« فهرست دروس
الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/03/22

بسم الله الرحمن الرحيم

استصحاب الكلي/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /استصحاب الكلي

 

ما تقدّم إنّما هو بيانٌ لرأي السيّد اليزدي (قده) في حاشيته على المكاسب، وهو الرأي الذي صار موردَ نقاش المشهور من الأعلام، إذ إنّهم ناقشوه على أساس ما أفاد هناك. وقد قلنا سابقًا: إنّ الشيخ عبد الكريم الحائري (قده) في الدرر قال: منعَ بعض أعاظم العصر (مدّ ظلّه) - حسب تعبيره - من جريان الاستصحاب في هذا القسم، ثمّ إنّ الشيخ الحائري نفسه أشكل على السيّد اليزدي، واختار القول بجريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثاني، فوافق في ذلك الشيخ الأعظم (قده) واستاذه صاحب الكفاية (قده) القائلين بجريانه.

وممن ذكر هذا الإشكال ايضا - أعني إشكال السيّد اليزدي في المعارضة، وإن لم يُصرّح باسمه ـ المحقّق النائيني (قده) في الفوائد، كما نقله عنه أيضاً السيّد الداماد (قده) وصرّح هناك بنسبة القول إلى السيّد اليزدي. وكذلك الشيخ حسين الحلّي (قده) أشار إلى ذلك في كتابه أصول الفقه.

فالمتحصّل: أنّ هؤلاء الأعلام جميعًا تعرّضوا لرأي السيّد اليزدي (قده)، وأكثرهم تناولوه بالنقد، إذ وافقوا الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية (قدهما) على جريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثاني.

والذي يهمّنا الآن فعلاً هو: معرفة رأي السيّد اليزدي (قده) من جريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثاني؟

فإنّ الواضح من تعليقته على المكاسب أنّه يذهب إلى عدم الجريان، وقد استدلّ لذلك بما ذكره هناك. غير أنّنا إذا رجعنا إلى حاشيته على رسائل الشيخ الأعظم، نجد أنّه يذهب إلى القول بـ الجريان، لكنّه يناقش فيما ذكره الشيخ (قده) من جواب للتوهم.

إذ ذكر رداً على كلام الشيخ(قده) "نعم، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني، لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين، وبينهما فرق واضح"[1] .

بما حاصله: أنّه يوافق على أصل جريان الاستصحاب في القسم الثاني، إلّا أنّه يرى أنّ الجواب الذي ذكره الشيخ الأعظم (قده) لدفع المتوهم لا يتمّ على الوجه الذي ذكره، بل يلاحظ عليه بعض المناقشات. والحاصل ان ما يظهر اولا من ملاحظة كلمات السيّد اليزدي (قده) ليس هو رأيه النهائي، بل له مطلبان ينبغي استعراضهما، وبعد الفراغ منهما يتّضح مقصوده الحقيقي.

ففي المطلب الأوّل: يناقش ما ذكره الشيخ الأعظم (قده) في ردّ المتوهَّم القائل بالسببيّة بين الفرد وكليّه، إذ يرى السيّد اليزدي أنّ مناقشة الشيخ الأعظم ليست تامّة، لأنّ الإشكال لا يندفع بتلك الطريقة، فكأنّه يشير إلى أنّ الشيخ الأعظم (قده) لم يُحسن دفع هذا التوهّم. ولهذا وجدنا السيّد اليزدي حاول أن يأتي بطريقة أخرى.

قال (قده) معلقا على ما ذكره الشيخ الأعظم بقوله (نعم اللازم من عدم حدوثه… الخ) [2]

"فيه منع، بل اللازم من عدم حدوث الفرد الآخر ـ أي الفرد الطويل ـ ارتفاع القدر المشترك ـ أي الكلّي ـ أيضًا. بيان ذلك: أنّ الكلّي وحصّته وفرده بأجمعها توجد بوجود الفرد، وهذا ممّا لا إشكال فيه".

