47/04/20
الاستصحاب الكلي /الاستصحاب /الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب /الاستصحاب الكلي
ما زال الكلام فيما أفادهُ المحقق الحائري (قده)، وقد تقدم في الأبحاث السابقة الكلام حول ما أفاده المحقِّقِ النائيني (قده)في تقريب عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي وبيَّنّا أنَّ جهةَ الفرق بينه وبين ما أفادهُ الشيخُ الأعظم (قده) من التفصيل بالجريان ترجعُ إلى طبيعةِ الشكّ المتحقق في المقام.
فإنّ المحقق النائيني والذين ساروا على نهجِه رأَوا أنَّ الشكَّ الحاصل في القسم المذكور ليس شكّاً في البقاء حتى يتحقّق ركنُا الاستصحاب، بل هو شكٌّ في الحدوث، لأنّ الكلّي المتحقق في ضمن الفردَ الثاني المشكوك لم يُحرز وجودُه اصلا، فالشكّ متعلّق بأصلِ الحدوث لا بالبقاء. بينما الشيخُ الأعظم (قده) يرى أنَّ الشكَّ -في النحو الأول من أنحاء استصحاب الكلي من القسم الثالث- شكٌّ في البقاء بعد اليقينِ بالحدوث، فيتحقّق بذلك اليقينُ السابق والشكّ اللاحق، وهما رُكنا الاستصحاب.
هذا وقد جعلنا كلام المحقق النائيني هو المحورَ الأساسَ في المقارنة، لما ترتب عليه من نتائج وتفريعات في هذا البحث قد تبنّاها من جاء بعده.
والحاصل فإن الاختلافِ بين الاتجاهين يتمحورُ حول تفسيرِ طبيعةِ الشكّ في المقام:
فبناءً على ما أفاده الشيخُ الأعظم: فإن الشكُّ يتعلق بالبقاء،فتتحق أركان الاستصحاب ويجري في المقام .
وأما بناء على ما افاده المحقّق النائيني ومن تبعه: فالشكُّ يتعلق باصل الحدوث، فلا يتحقق ركنا الاستصحاب فلا يجري.
هذا ولكن الشيخَ الحائري (قده) ([1] )قد خالفَ المحقق النائيني في المقام كما خالف أستاذَه صاحبَ الكفاية (قده) حيث اختارا كما تقدم عدم الجريان بينما اختار هو القولِ بالجريان.
وقبل الدخول في بيانِ ما أفاده المحقق الحائري من تحقيقٍ في المسألة، لا بُدَّ من الالتفاتِ إلى ما ذكرناه سابقا من ان الأصلِ في الإشكالِ الذي أثاره المحقّقُ النائيني في قبالِ الشيخ الأعظم (قده)، هو أنَّ الشكَّ في المقام شكٌّ في الحدوث لا في البقاء.
والأعلام الذين ذهبوا إلى عدم جريان الاستصحاب قد اعتمدوا في ذلك على ما ذكره المحقق النائيني من أن الشك في القسم الثالث هو شك بالبقاء لا بالحدوث.
وقربوا ذلك: بأنّ الكلّي الذي فُرض وجودُه أوّلًا في ضمن زيد قد ارتفع بخروج زيد، وأمّا الكلّي المحتملُ وجودُه في ضمن الفرد الآخر (عمرو) فهو كلّي آخر مغايرٌ للأوّل؛ لأنَّ تعدّد الأفراد يستلزم تعدّد وجودات الكلّي، فلكلّ فردٍ من الأفراد وجودٌ خاصّ من الكلّي في ضمنه، كما هو الحال في تعدّد الآباء بتعدّد الأبناء.
وعليه، يكون الشكُّ هنا متعلّقًا بحدوثِ كلّيٍ جديدٍ، لا ببقاء الكلّي المتيقَّن سابقًا.
ومن ثَمَّ لا يُتصوَّر في المقام كلّي متيقّن يشك في بقاءه حتى يُستصحب، فأن وجود الكلي المتيقن اولا قد ارتفع بانعدام فرده، والمفروض أنّ الفرد الثاني يُحتمل حدوثُه من جديد، فالشكّ في الحدوث لا في البقاء، فلا يتحقّق ركنُا الاستصحاب ولا يكون هناك يقين بالحدوث وشكّ في البقاء، فينهدم ركنا الاستصحاب.
