« فهرست دروس
الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الشبهة العبائية/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /الشبهة العبائية

 

لازال الكلام في ما يُعرف بـ (الشبهة العبائية) وقد تقدم أنّه لا يمكن ــ بحسب هذه الشبهة ــ الالتزام بما أفاده المشهور من طهارة ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة، والقول بجريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثاني. فالجمع بين هذين المبنيين غير ممكن.

وتقدم كذلك ان هذه الشبهة تارةً تُطرح بعنوان الإشكال، وأخرى على نحو النقض على ما أفاده الأعلام.

وقلنا أيضاً: إنَّه على فرض ثبوت الشبهة فأما أن نتراجع عمّا أفتى به المشهور، فنلتزم بأنّ ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة لا يُحكم بطهارته، بل يُحكم بنجاسته.

وأما أن نقول بعدم جريان استصحاب الكلّي من القسم الثاني، فنوافق ما ذهب إليه السيّد اليزدي في حاشيته على المكاسب من عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلي، وكذلك ما أفاده المحقّق العراقي من المنع عن جريانه. هذا ولكن المحقِّق النائيني (قده)، قد فتح باب المناقشة في الشبهة العبائية، وذكر لها جوابين:

الأوّل، أورده في كتابه الفوائد، والثاني، ذكره في أجود التقريرات. وسنقف على كلا الجوابين في موضعيهما من الكتابين.

أما الموضع الاول، فقد وضع فيه المحقق النائيني (قد) ميزاناً في استصحاب الكلّي من القسم الثاني، واستفاد من هذا الميزان في ردّ الشبهة العبائية، فأراد أن يبيّن لصاحب الشبهة أنّ ما طُرح لا ربط له باستصحاب الكلّي من القسم الثاني؛ إذ الميزان المعتبر في هذا القسم مفقود هنا، وهذا تنظير دقيق منه (قده).

وبيانه: أنّ مثال العباءة لا ينطبق على محلّ الكلام في استصحاب الكلّي من القسم الثاني، ولذلك أورد مثالاً آخر ليُوضّح المائز. فتصبح النتيجة على ما افاد أنّ صاحب الشبهة قد اشتبه في تنزيل مورده على هذا القسم. وعليه، يبقى التزامنا على حاله: فنحكم بطهارة ملاقي أحد الأطراف كما هو قول المشهور، ونلتزم أيضاً بجريان استصحاب الكلّي من القسم الثاني كما هو رأينا، فلا نتراجع عن الأوّل ولا عن الثاني، وإنّما نقول: إنّ هذه الشبهة أجنبية عن محلّ البحث، وهي أقرب إلى ما يُعرف باستصحاب الفرد المردَّد.

أمّا معنى الفرد المردَّد، فكما لو علمنا بأنّ المطلوب إمّا صلاة الظهر أو صلاة الجمعة. فكلّ واحدة منهما واضحة بحدِّها الفردي: فالظهر فرد متميّز بأربع ركعات، والجمعة فرد متميّز بركعتين وخطبتين. والجامع بينهما هو عنوان الصلاة بما هي كلي، ينطبق على كلٍّ منهما.

لكن في مقام الفرد المردَّد لا يكون البحث عن الكلّي، بل عن الجزئي المعيَّن، وإنّما يقع الترديد في خصوصيته: هل هو فرد الظهر أو فرد الجمعة؟ وعليه، فالفرد بما هو فرد لا يقبل الترديد؛ إذ الشيء لا يكون إلا هو نفسه، وإنّما جاء الترديد من جهلنا بالخصوصية المعيَّنة، لا من طبيعة الفرد في نفسه.