حاصل مراده (قده)

يُريد أن يقول: كما تقرّر في المعقول أنّ الكلّي الطبيعي لا وجود مستقلّ له، وإنّما وجوده بوجود أفراده، فهو صالح لأن يُشار إليه بهذا الاعتبار، كما تقول: هذا زيد، وهذا إنسان.

وعليه، إذا علمنا بعدم وجود الكلّي في ضمن الأفراد الأُخر، كما في المثال المذكور في المقام حيث علمنا بوجود كليّ الحدث لكن لا ندري: هل هو حدث أصغر (وضوء) أو حدث أكبر (جنابة أو مسّ ميت)؟ فإذا توضّأ المكلّف فقد ارتفع الحدث الأصغر يقيناً، فيُعلم حينئذٍ بعدم وجود الكلّي في ضمن هذا الفرد (الوضوء)، ويبقى احتمال وجوده في ضمن الفرد المشكوك (الجنابة أو مسّ الميت).

ثمّ قال (قده)

"لا جَرَم ينحصر احتمال وجود الكلّي في كونه موجوداً في ضمن ذاك الفرد المشكوك الوجود ـ الجنابة أو مسّ الميت ـ، فلو أجرينا أصالة عدم وجود ذلك الفرد لزمه الحكم بعدم الفرد، وعدم الحصّة التي في ضمنه من الكلّي، وعدم نفس الكلّي أيضاً، ولا يبقى مجال لاحتمال بقاء الكلّي في هذا الفرض، إذ لا شكّ في وجوده من غير جهة الفرد الذي حكمنا بعدمه بالأصل. والحاصل أنّ القدر المشترك بوصف كونه مشكوكاً أُريد استصحابه هو نفس هذه الحصّة بحسب الحقيقة، وينتفي بانتفاء الحصّة. فلا وجه لتسليم انتفاء الحصّة بالأصل واحتمال بقاء القدر المشترك مع ذلك. ومن أين جاء هذا الاحتمال؟ والتحقيق في جواب هذا المتوهَّم ما قدّمنا ـ هنا في حاشية الرسائل ـ، فتدبّر" [3]

حاصل مراد السيّد اليزدي (قده)

إذا أردنا استصحاب الكلّي، نقول: هذا الكلّي ـ بحسب الواقع ـ قد تحقّق في ضمن أحد الطرفين، فإن كان في ضمن الحدث الأصغر (الوضوء) فقد ارتفع جزماً بعد حصول الوضوء. وعليه، يبقى احتمال أن يكون هو الحدث الأكبر (كالجنابة أو مسّ الميت).

وهنا يُسأل: أين يوجد الكلّي؟

الجواب: الكلّي لا يوجد إلا في ضمن أفراده، ولا يتصوّر له وجود مستقل وراء الأفراد، فالحصّة والفرد والكلّي وجودها واحد.

وبهذا الاعتبار: الفرد القصير (الحدث الأصغر) قد ارتفع يقيناً بالوضوء.

فيبقى احتمال وجود الكلّي في الفرد الآخر المشكوك (الجنابة أو المسّ).

فإذا أجرينا أصالة عدم ذلك الفرد، ترتّب عليه:

عدم الفرد، وعدم الحصّة، وبالتالي عدم نفس الكلّي.

فلا يبقى مجال لاحتمال بقاء الكلّي بعد ذلك.

وعليه، يرى السيّد اليزدي (قده) أنّ المناقشة التي ذكرها الشيخ الأعظم (قده) في ردّ المتوهَّم ـ القائل بالسببيّة بين الفرد وكليّه ـ غير تامّة؛ إذ إنّ الكلّي ينعدم بانعدام الفرد الذي يُحتمل وجوده، فلا يبقى وجه لاحتمال بقاء الكلّي مع فرض رفع الفرد بالاستصحاب.

هذا تمام الكلام في المطلب الأول.

وأما المطلب الثاني فهو الطريقة الصحيحة لدفع الاشكال على رأي السيّد اليزدي (قده) وهي إنّ أصالة العدم في الفرد الطويل لا يمكن إجراؤها، لأنّها معارضة بـ أصالة العدم في الفرد القصير.