وهذا هو الفارقُ الجوهري بين هذا القسم – أي القسم الثالث من استصحاب الكلّي – وبين القسم الثاني منه؛ ولذا ذكر المحقّقَ النائيني (قده) في القسم الثاني: إنّ أصلَ الكلّي معلومٌ حدوثه في ضمن الفرد الأوّل، غير أنّ الشكَّ إنما هو في بقاء ذلك الكلّي المتيقَّن بعد ارتفاع الفرد القصير لاحتمال وجوده في فردٍ آخر طويل، فيكون الشكّ في البقاء، فيجري الاستصحاب.
أمّا في القسم الثالث، فليس عندنا إلاّ احتمالُ حدوثِ كلّيٍ آخر جديدٍ في ضمن فردٍ آخر، فلا مورد لجريان الاستصحاب لعدم تحقّق اليقين السابق بالحدوث، بل الشكّ في أصل الحدوث.
وهذه هي العقدةُ الأساسُ التي يتعيّنُ على الشيخِ الحائري أن يتجاوزَها؛ لأنَّه لو بقي الشكُّ شكًّا في الحدوث، امتنعَ جريانُ الاستصحاب لانخرامِ أحدِ أركانه، إذ لا يتحقّقُ الركنُ الأول– أعني اليقين بالحدوث – حتى يكون الشك المفروض متعلق بالبقاء. وهم جميعًا متّفقون على أنّ ركني الاستصحاب هما: اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء.
وبعبارة أخرى كيف سيتخلص الشيخُ الحائري (قده) من هذه المشكلة؟
فإنّ التقريب المتقدِّم للاشكال قد دل بوضوحٍ على أنّ الشكّ في المقام شكٌّ في الحدوث، لا في البقاء، ومعه لا يمكن تصويرُ جريانِ الاستصحاب لعدمِ تماميّةِ أركانه.
ولذا كان لزامًا على الشيخِ الحائري (قده) أن يُقدِّمَ معالجةً علميةً تُمكِّن من تصويرِ أنَّ الشكَّ في المقام هو شكٌّ في البقاء لا في الحدوث لتتمَّ أركانُ الاستصحاب ويُتصوَّرُ الجريانُ على طبقه.
وقد حاول (قده) معالجةَ هذه المعضلةِ الدقيقة بالاستعانةِ بجملةٍ من المباحثِ المنطقية والأصولية الدقيقة، وسيأتي لاحقًا – إن شاء الله تعالى – التعرض لما أفادهُ سماحةُ السيد السيستاني (دام ظلّه) في تحليلِ كلامِ الشيخ الحائري، حيثُ يفتحُ من خلاله أُفقَ المسألة، ويُبيِّنُ مواطنَ القوّة في منهجه، ثم يُعقِّبُ عليه بالمناقشةِ العلمية.
ونحن الآن فعلا أمام محاولة المحقق الحائري العلمية والتي ذكرها في كتابه الدرر لبيانِ الوجه الذي يمكن به تقريب ان الشك في المقام متعلق بالبقاء لا بالحدوث وبالتالي الحفاظ على ركنا الاستصحاب - أي اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء - لتجاوزِ العقدة التي أوردها المحقّقُ النائيني في قبالِ الشيخ الأعظم.
قال(قده) بعد أن ذكر التفصيلَ الذي تبناه الشيخ الأعظم الأنصاري (قده)، وأشارَ أيضًا إلى رأيِ أستاذه صاحب الكفاية (قده) – سواء ما ورد في كتابه الكفاية أو في حاشيته على الفوائد –.
ما نصه "لو جُعلت الطبيعة باعتبارِ صرفِ الوجود مع قطعِ النظر عن خصوصياته – أي الوجود الشخصي – موضوعًا للحكم"([2] ).
ويمكن تقريب مراده بما حاصلُه: أنّه عندما دخلنا في عنوان هذا التنبيه – وهو التنبيه الأوّل: استصحاب الكلّي – ذكرنا في مطلع البحث أنّ البحث في جريان الاستصحاب في الكلي ملاكه ما لو كان للكلّي أثرٌ بنفسه، من دون ملاحظة أفراده.
والشيخُ الحائري (قده) هنا يؤكّد هذه الجهة بعينها؛ فهو يريدُ القول ان الأثر مترتّبٌ على نفس الطبيعة لا على الأفراد الخارجيّة، فيكون الموضوعُ هو الكلّي بلحاظِ ذاته لا بلحاظِ وجوداته المتعدّدة.