ومن هنا، كما قيل في تصوير العلم الإجمالي إنّه علم ب ـ"الفرد المردَّد"، وقد نُسب هذا التعبير إلى صاحب الكفاية في الواجب التخييري، لكن الأعلام نقدوا ذلك؛ لأنّه لا يتصوّر في الخارج شيء باسم "فرد مردَّد" حتّى يتعلّق به العلم. فالترديد ليس في نفس الفرد، بل في إدراكنا نحن: هل نحن مكلَّفون بالظهر أو بالجمعة؟ ولذا كان هذا التعبير غير دقيق، وقد طال فيه الكلام.

إذن، المحقّق النائيني (قده) يقرّر أنّه لا بدّ من وجود ميزان يميّز به: هل المورد من موارد استصحاب الكلّي من القسم الثاني، أو أنّه يرجع إلى ما يُعبّر عنه بالفرد المردَّد؟ وبناءً على هذا الميزان، يتّضح أنّ ما أفاده السيّد الصدر (قده) في الشبهة العبائية لا ارتباط له باستصحاب الكلّي من القسم الثاني، وعليه فلا يرد بذلك ما ذكره من شبهة لا إشكالا ولا نقضا.

إذن، لا بدّ من الرجوع إلى كلمات المحقّق النائيني (قده) لتمييز الميزان الفاصل في موارد الانطباق وعدم الانطباق.

لذلك قال (قده) "ثم لا يخفى عليك: أن محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن السابق بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء"[1]

وخلاصة الكلام: إنَّ الكلّي الطبيعي يوجد بوجود فرده، فالمقصود في هذا الباب أن نفس العنوان الكلّي (كالحدث أو الحيوان) ــ بحدّه وهويته ــ يكون مُردَّداً بين فردٍ مقطوع الارتفاع وفردٍ مقطوع البقاء (كأن يكون الوجود الواحد: بقَةً أو فيلاً). فالمناط على العنوان الكلّي لا على تشخيص الأفراد. ولما كان الاستصحاب تعبّداً شرعياً، فلا يجري إلا مع أثرٍ شرعي لنفس ذلك العنوان. ومن ثَمَّ كان مثال كُلّي الحدث أوضح الموارد: فآثاره العامّة (كحرمة مسِّ كتابة القرآن وعدم صحّة الصلاة مع الحدث) تترتّب على عنوان "المُحدِث" سواء كان حدثه أصغر أو أكبر، بخلاف الآثار المختصّة بالأكبر (كالمكث في المسجد). وعليه، لا يثبت بالاستصحاب تعيينُ الفرد، بل يحتاج رفعُ كلٍّ من الأكبر والأصغر إلى رافعه الخاص (الغُسل للأكبر، والوضوء للأصغر). ومن هنا طلب المحقّق النائيني (قده) ضبطَ "كالميزان" في موارد الانطباق.

ثم قال (قده) "كالأمثلة المتقدمة - كأمثلة الحدث وأمثلة البقة والفيل - وأما إذا كان الاجمال والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته – فلا يوجد اشكال في ذلك - فهذا لا يكون من الاستصحاب الكلي بل يكون كاستصحاب الفرد المردد الذي تقدّم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي التردي"

فهنا يتّضح رأي المحقّق النائيني (قده) في استصحاب الفرد المردَّد. فلو كان المطلوب مردَّداً بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة، فأتى المكلَّف بصلاة الظهر، لم يمكنه أن يستصحب عنوان الصلاة ليبني على الإتيان بصلاة العصر؛ لأنّ الاستصحاب لا يثبت كون المأتيّ به هو الفرد المطلوب.

ثم (قده) سيأتي بمثال شبيه - من جهة الحكم -بالفرد المردد. فقال (قده) "فلو علم بوجود الحيوان الخاص -يعني الجزئي بمعنى هو يعلم بوجود الحيوان الخاص - في الدار وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه - فلا يجري استصحاب بقاء الجزئي - أو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل أن يكون هو درهم زيد أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصة - كإن تنجست بالبول - وتردد محلها بين كونها في الطرف الأسفل أو الاعلى ثم طُهر طرفها الأسفل، - فهنا ساق مثال العباءة مع الأمثلة التي ساقها في مثال موت زيد وفقدان الدرهم - "

حاصل كلامه (قده) بإيجاز: إنّه يريد أن يقول لصاحب الشبهة إنّ هذه الشبهة حالها حال سائر الأمثلة التي تكون من قبيل الجزئي المعلوم، غير أنّ الترديد إنّما يقع في نفس المكان أو الموضع، كما في مثال موت زيد.

