيجة: "فلا يمكن أن يكون للشيء وجوداتٌ متعدّدة ويكون له عدمٌ واحدٌ، مع أنّ العدم طاردٌ للوجود، فلابدّ أن يتعدّد بتعدّده".

وعليه، لا يصدق البقاء لا عقلاً ولا عرفاً، فلا يجري الاستصحاب في المقام، لأنّ ركن البقاء – الذي هو أحد أركان الاستصحاب – مفقود حقيقةً .

ثمّ انتقل السيد السيستاني (دام ظلّه) إلى بحثٍ آخر وهو: لا بدّ من استيضاح مسألة وجود الأشياء؛ فإنّ الوجود قد يُتصوّر على نحوين:

فتارةً نقول إنّه صرف الوجود، كما تقدّم سابقاً ويقابله صرف العدم ، وتارةً نقول إنّه الوجود الشامل، ويقابله العدم الشامل وبحسب مقام الإثبات، عندما نقول "الوجود"، فإنّ المقصود به هو صرف الوجود، لأنّ استيعاب جميع الأفراد الموجودة فعلاً أو التي ستوجد لاحقاً متعذّر علينا من جهة العلم والإحاطة.

فكلّ ما نُثبته في مقام الإثبات من وجودٍ إنّما هو صرف وجودٍ لمصداقٍ ما من الطبيعة.

وأمّا العدم، فإنّنا إذا ذكرناه في مقام الإثبات فنعني به العدم الشامل لا العدم الجزئي، لأنّنا حين نتكلّم عن "العدم" نريد أن نرتّب عليه أثراً عملياً أو شرعياً، والعدم الخاصّ قد لا يترتّب عليه أثر، فنجري الكلام فيه على نحو العدم الشامل لجميع الأفراد، لا العدم الخاصّ ببعضها.

ثمّ نبّهنا إلى العلاقة بين القضايا المنطقية والنقائض:

وقلنا، وأمّا العلاقة بين النقيض في الموجبة الجزئية والسالبة الكلية، فليس معناها أنّه إذا وُجدت الموجبة الجزئية امتنع وجود العدم المطلق في المقابل، بل معناها أنّهما لا يصدقان معاً.

ثُمّ أنّ التناقض بين القضايا المنطقية إنّما هو بلحاظ صدق القضيتين أو كذبهما معاً، لا بلحاظ الوجود الواقعي للأشياء في الخارج، فقولنا: الموجبة الجزئية نقيضها السالبة الكلية لا يعني أنّه إذا صدقت الأولى انتفى الوجود الخارجي للثانية بتمامه، بل معناه أنّ القضيتين لا يمكن أن تصدقا في وقتٍ واحدٍ على موضوعٍ واحدٍ.

ولأجل توضيح ذلك نقول: إذا قلنا: بعض الإنسان كاتب، فالنقيض هو: لا شيء من الإنسان بكاتب.

وليس المقصود أنّه إذا وُجد فردٌ كاتب في الخارج فقد امتنع مطلقاً أن يوجد إنسان في مكانٍ آخر، بل المقصود أنّ القضيتين لا يمكن أن تصدقا على موضوعٍ واحدٍ في آنٍ واحدٍ.

فالمسألة عند المناطقة ليست بحثاً في الوجود والعدم الواقعيين، بل في صدق القضايا الذهنية.

أمّا في باب الاستصحاب، فنحن لسنا في مقام صدق القضية المنطقية، بل في مقام تحقيق بقاء الوجودي الخارجي؛ لأنّ موضوع الاستصحاب هو "الشيء الموجود في الخارج"، لا "القضية الصادقة في الذهن".

ولذلك نقول: فالاستصحاب الكلّي لا يفيدنا في صدق القضايا، وإنّما يفيدنا في استصحاب البقاء، والبقاء ناظرٌ إلى الوجود الخارجي لا إلى صدق القضايا .

فالاستصحاب لا يبحث في صدق قضية "الإنسان موجود" أو "الإنسان معدوم"، بل يبحث في بقاء ما كان متيقناً وجوده في الخارج.

ومن هنا فما ذكره الحائري لا ينتج ما يريد أن يبيّنه، بينما رأي المشهور هو الأقرب إلى الواقع. وللكلام بقية ..

[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]


[1] - تقريرات بحثه – بقلم السيد الرباني ص384:.
[2] - المصدر السابق، ص385-386.
logo