إلّا أنّ السؤال المهم هنا: هو ان المراد من الطبيعة في مقام الجعل هل هو الطبيعة بلحاظ صرف الوجود أو بلحاظ الوجود الشامل لجميع الأفراد؟
والجواب: إنّ المراد هو لحاظُ صرف الوجود لا الوجود الشامل؛ فيكون تحقق الطبيعة في الخارج بتحقق احد الافراد، في مقابل العدم .
وقد مثّلنا لذلك سابقًا بما لو قال المولى: تصدّق على فقير، فـ"تصدّق" هنا انشاء للتكليف بطبيعي الصدقة، فإذا تصدّق المكلَّفُ مرّةً واحدةً على فقيرٍ واحدٍ، فقد امتثل ، لتحقّق الطبيعة المأمور بها في الخارج، فيُقال حينئذٍ: إنّ الطبيعي قد تحقّق على نحو صرف الوجود.
وعليه، فإنّ ما أراده الشيخُ الحائري (قده) في هذا الموضع هو التأكيد على أنّ الطبيعة – بلحاظ صرف الوجود – هي التي تُعدّ موضوعًا للحكم، لا الأفراد المتعدّدة ولا الوجودات الشخصية.
وهذا الأساس لابدّ من الاحتفاظ به، لأنّه يُمثّل المنطلق الذي يبني عليه (قده) تصويره للشكّ في البقاء، ومن ثَمّ إمكانَ جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلّي.
ثمّ عقّب (قده) بقوله: "فلا إشكال في أنَّ هذا المعنى – وهو صرف الوجود – لا يرتفعُ إلّا بانعدامِ تمامِ الوجوداتِ الخاصّة في زمنٍ من الأزمنة اللاحقة".
ومفادُ كلامه (قده): أنّ صرفَ الوجود – بعد تحقّقه في الخارج – لا يرتفعُ ما لم تنعدم جميعُ الأفراد التي يمكن أن تتحقّق بها تلك الطبيعة في الأزمنة اللاحقة.
وبيانُ ذلك: أنّ صرف الوجود قد تحقّق بالفعل بوجودِ فردٍ واحدٍ من الطبيعة، لأنّه يقابل العدم المطلق، فلا يُعدّ مرتفعًا إلّا إذا انعدمت جميعُ الأفراد بحيث لا يبقى أيُّ وجودٍ لتلك الطبيعة في أيِّ زمنٍ تالٍ.
ولأجل توضيح ذلك هنالك قاعدة منطقية في باب القضايا؛ ان الموجبة الجزئية – كقولنا: بعضُ الإنسانِ كاتبٌ – لا تدلّ على السعة والاستيعاب، بل على تحقّق المحمول في بعض الأفراد فقط، ونقيضها هو السالبة الكلية، أي: لا شيء من الإنسان بكاتب.
فإذا كان عندنا كلّي طبيعي، فإنّ تحقّقه بصرف الوجود يكفي بفردٍ واحدٍ، ولكن ارتفاعه لا يتحقّق إلّا بانعدام جميع الأفراد في جميع الأزمنة اللاحقة، لأنّه في مقابلة العدم المطلق، ولا يصدق هذا العدم إلّا بعد فناء جميع الوجودات الخاصّة للطبيعة.
وعليه، فالمعنى الذي يؤكّده الشيخُ الحائري (قده) هو أنّ صرف الوجود – من حيث هو – يمتدّ حكمُه ما لم يتحقّق العدم المطلق للطبيعة، أي ما لم تُعدم كلّ أفرادها، فيكون الطبيعي باقياً إلى أن تنعدم جميعُ وجوداته الخاصّة.
وسيأتي لاحقًا – إن شاء الله تعالى – بيانُ هذا المطلب وتوضيحُه ببيانٍ أعمق من سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه).
ثم قال (قده):
"وحينئذٍ لو شُكَّ في وجود الفرد الآخر مع ذلك الموجود المتيقَّن – كزيدٍ – واحتُمِلَ بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المعلوم – وهو مثال القائم الأوّل – فموردُ استصحابِ الجامعِ، وهو الكلّي، بملاحظة صرف الوجود متحقّقٌ من دونِ اختلالِ أحدِ ركنيه؛ فإنّ اليقينَ بصرف وجودِ الطبيعة غيرُ قابلٍ للإنكار، وكذلك الشكُّ في بقاءِ هذا المعنى، لأنّ لازمَ الشكّ في كون فردٍ في الآن اللاحق هو الشكُّ في تحقّق صرف الوجود فيه، وهو على تقدير تحقّقه في نفس الأمر بقاءٌ لا حدوثٌ".
