47/04/19
الاستصحاب الكلي/الاستصحاب /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب /الاستصحاب الكلي
كان الكلام في بيان رأي المحقق النائيني (قده) في استصحاب الكلّي من القسم الثالث، وقد ذهب (قده) إلى ما انتهى إليه أستاذه صاحب الكفاية (قده) من عدم جريان الاستصحاب مطلقاً في هذا القسم؛ لأنّ أركانه غير تامة، فلا يقين بحدوث الكلي في ضمن فرد معلوم البقاء، ولا شكّ في بقائه على نحو يصدق معه البقاء حقيقة.
ثمّ ذكر (قده) ما قد يُتوهَّم وجهًا لجريان الاستصحاب في هذا المورد، وهو في الحقيقة تعريضٌ بكلام الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) الذي ذهب إلى الجريان، فبيّن المحقق النائيني هذا التوهّم تمهيداً لمناقشة مبناه (قده) ونقض دليله على الجريان.
بيان ذلك: كما لو علمنا بخروج زيدٍ من الدار، فعليه يكون الكلّي الموجود في ضمن زيد قد خرج وارتفع بارتفاعه، ثم نحتمل أنّه قبل خروج زيد كان في الدار عمروٌ أيضاً، فيكون هناك احتمالٌ لبقاء الكلّي في الدار بعد خروج زيد، بمعنى أنّه وإن ارتفع الكلّي الموجود في ضمن زيد، إلا أنّه يحتمل وجود كليٍّ آخر متحقّقٍ في ضمن عمرو.
وقد تقدّم أنّ هذا الاحتمال لا مدفع له، أي لا يمكن رفعه أو إنكاره، لأنّه من الاحتمالات الوجدانية التي لا سبيل إلى منعها. إلا أنّ النقطة الفارقة التي أراد المحقق النائيني (قده) بيانها في مقابل الشيخ الأعظم (قده) في غاية الأهمية.
وحاصلها: أنّ الشيخ الأعظم (قده) ـــ كما يقرر المحقق النائيني ـــ توهّم أنّ الكلّي الذي كان متحقّقاً في ضمن زيد وارتفع بخروجه هو بعينه الكلّي الذي نحتمل بقاؤه في ضمن عمرو، فعدَّ الشكَّ في بقاء الكلّي شكّاً في بقاء نفس الكلّي الذي تيقّنا بوجوده سابقاً، فتصوّر أنّ أركان الاستصحاب تامة، لوجود اليقين بالحدوث في ضمن زيد، والشك في البقاء بعد خروجه، فبنى على جريان الاستصحاب في هذا القسم.
إلا أنّ المحقق النائيني (قده) سيُبيّن لاحقاً أنّ هذا التوهّم في غير محلّه، لأنّ الكلّي المحتمل وجوده في ضمن عمرو غير الكلّي المتيقَّن وجوده في ضمن زيد، فلا يصدق معه الشك في البقاء، بل هو شك في الحدوث من رأس، لا في البقاء، ومن هنا منع جريان الاستصحاب في هذا القسم مطلقاً.
ولذلك قال (قده) "ولكنّ الإنصاف: أنّ فساد هذا التوهّم ـــ وهو أنَّه بعد ارتفاع الفرد الخاصّ (زيد) نشكّ في ارتفاع الكلّي لاحتمال قيام الكلّي في فردٍ آخر مقارناً لوجود الفرد الذي علمنا بحدوثه وارتفاعه ـــ بمكانٍ يُغني تصوّره عن ردِّه، بداهةَ أنّ العلم بوجود الفرد الخاصّ في الخارج إنما يلازم العلم بوجود حِصّةٍ من الكلّي في ضمن ذلك الفرد، لا أنّه يلازم العلم بوجود الكلّي بما هو هو"([1] ).
وحاصل مراده (قده): -ومن هنا تبدأ الخدشة فيما أفاده الشيخ الأعظم (قده)- فنحن وإن سلّمنا بوجود شكٍّ في الكلّي ـــ كما تقدّم ـــ إلا أنّ هذا الشكّ ليس شكّاً في بقاء الكلّي السابق ليكون من سنخ القسم الثاني، بل هو شكٌّ ابتدائيٌّ في حدوث كليٍّ آخر في ضمن فردٍ جديد، وهو عمرو، بعد ارتفاع الكلّي المتحقّق في ضمن زيد.
فالكليّ الذي كان في ضمن زيد قد ارتفع بارتفاع حصّته الخاصة، وما يحتمل الآن وجوده في ضمن عمرو إنما هو كليٌّ آخر محصَّص بحصّةٍ مغايرة، لا أنه بقاءٌ لذاك الكلي الأول، فالمورد من الشكّ في الحدوث لا من الشكّ في البقاء.