ومع وقوع المعارضة يتساقطان، فلا يبقى في مقام الاستدلال أصلٌ جارٍ في الأفراد أنفسها.

فيبقى عندنا القدر المشترك (الكلي) الذي كنّا نقطع بوجوده سابقاً، والآن نشكّ في بقائه، فيجري فيه الاستصحاب.

قال "التحقيق في دفع هذا التوهم أنّ الأصل في السبب كان معارضا من الأول قبل فعل الوضوء أو الغسل بأصالة عدم حدوث الحادث الآخر، ولذا لم نحكم بجريانه من الأول، وبعد سقوط الأول قبل ذلك لا يعود - الأصل - بعد فعل الوضوء أو الغسل، فعلم أنّ الأصل في السبب غير جار فيجري استصحاب الكلي بالنسبة إلى المسبب"[4]

والنتيجة ان السيد اليزدي يقول بجريان استصحاب الكلي من القسم الثاني

نعم، في حاشيته على المكاسب التزم بأشكال المتوهّم ومنع معارضة اصالة عدم الفرد الطويل - الحاكمة على استصحاب الكلي - بأصالة عدم الفرد القصير، قال (قده) "فإن قلت: إنّ أصالة عدم الفرد الطويل معارضة بأصالة عدم الفرد الآخر، قلت: نمنع ذلك، لأنّ المفروض أنّه لا يترتّب على الأصل الثاني أثرٌ شرعي مثبت للتكليف حتى يصلح للمعارضة"[5]

ولكن ما التزم به في حاشية المكاسب، نجده في شرحه على الرسائل قد تراجع عنه، و أعاد صياغة المطلب بما يُشعر بتحوّلٍ في موقفه من أصل المعارضة.

وعليه، فالسيّد اليزدي (قده) قائل بجريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثاني، غير أنّه يرى أنّ الوجه الذي ذكره الشيخ الأعظم (قده) لدفع توهم عدم الجريان غير تامّ، فأبدله بهذا البيان.

والخلاصة:

فالسيّد اليزدي (قده) لم يكن ناكراً لجريان الاستصحاب في هذا القسم من حيث المبدأ، وإنّما كان يناقش الدليل والطريقة، فالرأي النهائي له هو:

جريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني.

وبذلك تعرف أنّه لا وجه للإشكال عليه بما ذكره الشيخ الحلي في أصوله بقوله: "قال في العروة في فصل كيفية تنجّس المتنجّسات: ( مسألة 10 ) إذا تنجّس الثوب مثلًا بالدم ممّا يكفي فيه غسله مرّة، نعم لو علم تنجّسه إمّا بالبول أو الدم ، أو إمّا بالولوغ أو بغيره يجب إجراء حكم الأشد من التعدّد في البول والتعفير في الولوغ، وبالجملة : أنّ هذه الفتوى - أعني التزام الأشدّ - مبنية على استصحاب القسم الثاني من الكلّي وعدم جدوى أصالة عدم البول أو عدم الولوغ في الحكومة على استصحاب كلّي النجاسة - لأنها تتعارض معه - فما أفاده السيد - اليزدي - والمرحوم الشيخ عبد الكريم، وكذلك شيخنا قدس سره من جريان أصالة عدم البول أو الولوغ مخالف للفتوى المزبورة"[6]

فانه مبني على ملاحظة كلامه في حاشية المكاسب وانت اذا احطت علماً بما تلونا عليك في بيان رأيه في حاشيته على الفرائد فلا تكن هذه الفتوى مخالفة لمبناه بل هي موافقة.

اذن الفرق أنّ الأعلام إنّما اعتمدوا على عبارته في حاشية المكاسب فعارضوه وانتقدوه، بينما عبارته في حاشية الرسائل أكثر انسجاماً مع المشهور، إذ لا إشكال فيها من حيث النتيجة، وإن كانت له ملاحظات على مسلك الشيخ الأعظم (قده) في تقرير الدليل.


[2] - حاشية الفرائد (ج٣، ص٢٠١).
[3] - نفس المصدر (ص٢٠٢).
logo