توضيح المطلب وبيان لُبّه:
أنّا حين نُدرك وجودَ زيدٍ، نُدرك بذلك تحقّقَ الطبيعة بصرف الوجود، أي أنّ الكلّي – وهو الإنسان مثلاً – قد وُجد بوجود زيد، وهذا اليقين بصرف الوجود لا يمكن إنكاره.
ثم إذا ارتفع زيد، فإنا نشكّ: هل بقيت تلك الطبيعة – بلحاظ صرف الوجود – متحقّقةً في فردٍ آخر، كعمرو مثلاً، أم لا؟
فهذا الشكّ ليس شكًّا في الحدوث؛ لأنّ أصلَ صرف الوجود قد تحقّق يقينًا في ضمن زيد، وإنّما هو شكٌّ في البقاء، لأنّنا نحتمل استمرارَ صرف الوجود في ضمن فردٍ آخر بعد ارتفاع الفرد الأوّل.
فان الحديث ليس عن الوجود المطلق المنتشر في جميع الأفراد، فإنه لا يقينَ لنا به، بل الكلام في صرف الوجود، وهو الوجود الأوّل للطبيعة، وقد تحقّق يقينًا.
فبعد ارتفاع زيد، يكون الشكّ متعلّقًا ببقاء ذلك الصرف من الوجود لا بتحقّق وجودٍ جديدٍ للطبيعة، لأنّ صرف الوجود واحد لا يتعدّد بتعدّد الأفراد.
ومن هنا يتّضح لبّ ما أراده الشيخ الحائري (قده): من أنّ المتيقَّن هو صرفُ وجودِ الطبيعة في ضمن زيد، والمشكوك هو بقاؤُه في ضمن فردٍ آخر، فالشكّ إذن في البقاء لا في الحدوث.
وعلى هذا الأساس يكون ركنُ الاستصحاب محفوظًا، بناءً على تصويره لصرف الوجود بهذا الوجه الدقيق.
ولذلك قال (قده) – في مقام إقناعنا –: "فموردُ استصحابِ الجامعِ بملاحظةِ صرفِ الوجود متحقّقٌ من دونِ اختلالِ أحدِ ركنيه".
فهذه هي دعواه (قده)، وأمّا دليلُها فهو ما عقّب به بقوله: "فإنّ اليقينَ بصرفِ وجودِ الطبيعة غيرُ قابلٍ للإنكار، وكذلك الشكُّ في بقاءِ هذا المعنى؛ لأنّ لازمَ الشكّ في كونِ فردٍ في الآن اللاحق هو الشكُّ في تحقّقِ صرفِ الوجودِ فيه".
ومفادُ كلامه (قده): أنّه إذا كان عندنا يقينٌ سابقٌ بتحقّق صرف الوجود – كتحقّق الإنسان بوجود زيد – ثمّ شككنا بعد ارتفاع زيد في وجود فردٍ آخر للطبيعة في الآن اللاحق – كعمرو مثلاً – فإنّ هذا الشكّ في الفرد اللاحق يلازم الشكّ في بقاء صرف الوجود نفسه، لا الشكّ في حدوث وجودٍ جديد.
إذ لازمُ الشكّ في وجود فردٍ جديدٍ بعد ارتفاع الفرد المعلوم هو الشكّ في استمرار صرف الوجود، أي في بقائه، لأنّ صرف الوجود لا يتعدّد بتعدّد الأفراد، بل يتحقّق بوجود أوّلٍ واحدٍ للطبيعة، وارتفاعه يتوقف على انعدام جميع الأفراد.
فبناءً على هذا التعليل، يكون أحدُ ركنَي الاستصحاب – اليقين بالحدوث – محفوظًا بتحقّق صرف الوجود، والركنُ الآخر – الشكّ في البقاء – متحقّقًا باحتمال استمرار هذا الصرف من الوجود، فيصحّ حينئذٍ جريانُ استصحابِ الكلّي بملاحظة صرف الوجود.