وبتعبيرٍ آخر: لا يوجد عندنا كلّي محفوظ بما هو هو حتى يقال: نشك في بقائه بعد ارتفاع فرده، بل الموجود في الزمان الأوّل كان حِصّةً مخصوصة من الكلّي، وقد ارتفعت بارتفاع فردها، والاحتمال اللاحق إنما هو احتمال حدوث حِصّةٍ ثانية من ذلك الكلّي، لا احتمال بقاء الحصّة السابقة، ومن ثمّ لا يتحقق موضوع الاستصحاب أبداً، لانتفاء اليقين بالحدوث في نفس ما يُشكّ في بقائه.
ثمّ عقّب (قده) قائلاً:
بل للفردِ الخاصِّ دخلٌ في وجود الحصّة حدوثاً وبقاءً، والحصّةُ من الكلّي الموجودةُ في ضمن الفردِ الخاصّ تُغايرُ الحصّةَ الموجودةَ في ضمن فردٍ آخر، ولذا قيل: إنّ نسبةَ الكلّي إلى الأفراد كنسبة الآباء المتعدّدين إلى الأبناء المتعدّدين"
وحاصلُ كلامه (قده):
إنّ الجميع متّفقٌ على أنّ الكلي الطبيعي من حيث الماهية واحدٌ لا تعدّد فيه، فمثلاً كليّ الإنسان ـ بما هو مفهوم نوعي متواطئ ـ واحدٌ لا يقبل التشكيك، إذ لا اختلاف في الماهية بين إنسانٍ وإنسان، لأنّها ماهية متواطئة مشتركة بين الأفراد.
غير أنّ محلّ الكلام في المقام ليس هو من جهة الماهية، بل من جهة الوجود الخارجي للكلّي، فإنّ الوجود للكلّي لا يتحقّق إلا في ضمن فردٍ خاصّ، ووجودُه في كلّ فردٍ يختلف عن وجوده في الفرد الآخر، ولذلك شبّه (قده) نسبة الكلي إلى أفراده بنسبة الآباء المتعدّدين إلى الأبناء المتعدّدين، لا بنسبة الأب الواحد إلى أبناء متعدّدين، إذ لكلّ فردٍ وجودٌ مستقلّ يختصّ به حصّةٌ من الكليّ مغايرةٌ للحصّة الموجودة في غيره.
وعليه، فالكليّ الموجود في ضمن زيد هو حِصّةٌ خاصّة من الكلي الطبيعي، والكليّ الموجود في ضمن عمرو حِصّةٌ أخرى متميّزة عنه، فبارتفاع زيد يرتفع وجود تلك الحصّة، وما يوجد بعده في ضمن عمرو ليس بقاءً للكلي الأول، بل حدوثٌ لحصّةٍ جديدة من نفس الماهية الكليّة.
وهذا التعدّد في الحصص لا ينافي سعة الكلي الطبيعي في حدّ ذاته، لأنّ تلك السعة ناظرةٌ إلى المفهوم الماهوي لا إلى الوجود الخارجي؛ إذ التعدّد إنما ينشأ من المشخِّصات الوجودية الخارجية، وهي التي تُحدث التمايز بين الأفراد، أما الماهية الكلية فثابتة في نفسها لا تشخّص لها من حيث هي.
ولذلك أراد (قده) أن يُفرِّق في تحقيق المسألة حتى من جهة العرف، لا من الناحية الفلسفية فقط، فبيّن أنّه لا البرهان العقلي يساعد على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم (قده)، ولا العرف أيضاً يشهد بمثله؛ لأنّ العرف يرون أنّ الكلّي القائم في ضمن زيد غيرُ الكلّي القائم في ضمن عمرو، فهما وجودان متغايران، لا يصدق على أحدهما أنه بقاء للآخر.
ولهذا قال (قده): "فإنّه في القسم الثاني نفسُ المتيقَّن الحادث مشكوكُ البقاء، وفي القسم الثالث المتيقَّنُ الحادث مقطوعُ الارتفاع، وإنّما الشكُّ في حدوثِ حصّةٍ أخرى مغايرةٍ للحصّة الزائلة" .
ثمّ قلَّب المحقق النائيني (قده) رأيَ الشيخ الأعظم (قده) في هذا المقام، وتأمّل فيه على ضوء القاعدة، فاستغرب منه، ولم يُخفِ استغرابه، فقال (قده)"الغريب ! ما اختاره الشيخ - قدس سره - من جريان استصحابالكلي في هذا القسم"
يعني: كيف قال الشيخ الأعظم بجريان الاستصحاب في القسم الثالث؟!.
