47/04/12
التنبيه الاول/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبيه الاول
ما زال الكلام في التنبيه الأول من تنبيهات الاستصحاب وهو بحسب تبويب الشيخ الأعظم يتعلق بالبحث عن استصحاب الكلي – وقد تقدّم في الدروس السابقة – ان الشيخ الأعظم (قده) قسّم البحث في استصحاب الكلّي إلى أقسام ثلاثة وذلك لأن الكلي المتيقن سابقا في ضمن الفرد قد شك في بقائه.
فان كان الشك في بقائه من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد فهو القسم الأوّل: اي يكون المتيقَّن هو وجود كلّي في ضمن فرد معيّن وقد ترتّب عليه أثر شرعي، فيُستصحب بقاؤه ما دام الشك في بقائه ناشئاً عن احتمال ارتفاع ذلك الفرد، كما لو علمنا بوجود إنسان – كزيدٍ مثلاً – ثم شككنا في موته، فهل يمكن استصحاب بقاء هذا الكلّي أو لا؟ و لا إشكال في جريان الاستصحاب في مثل هذا المورد.
والقول بجريان الاستصحاب في هذا القسم واضح جداً، ولذا لم نُطِل الوقوف فيه.
وأمّا ان كان الشك في الكلى من جهة الشك في تعيين ذلك الفرد وتردده بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع كذلك فهو القسم الثاني وقد اشتهر بين الأعلام جريان الاستصحاب فيه كالقسم الأول.
وحاصل هذا القسم: أن يكون المتيقَّن هو وجود كلّي في ضمن فرد مردَّدٍ بين كونه قصير العمر و طويل العمر، فنشكّ في بقاء هذا الكلّي المتيقن سابقا بعد ارتفاع الفرد القصير لاحتمال تحقق الكلي في ضمن الفرد طويل العمر.
وهذا هو القسم الذي تناولناه بالبحث في الفترة السابقة، وتبيَّن لنا من خلاله تباينُ كلمات الأعلام واختلافُ مناهجهم في تصوير جريان الاستصحاب فيه وعدم جريانه. وعلى ضوء ذلك طُرحت الشبهة العبائية المشهورة التي أوردها السيّد إسماعيل الصدر (قده)، كما تقدَّم بيانه مفصَّلاً.
وأمّا الآن فقد وصل بنا البحث إلى القسم الثالث من استصحاب الكلّي، وهو من المباحث المهمّة التي ينبغي الوقوف على رأي الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) فيها. فإنه بعد ان فرغ من بيان القسم الثاني، أعقب ذلك بذكر القسم الثالث في فرائده بقوله: "وأمّا الثالث…"على ما سيأتي ولا بُدَّ أولاً من بيان حقيقة هذا القسم، ثم التعرّض لحكمه.
وحاصل تصويره: أن نعلم بوجود الكلّي متمثّلاً بفردٍ معيَّن – كما إذا علمنا بوجود إنسان في الدار وهو زيد – ثم نشكّ في وجود فرد آخر معه. فلو علمنا بخروج زيد من الدار، لكن نشكّ هل كان معه عمرو أصلاً أم لا؟ فالكلي المتيقَّن (المتمثّل بزيد) قد خرج، غير أنّه يُحتمل وجود كلّي آخر متمثّل بعمرو. وعليه، إن كان عمرو موجوداً فالكلّي أيضاً موجود، وإن لم يكن موجوداً فالكلي قد ارتفع.
وتارةً ينشأ الشك من احتمال دخول عمرو بعد خروج زيد، أي أنّ الفرد الأوّل (زيد) خرج من الدار، ولكن نحتمل أنّه بعد خروجه دخل فردٌ آخر (عمرو)، فيتحقّق الكلّي به. وتارةً أخرى يكون الشك من جهة التبدّل، أي أنّ الذي ارتفع قد تبدّل من حالة إلى حالة، فيُحتمل أنّ الكلّي قد بقي بفرد آخر.
فهذا القسم الثالث إذن له صورتان رئيسيّتان:
الصورة الأولى: الشك في وجود فرد آخر مع الفرد الأوّل (احتمال المقارنة).
الصورة الثانية: الشك في دخول فردٍ آخر بعد خروج الأوّل (احتمال التعاقب أو التبدّل).
وعلى ضوء هذا يُثار البحث: هل يجري استصحاب الكلّي في مثل هاتين الصورتين أم لا؟ وقد وقع الخلاف بين الأعلام في هذه المسألة أيضاً، لما يترتّب عليها من آثار فقهيّة مهمّة ستأتي الإشارة إليها في مباحث لاحقة إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ الأعظم الأنصاري (قده):
"وأمّا الثالث – وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلّي مستنداً إلى احتمال وجود فردٍ آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه…"[1] .
ومفاد كلامه (قده): أنّ أركان الاستصحاب متحقّقة؛ لأنّنا كنّا نعلم بوجود الكلّي في الجملة، ولكن منشأ الشك في بقائه ليس احتمال بقاء نفس الفرد الأوّل، بل احتمال وجود فردٍ آخر من ذلك الكلّي.
وتطبيقه: أن نعلم بوجود زيد في الدار (فقد تحقّق العلم بالحدوث)، ثم نعلم بخروجه (فقد تحقّق العلم بالارتفاع)، غير أنّ الشك ينشأ من احتمال وجود فرد آخر –وهو عمرو– في الدار. ففي القسم الثالث إذن يوجد عندنا فرد معلوم الحدوث ومعلوم الارتفاع، وفي مقابله فرد آخر مشكوك الوجود ابتداءً، ومن هذا الاحتمال يتولّد الشك في بقاء الكلّي، ونتساءل هل يجري استصحاب الكلّي في مثل هذا المورد أو لا؟.
ثم قال(قده) في تتمة كلامه:
"فهو على قسمين، لأنّ الفرد الآخر إمّا أن يُحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله… وإمّا أن يُحتمل حدوثه بعده… إمّا بتبدّله إليه وإمّا بمجرّد حدوثه مقارناً لارتفاع ذلك الفرد"[2] .
وبيان ذلك: أنّ منشأ الشك في بقاء الكلّي في القسم الثالث له صورتان أساسيتان:
الأولى: صورة احتمال المقارنة:
أن يكون عندنا علم بوجود زيد في الدار، ولكن نحتمل أنّ هناك فرداً آخر – كعمرو – موجوداً معه مقارناً له. فالكلي الذي نعلم بوجوده قد يكون باقياً بسبب هذا الفرد الآخر المحتمل وجوده، فينشأ الشك في ارتفاعه من احتمال وجود عمرو مع زيد. ومثال ذلك: أن نسمع صوتاً خافتاً أو نرى قرينة توحي بوجود شخص آخر مع زيد ولكن لا نقطع به، فيحتمل أنّ الكلّي (الإنسان) باقٍ بوجود عمرو وإن كان زيد قد خرج.
الثانية: صورة احتمال التعاقب أو التبدّل:
أن يكون عندنا علم بخروج زيد من الدار، ولكن نحتمل أنّ عمراً قد دخل بعد خروجه. وهذا الاحتمال له بدوره صورتان فرعيّتان كما أشار (قده):
تبدّل الفرد الأوّل بالثاني: أي أنّ الفرد المعلوم (زيد) ارتفع لكن تحقّق الكلّي بفردٍ آخر على نحو التبدّل.
حدوث الفرد الثاني مقارناً لارتفاع الأوّل: أي أنّ الفرد الثاني (عمرو) لم يكن موجوداً أصلاً، وإنّما حدث عند ارتفاع الأوّل (زيد) أو مقارناً لخروجه.
فهذه الصور الثلاثة (المقارنة، والتعاقب، والتبدّل) هي التي تشكّل أركان تصوير القسم الثالث، وهي محلّ البحث بين الأعلام: هل يجري استصحاب الكلّي في مثل هذه الموارد أو لا يجري؟.
بعد أن فرغ الشيخ الأعظم (قده) من بيان صور القسم الثالث، ذكر الأقوال في حكم هذه المسألة، وهي على ثلاثة اتجاهات.
القول الأوّل: الجريان مطلقاً.
أي القول بجريان استصحاب الكلّي في الصورتين معاً (صورة المقارنة وصورة التعاقب). وقد علّل القائلون بهذا الرأي بما يلي: إنَّ أركان الاستصحاب – من اليقين السابق والشك اللاحق – متحقّقة في الكلّي، فيكفينا ذلك للحكم بجريان الاستصحاب فيه وإن لم نحرز شخص الفرد أو هويته.
فقال (قده) "وفي جريان استصحاب الكلّي في كلا القسمين نظراً إلى تيقّنه سابقاً وعدم العلم بارتفاعه، وإن علم بارتفاع بعض وجوداته وشكّ في حدوث ما عداه، لأنّ ذلك مانعٌ من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلّي كما تقدّم نظيره في القسم الثاني"[3] .
ومفاد عبارته (قده): أنّ لدينا يقيناً سابقاً بوجود الكلّي، كما أنّ لدينا شكّاً لاحقاً في بقائه، وإنْ كنّا نعلم بارتفاع بعض أفراده – كزيد – ونشكّ في حدوث غيره – كعمرو –؛ فهذا لا يمنع من استصحاب بقاء نفس الكلّي. ومن هنا يرى أصحاب هذا القول أنّ استصحاب الكلّي يجري على إطلاقه، لتماميّة أركانه فيه، وأنّ المانع إنّما هو في الأفراد لا في الكلّي نفسه، كما تقدّم نظيره في القسم الثاني.
القول الثاني: عدم الجريان في الصورتين
قال الشيخ الأعظم (قده) عند ذكره للقول الثاني:
"أو عدم جريانه فيهما، لأن بقاء الكلّي في الخارج عبارة عن استمرار وجوده الخارجي المتيقَّن سابقاً، وهو معلوم العدم – لأن زيد في الفرض قد خرج – وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه والقسم الثاني…".
وبيان ذلك: أنّ القائلين بعدم الجريان يرون أنّ بقاء الكلّي في الخارج ليس إلا استمرار نفس الوجود الخارجي المتيقَّن سابقاً، بحيث يكون المشكوك هو عين ذلك الوجود. وفي المقام نحن نعلم أنّ الفرد المتيقَّن (زيد) قد خرج وارتفع؛ فوجوده الخارجي المتيقَّن سابقاً قد انعدم. وأمّا الفرد الآخر (عمرو) فمشكوك الوجود من البداية، بل هو – بحسب الفرض – معلوم العدم في الزمان السابق. فليس لدينا بقاء لوجود خارجي متيقَّن حتى يُستصحب.
وبهذا يختلف القسم الثالث عن القسم الثاني؛ ففي القسم الثاني لم نكن نعلم أنّ الفرد قصير العمر أو طويله، فاحتمال البقاء يرجع إلى نفس الفرد المتيقَّن في السابق (الحدث الأصغر أو الأكبر، الحيوان القصير أو الطويل)، فنستصحب الكلّي من هذه الجهة. أمّا في المقام فنعلم أنّ الفرد الأوّل قد ارتفع وانعدم، والفرد الآخر مشكوك من أوّل الأمر، فليس عندنا "بقاء عين الوجود المتيقَّن سابقاً" حتى يصدق الاستصحاب، بل هو وجود جديد محتمل لا استمرار فيه. ومن هنا قال (قده): "حيث إن الباقي في الآن اللاحق هو عين الوجود المتيقَّن سابقاً"؛ أي أنّ مناط الاستصحاب هو استمرار عين ذلك الوجود السابق، وهذا منتفٍ في محل الكلام.
القول الثالث: القول بالتفصيل
قال الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) (في فرائد الأصول)
"أو التفصيل بين القسمين: فيجري في الأوّل، لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً، فيتردّد الكلّي المعلوم سابقاً بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه – كزيد –، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد – كعمرو –، فالشكّ حقيقة إنما هو في مقدار استعداد ذلك الكلّي، واستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلّي. وجوه، أقواها الأخير"[4] .
بيان مراده (قده):
إنّ أصل البحث في هذا القسم يدور حول أنّ لدينا يقيناً بوجود الكلّي أوّلاً (متمثّلاً بزيد)، ثم بعد ذلك نحتمل وجود فرد آخر معه (كعمرو). فإذا خرج زيد من الدار، يطرأ احتمال بقاء الكلّي بوجود عمرو. فالكلام ليس في بقاء زيد نفسه، لأنّنا نعلم أنّه خرج، وإنّما الكلام في بقاء الكلّي بما هو كلّي، لاحتمال تحقّقه في فرد آخر غير زيد.
وبعبارة أخرى: لدينا يقين بالحدوث وشكّ في الارتفاع، لكن هذا الشكّ ليس في ارتفاع الفرد المعلوم (زيد) – إذ هو معلوم الارتفاع – وإنّما في ارتفاع الكلّي نفسه لاحتمال بقائه في فرد آخر (عمرو). والكلي هنا واحدٌ مجرّد عن الخصوصيّات الفرديّة؛ فكما يمكن أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد الأوّل، كذلك يمكن أن يكون على نحو يرتفع بارتفاعه. فالشكّ في الحقيقة متعلّق بـ "مقدار استعداد الكلّي" وامتداده الخارجي، لا بتعيين شخص الفرد.
ومن هنا يظهر وجه التفصيل:
يجري الاستصحاب في الصورة الأولى (احتمال المقارنة)، لأنّ احتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقاً قائمٌ، فيتحقّق أركان الاستصحاب.
ولا يجري في الصورة الثانية (احتمال التعاقب)، لأنّ استصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك – أي عمرو – لا يثبت تعيين استعداد الكلّي ولا يحرز بقاء نفس الكلّي الذي كان متيقَّناً.
وقد أشار (قده)إلى أنّ هذه الوجوه متعددة، وأقواها الأخير، أي هذا التفصيل.
وللكلام تتمة..