ثمّ قال (قده):
"لأنّ هذا المعنى من الوجود في مقابل العدم المطلق".
وعلى ضوء ما تقدم من مطلب دقيق، يمكن أن يقال : إنّ العدم المطلق – بوصفه المقابلَ لصرف الوجود – لا يُحرَز إلاّ باليقين بانعدام جميع الأفراد التي يمكن أن تتحقّق بها تلك الطبيعة في الخارج.
فإذا لم نُحرز هذا العدم المطلق، لا يمكن الحكم بارتفاع صرف الوجود، لأنّ بين صرف الوجود والعدم المطلق تقابل التضاد، أي إنّ ارتفاع أحدهما يستلزم ثبوت الآخر بتمامه.
وعليه، فلكي يُقال بانعدام صرف الوجود، لا بدّ من إحراز تحقّق العدم المطلق واقعًا، وهو مما لا سبيل إليه ما دام احتمالُ وجود فردٍ آخر للطبيعة قائمًا.
ومن ثمّ يبقى صرفُ الوجود مشكوكًا في بقائه.
ثم قال (قده): "فحدوثه – يعني صرف الوجود – فيما إذا كان مسبوقًا بالعدم المطلق، والمفروض أنّه ليس كذلك".
توضيح المراد:
يريد (قده) بهذا الكلام أن يبيّن أنّ القول بأنّ الشكّ في المقام شكٌّ في الحدوث غير تامّ؛ لأنّ الحدوث الحقيقي لا يُتصوَّر إلاّ فيما إذا كان مسبوقًا بـ العدم المطلق.
فلو تحقق العدم المطلق، للطبيعة لصحّ أن يُقال إنّ الشكّ فيها شكّ في الحدوث، ولكنّ المفروض في محلّ الكلام أنّ العدم المطلق غير محرز.
وبيان ذلك: أنّ الذين قالوا إنّ الشكّ في المقام شكٌّ في الحدوث، التزموا بأنّنا بعد ارتفاع الفرد الأوّل نشكّ في حدوث فردٍ جديدٍ للطبيعة فنشك في حدوث اصل الطبيعة لا بقائها، إلاّ أنّ هذا الشكّ في حدوث الطبيعة موقوفٌ على إحراز أنّ الطبيعة كانت معدومةً بتمام افرادها قبل الشك في الفرد الجديد، أي إحراز العدم المطلق للطبيعة.
لكنّ هذا الإحراز غير حاصل؛ لأنّ احتمال وجود فردٍ آخر للطبيعة قائم، ومع هذا الاحتمال لا يصدق أنّنا كنّا على يقينٍ بالعدم المطلق، فلا يُتصوّر حينئذٍ الشكّ في الحدوث.
وعليه، فبما أنّ العدم المطلق لم يُحرز، فلا يمكن توصيف الشكّ بالحدوث، بل هو شكّ في البقاء؛ لأنّ صرف الوجود قد تحقّق يقينًا، والشكّ إنّما هو في استمراره بعد ارتفاع الفرد الأوّل.
وهذا هو وجه ما أراده الشيخ الحائري (قده) في ردّه على من جعل الشكّ في المقام شك في الحدوث، مبيّنًا أنّ فرض الشك في الحدوث يتوقّف على سبق العدم المطلق، والمفروض عدم إحرازه في المقام.
إذن، الشيخُ الحائري (قده) برهن على قضيةٍ دقيقةٍ ومفصلية في محلّ النزاع؛ فالفردُ الأوّل – كزيدٍ – قد خرج وارتفع، وهذا أمرٌ مسلَّم.
ولكن لوجود احتمال بقاء فردٍ آخر – كعمرو – يَثبت موردُ الشكّ الذي يدور عليه البحث.
فالطرف الآخر – أعني المحقّق النائيني (قده) – يقول: إنّ هذا الشكّ شكٌّ في الحدوث، لأنّ الكلّي الذي كان في ضمن زيدٍ قد ارتفع بارتفاعه، والكليَّ الآخر المحتملَ في ضمن عمرو هو وجودٌ جديد، للكلي فالترديد فيه ترديدٌ في حدوث كليٍّ آخر، لا في بقاء الكلي السابق، كما تقدّم بيانه.
أمّا الشيخُ الحائري (قده) فيرى أنّ معنى صرف الوجود هو تحقّق الكلي بوجود أحد أفراده، فمتى وُجد فردٌ من الأفراد – كزيد – تحقّق صرفُ الوجود يقينًا.