وقد كان منشأ استغرابه من وجهين:
الوجه الأوّل:
أنّ ركن اليقين بالحدوث في هذا القسم غير متحقّق بعد ارتفاع الفرد الأوّل؛ لأنّ الكلي الذي كان متيقَّناً في ضمن زيد قد ارتفع بارتفاعه، وما يحتمل بقاؤه في ضمن عمرو ليس بقاءً له، بل حدوثٌ جديد لحصّةٍ أخرى، فلا مورد لليقين بالحدوث كي يُبنى عليه الشك في البقاء، فكيف يُتصوّر جريان الاستصحاب؟
الوجه الثاني (وهو مبنائي):
أنّ الشيخ الأعظم (قده) قد صرّح في مباحثه الأصولية بأنّ الاستصحاب إنما يجري بعد إحراز المقتضي والشك في الرافع، وأمّا مع الشك في المقتضي فلا مجال له؛ لأنّ المقتضي هو الركن الأساس لتحقق البقاء. والمقام من هذا القبيل، إذ الشكّ هنا في المقتضي لا في الرافع، فكيف التزم الشيخ (قده) بجريان الاستصحاب هنا؟!
إلا أنّ بعض الأعلام حاول توجيه كلام الشيخ الأعظم (قده) بإنّ الشيخ (قده) نفسه لم يلتزم في مباحثه الفقهية، بما قرّره في الأصول، بل يمكن أن يكون جرى في هذا المقام مع القوم، فإنهم لم يفرّقوا في جريان الاستصحاب بين فرض الشك في المقتضي وفرض الشك في الرافع، إلا على رأي المحقق الخوانساري الذي تقدّم ذكره. فبناءً عليه، فالشيخ الأعظم سار مع المشهور في هذا المورد، لا على مبناه الدقيق في الاستصحاب.
ثمّ ختم المحقق النائيني (قده) كلامه بقوله: "فالإنصاف: أنّه ما كنّا نترقّب من الشيخ (قدس سره) اختيارَ ذلك"
وحاصل مراده (قده):
أنّ مثل الشيخ الأعظم (قده)، بما له من عمقٍ في القواعد وتحقيقٍ في الأركان، لا يُتوقّع منه أن يختار القول بجريان الاستصحاب في هذا القسم؛ لعدم تمامية أركانه واقعاً، فكان هذا الاختيار منه ــ لو تمّ ــ خلافاً لما هو المنتظر من دّقة نظره .
فيتبين من كل ما تقدم أنّ هناك مجموعة من الأقوال حول جريان الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلي، ولما كان الاستدلال على اختيار القول بالجريان من عدمه في كلامهم مشابه لما تقدم فنقتصر على ذكر من خالف الشيخ الأعظم من الأعلام دون التعرض لكلامهم تفصيلًا نعم ينبغي للطالب مراجعة كلماتهم في محلها فنقول اختار المشهور من المحققين المتأخرين المنع من الجريان مطلقاً خلافا للشيخ الأعظم حيث فصل بين الصورة الأولى والثانية كما تقدم .
فاختار عدم الجريان كلٌّ من:
السيد الخوئي (قده)، وكذلك صاحب المنتقى، السيد محمد الروحاني (قده)، وأمّا السيد الخميني (قده)، فـكلامه غير واضح تماماً في الجهة النهائية؛ إذ صرّح في مواضع بأنّ الميزان هو اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة عرفاً، إلّا أنّه عاد فقال إنّ المسألة محتاجة إلى مزيد تأمّل، لما فيها من خدشةٍ وإشكالٍ ونقضٍ، مما يدلّ على أنّه لم يقطع بمبنى محدّد فيها.
وكذلك تلميذ الشيخ الأعظم الأنصاري (قده)، وهو الشيخ موسى التبريزي، فقد ذهب في كتابه إلى عدم الجريان([2] ).
كما ذهب إلى عدم الجريان أيضاً السيد عبد الله الشيرازي ([3] )وكذلك الميرزا محمد باقر الزنجاني ([4] ).
كما تبنّى هذا الاتجاه الشيخ علي الفلسفي في تقريرات تلميذه الشيخ محسن قديري الموسومة بـ المستفاد فيما أفاده شيخنا الأستاذ، فصرّح أيضاً بعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم. هذا ولكن لما كان للمحقق الحائري صاحب الدرر تقريب اخر للاستدلال على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام الكلي ينبغي التعرض لما أفاد (قده)، حيث اختار ــ على خلاف ما انتهى إليه أستاذه صاحب الكفاية (قده) ــ جريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثالث مطلقاً. فبينما يرى الآخوند الخراساني (قده) عدم الجريان مطلقاً لانتفاء الشك في البقاء، ذهب الشيخ الحائري إلى إمكان الجريان، بناءً على تحقّق عنوان الشك في البقاء عرفاً في بعض الموارد، كما إذا احتملنا بقاء الكلي في ضمن فردٍ آخر بعد ارتفاع الفرد الأول. لكنه كما تقدم دخل إلى المسألة بطريقة ثانية تستوجب الوقوف عندها؛ إذ ربط المسألة بمبحث الثبوت والنفي، أي بكيفية تحصيل الطبيعة وتطبيقها خارجاً.
فقال (قده) إنّ البحث يرجع إلى كيفيّة تعلّق الأمر بالطبيعة، هل المطلوب من المولى صرف الوجود، أو الاستغراق، أو الكلّي بما هو هو؟ فمثلاً إذا أمر المولى بالصدقة على نحو صرف الوجود، فمعناه أنّه يريد تحقّق طبيعي الصدقة خارجاً ولو في فردٍ واحد، لا تحقّقها في جميع الأفراد.
فلو قال المولى: تصدّقْ على فقيرٍ، فإنّ الامتثال يحصل بالتصدّق على فقيرٍ واحدٍ؛ لأنّ المطلوب هو إيجاد الطبيعي في الجملة، لا استيعاب جميع الأفراد. وعليه، إذا سُئل المكلّف: هل حقّقتَ وجود الصدقة في الخارج؟ فجوابه نعم؛ لأنّ صرف الوجود قد تحقّق بوجود فردٍ واحدٍ منه.
وأمّا إذا كان الخطاب نهياً، كما لو قال المولى: لا تكذبْ، مع أنّ أفراد الكذب كثيرة ومتعددة، فإنّ معنى النهي حينئذٍ هو الزجر عن إحداث أيّ فردٍ من أفراد طبيعة الكذب، أي أنّ المطلوب عدم تحقّق الطبيعة في الخارج بتمام أفرادها، فلابدّ من إعدام جميع مصاديقها وعدم وقوع أيّ فرد منها.
فإذا كذب المكلّف مرّةً واحدة، لم يمتثل؛ لأنّ الطبيعة لم تُعدَم، بل وُجد منها فرد، فخرج عن مقتضى النهي. ومن هنا يظهر أنّ في جانب الوجود المطلوب هو تحقّق صرف الوجود، أمّا في جانب العدم فالمطلوب هو إعدام الطبيعة بتمام أفرادها، أي تحقّق السلب الكلّي.
وعليه، لا يتحقق الامتثال في النهي إلا باليقين بعدم وجود أيّ فردٍ من أفراد الطبيعة، إذ المطلوب عدم طبيعي الكذب على نحو الاستغراق في الأفراد. فلابدّ من إحراز هذا العدم إحرازاً قطعياً، لا بمجرد الظنّ أو الاحتمال.
ومن ثَمّ، بنى المحقق الحائري (قده) على هذا التحليل فقال: إذا خرج زيد من الدار، وكان الكلّي المتحقّق في ضمنه قد ارتفع بخروجه، فلابدّ من اليقين بعدم وجود أيّ فردٍ آخر من أفراد الكلي داخل الدار، حتى يتحقق إعدام الطبيعة. أمّا إذا لم يحصل هذا اليقين، فحينئذٍ نشكّ في وجود فردٍ آخر للكلّي، وبما أنّ الشكّ في البقاء ناشئ عن احتمال وجود حصة ثانية من الكلي، فإنّ الاستصحاب يجري لإبقاء الكلي المتيقّن سابقاً.
وبيّن (قده) أن منشأ الجريان هنا هو أنّ الموجبة الجزئية نقيضها السالبة الكلية، فاليقين بوجود الكلي في ضمن فردٍ واحدٍ (زيد) يقابله الشك في انعدام الطبيعة بتمامها بعد خروجه، وهذا يحقّق اليقين بالحدوث والشك في البقاء، فتتمّ أركان الاستصحاب.
ومن هنا اتفق المحقق الحا (قده) في النتيجة مع ما ذهب إليه السيد اليزدي (قده) من القول بجريان الاستصحاب مطلقاً في هذا القسم، إلا أنّ طريقتهما في البرهان مختلفة.
وعليه، يمكن عدّ ما ذكره السيد الروحاني (قده) مطلباً جديداً مبتكراً في تصوير جهة الجريان، إذ أقحم فيه مبحث صرف الوجود والسلب الكلي ليثبت أنّ مناط الاستصحاب محفوظ عرفاً في هذا القسم.
وللكلام بقية…
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]