ثم بعد ذلك قال (قده) "ففي جميع هذه الأمثلة استصحاب بقاء المتيقن لا يجري، ولا يكون من الاستصحاب الكلي، لان المتيقن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه، وإنما الترديد في المحل والموضوع فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، وليس من الاستصحاب الكلي."

فحاصل كلامه (قده) هنا: إنّ هذه العبارة ــ بإيجاز ــ لم تذكر جواباً تامّاً، وإنّما أشارت إلى مثال جزئي، كأن نعلم بوجود زيد في الدار، غايته أنّه إمّا في الغرفة الشرقية أو في الغرفة الغربية. فإذا انهدم الجانب الغربي وشككنا في بقاء زيد أو موته، نستصحب بقاءه. غير أنّه (قده) لا يلتزم بهذا المورد، فلم يقدّم جواباً صريحاً هنا. نعم، في مبحث الفرد المردّد تعرّض للجواب، وإن كان هو قد أفتى بعدم الجريان، إلا أنّ دليله لا نقبله، وسيأتي تفصيل الكلام في محلّه.

ثم قال (قده): "ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المشهورة"

فنتيجة ما أفاده: أنّ مثال السيّد إسماعيل الصدر (قده) في هذه الشبهة لا ينطبق على استصحاب الكلّي من القسم الثاني؛ لأنّ الاستصحاب في ذلك القسم إنما هو فيما إذا كان المتيقَّن بهويته وحقيقته مردَّداً بين الفرد القصير والفرد الطويل، بينما المثال المطروح ليس فيه كلّي، بل هو أمر جزئي، كنجاسة البول أو الدم للعباءة، والترديد فيه إنما هو في المكان لا في الحقيقة. ففي الكلّي يكون الترديد في الهوية (كما في البقة والفيل)، وأما هنا فالحقيقة معلومة، والشك إنما هو في الموضع والمكان، وهذا هو الفارق الأوّل.

وأمّا الفارق الثاني: أنّ حكم استصحاب الكلّي يجري، بخلاف استصحاب الجزئي، لأنّه من شؤون الفرد المردَّد، والفرد المردَّد على رأيه (قده) لا يجري فيه الاستصحاب. وبذلك يبيّن أنّ إشكال الشبهة العبائية أجنبيٌّ عن محلّ البحث؛ فالاستصحاب في الفرد المردَّد لا يجري، لا لكونه من الكلّي، ولا لتأثيره على قول المشهور في طهارة ملاقي أحد الأطراف. فهذا هو خلاصة رأيه (قده).

وسيأتي بعد ذلك كلام السيّد الخوئي (قده) حيث يرى جريان الاستصحاب في الفرد المردَّد، وكذلك ما أفاده سيّدنا السيستاني (دام ظلّه) والسيد الخميني (قده) أيضاً، لكن لكلّ واحدٍ منهم طريقته في الاستدلال. غير أنّ السيّد الخوئي، في ردّه على المحقّق النائيني، قال: إنّ البحث ليس في مقام الاصطلاح ــ هل نسمّيه كلّياً أو جزئياً ــ بل الإشكال قائم في نفسه، إذ لا يجتمع الحكم بطهارة ملاقي أحد الأطراف مع الحكم بجريان استصحاب الكلّي. فمع أنّ الجواب المذكور وجيه، إلّا أنّ أصل الإشكال لم يُرفع بعد. وسيأتي تفصيل دفع النائيني (قده) له، مع بيان ما أورده السيّد الخوئي في المقام.


logo