وحينما نعلم بخروج زيدٍ، نحصل على يقينٍ بارتفاع الفرد الأوّل، ولكنّا نحتمل بقاء فردٍ آخر مقارنٍ لوجود زيدٍ، أي احتمال استمرار صرف الوجود في ضمن غيره.
فهذا الاحتمال يساوق الشكَّ في صرف الوجود نفسه، لأنّ صرف الوجود لا يُعدّ مرتفعًا ما لم نُحرز العدم المطلق للطبيعة، وهما – أي صرف الوجود والعدم المطلق – في مقام التقابل من قبيل تقابل التضاد.
فإنْ تيقّنّا بالعدم المطلق، ارتفع صرف الوجود جزماً؛ أمّا إذا لم نتيقّن به، فصرف الوجود يبقى مشكوكًا في بقائه.
إذن، كأنّما يسأل الشيخُ الحائري (قده): هل أنا متيقّنٌ بالعدم المطلق؟ الجواب: كلا، لستُ متيقّنًا بالعدم المطلق، ما دام احتمال وجود عمرو قائمًا.
وعليه، فالشكّ المتحقّق في المقام هو شكّ في البقاء لا شكّ في الحدوث، لأنّ صرف الوجود قد تحقّق يقينًا سابقًا، ولم يُحرز ارتفاعه بتمامه لاحقًا.
وبذلك يخلُص (قده) إلى نتيجةٍ مهمّة، وهي: أنّ الشكّ في صرف الوجود لا يُجامع اليقين بالعدم المطلق؛ فمتى لم يتحقّق اليقين بالعدم، بقي الشكّ في صرف الوجود قائمًا، وهو بعينه الشكّ في بقاء الطبيعة بعد ارتفاع الفرد الأوّل.
نعم، لو كنا متيقّنين بالعدم المطلق ثم شككنا في وجود زيدٍ لكان الشكّ حينئذٍ شكًّا في الحدوث، ولكن ما دمنا غير متيقّنين بالعدم، فشكّنا هو شكّ في البقاء.
ولذلك قال (قده): "والمفروضُ أنّه ليس كذلك".
أي: إنّ المفروض في المقام أنّ العدم المطلق غيرُ متحقّق؛ لأنّا نعلم بوجود زيدٍ في الدار، فليس عندنا عدمٌ مطلق للطبيعة حتى يُقال إنّ صرف الوجود حادثٌ بعد العدم المطلق.
إذ مع إحراز وجود زيدٍ – وهو مصداقٌ من مصاديق الطبيعة – ينتفي فرضُ العدم المطلق رأسًا، لأنّ العدم المطلق لا يُتصوّر مع وجود أيّ فردٍ من أفراد الطبيعة.
فأنا أعلم يقينًا بوجود زيدٍ، وأحتمل معه وجودَ عمرو، فكيف يُقال إنّ عندنا عدمًا مطلقًا؟!
فلا سبيل إلى إحراز العدم المطلق ما دام أحد الأفراد معلومَ الوجود أو محتملَه، ففرض العدم المطلق منتفٍ بالوجدان، ومع انتفائه لا يكون الشكّ في المقام شكًّا في الحدوث، بل هو شكٌّ في البقاء، لأنّ صرف الوجود قد تحقّق يقينًا ولم يُحرز ارتفاعُه بانعدام جميع الأفراد.
وعليه، فقولُه (قده) "والمفروضُ أنّه ليس كذلك" إشارةٌ إلى نفي فرض العدم المطلق، الذي هو شرطُ صدق الحدوث، وبانتفائه يتعيّن كونُ الشكّ في البقاء لا في الحدوث.
فلذا قال (قده): "فالشكّ فيه شكٌّ في البقاء".
ثمّ عقّب (قده) بقوله: "نعم، لو أُريد استصحابُ وجودِ الخاصّ فهو غيرُ جائزٍ، لأنّ المتيقَّنَ سابقًا – وهو زيد – مقطوعُ الارتفاع، والمشكوكَ لاحقًا – وهو عمرو – غيرُ متيقَّنٍ سابقًا، فاختلَّ أحدُ ركني الاستصحاب"
توضيح المطلب:
يُفهم من مجموع كلامه (قده) أنّه أراد أن يُنبّه إلى أنّ منشأ الخلط عند الأعلام هو عدمُ التمييز بين الفرد والكلّي في مقام التطبيق.
فإنّ اختلالَ أحدِ ركني الاستصحاب – وهو الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث – إنما يَرِدُ فيما لو كان الملحوظُ هو الفردُ الخاصّ؛ لأنّ الفردَ الأوّل (زيدًا) مقطوعُ الارتفاع، والفردَ الثاني (عمرو) لم يُحرز وجودُه سابقًا، فلا يتحقّق يقينٌ بالحدوث في مورده.
أما إذا كان الملحوظُ هو الكلّي بما هو طبيعةٌ بلحاظ صرف الوجود، فركنا الاستصحاب – اليقينُ السابق والشكّ اللاحق – محفوظان تمامًا، إذ المتيقَّنُ هو تحقّق صرف الوجود في ضمن زيد، والمشكوكُ هو بقاؤه في ضمن عمرو، وهذا عينُ الشكّ في البقاء.
وعليه، فالمقام ليس من موارد الشكّ في الحدوث كما زعمه المحقّق النائيني (قده)، بل هو من موارد الشكّ في البقاء، لأنّ صرف الوجود قد تحقّق يقينًا ولم يُحرز ارتفاعُه بالعدم المطلق.
فكلامُ الشيخ الحائري (قده) برهانيٌّ في طبيعته؛ إذ نقلَ موطنَ الشكّ من الحدوث إلى البقاء، وأثبت أنّ أركان الاستصحاب تامّة في الكلّي وإن اختلّت في الفرد.
ثم قال (قده): "وممّا ذكرنا يظهر حالُ القسمِ الآخر، وهو ما لو شُكَّ في وجودِ فردٍ آخر مقارنٍ لارتفاعِ الموجود من دونِ تفاوتٍ أصلًا".
توضيح المطلب:
يريد (قده) بهذا البيان أن يُعمِّم النتيجة التي توصّل إليها في القسم السابق من لتشمل القسمَ الآخر أيضًا، أي ما إذا كان الشكّ في وجود فردٍ آخر مقارنٍ لارتفاع الفرد المعلوم لا متأخّرٍ عنه زمانًا.
فهو يرى أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين ما إذا كان الفردُ الآخر محتملَ الوجودِ بعد ارتفاع الفرد الأوّل، أو كان محتملَ المقارنةِ معه من دون تفاوتٍ زمانيٍّ أصلًا، لأنّ المدار على صدق الشكّ في بقاء صرف الوجود، وهو صادقٌ في كلا الموردين.
وبذلك يكون الشيخُ الحائري (قده) قد وسّع دائرةَ الجريان لتشمل القسمين معًا، مخالفًا في ذلك كلاًّ من: صاحب الكفاية (قده)، الذي ذهب إلى عدم الجريان مطلقًا في هذا الباب.والمحقّق النائيني (قده)، أيضاً.
فبناءً على ما أفاده الشيخُ الحائري، فالاستصحاب يجري في كلا القسمين ؛ لأنّ ملاك الجريان – وهو الشكّ في بقاء صرف الوجود بعد تحقّقه – متحقّق فيهما معًا، بخلاف ما أفاده صاحب الكفاية والمحقّق النائيني اللذين أنكرا إمكان الجريان مطلقًا.
وإلى هنا ينتهي مطلبُ الشيخ الحائري (قده) في تقريره لمسألة استصحاب الكلّي من القسم الثالث، بعد أن أقام برهانه على كون الشكّ في المقام شكًّا في البقاء لا في الحدوث، وبنى عليه جريانَ الاستصحاب بملاحظة صرف الوجود.
وقد وافقه على هذا المبنى جمعٌ من الأعلام:
منهم الشيخ محمد علي الأراكي (قده) في تعليقته على كتاب الدرر، إذ أقرَّ مبنى أستاذه في النتيجة، وإنْ سلك في تقريره طريقًا برهانيًّا آخر في الاستدلال.
وكذلك تلميذه الآخر الميرزا محمود الإشتياني (قده) حيث صرّح بموافقته لأستاذه في أصل الجريان([3] ) .
ونعم، فإنّ الشيخ الحائري (قده) في النتيجة العامّة قد وافق ما أفاده السيد محمد كاظم اليزدي (قده)، الذي ذهب إلى جريان الاستصحاب مطلقًا في أقسام الكلّي.
[سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ]