« فهرست دروس
الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/03/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستصحاب في الكلي/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /الاستصحاب في الكلي

 

ما زال الكلام مع السيد اليزدي(قده) الذي رفض جريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني، بين ذلك في حاشيته على المكاسب للشيخ الأعظم. وقد تبنّى رأي المتوهّم القائل بالسببية بين الفرد وبين كلييه، وقد نقّح مطلبا في المقام، وهو أنّ الاثر الشرعي لا يترتب على عنوان البقاء والارتفاع، بل يترتب على الوجود والعدم.

توضيح مقصوده (قده) أنّ وجود الكلي بحسب الفرض دائر بين فردين:

الفرد القصير: الذي قد وجد وانتهى.

الفرد الطويل: الذي نشك في وجوده ابتداءً.

فعندئذٍ لا مجال لإجراء أصالة عدم ارتفاع الفرد الطويل، لأنّ الارتفاع ـ بحسب التحقيق ـ إنما هو عدم بعد وجود، بينما نحن نشك في أصل وجوده من الأساس. ومن هنا كان المعيار أن يُسأل: هل وُجد الفرد الطويل أو لا؟ فإذا شككنا في وجوده، نتمسّك بأصالة عدم وجوده. وبذلك ينكشف أنّ الكلي ليس بموجود، لأنّ قيام الكلي بفرده وجوداً وعدماً، فإذا وجد الفرد وُجد الكلي، وإذا عُدم الفرد عُدم الكلي.

 

ثمرة هذا التنقيح:

على هذا الأساس، يكون الأثر مرتباً على الوجود والعدم، لا على عنوان البقاء والارتفاع؛ فإنّ النجاسة مثلاً إذا كانت موجودة فهي مانعة من الصلاة، وإذا كانت معدومة فلا مانع من الصلاة. ومن ثمّ كان مختار السيد اليزدي (قده) أنّ المرجع هو أصالة عدم وجود الفرد الطويل، ونتيجته أنّ الكلي غير موجود في المقام.

وعندما وصل السيد اليزدي (قده) إلى هذه النقطة، التفت إلى أنّ في كلامه إشكالاً يمكن أن يوجَّه إليه، فذكره بنفسه ثم أجاب عنه ـ نعم قد يتراجع عما ذكره من جواب هنا في بعض كتبه الأخرى تصوير الإشكال الذي ذكره في كلامه (قده)

قال: نحن نحرز وجود كلي الحدث، وهذا الحدث إمّا أن يكون بالفرد القصير أو بالفرد الطويل. وهذا في نفسه صحيح؛ إذ لا قيام للكلي إلا في ضمن فرده. لكن بناءً على ما أفاده (قده) من أنّ المرجع هو أصالة عدم الفرد الطويل، يلزم أن يقال: الكلي غير موجود، فلا مجال لاستصحابه.

الإشكال عليه غير أنّ هذا الكلام تعترضه نكتة دقيقة: وهي أنّ نسبة الفرد القصير والفرد الطويل إلى الكلي على حدٍّ سواء، فإذا جاز لك ـ أيها السيد اليزدي ـ أن تتمسك بأصالة عدم الفرد الطويل لنفي الكلي، فإنّا نعارضك بتمسّكنا بأصالة عدم الفرد القصير أيضاً. وحينئذٍ يقع التعارض بين الأصلين:

أصالة عدم الفرد الطويل.

أصالة عدم الفرد القصير.

وإذا وقع التعارض بينهما، تساقطا، وبسقوطهما لا يبقى مرجع إلا استصحاب الكلي نفسه، فيكون جارياً حينئذٍ.

النتيجة:

فالإشكال الموجَّه على السيد اليزدي (قده) هو أنّه لا يمكنه الاكتفاء بأصالة عدم الفرد الطويل لإثبات عدم الكلي، ما دامت أصالة عدم الفرد القصير معارضة لها، ومع التساقط يرجع المكلف إلى استصحاب الكلي بلا مانع.

نكتة مهمّة:

قد ذُكرت في تنبيهات بحث الاشتغال، وسنستفيد منها في الجواب عن الشبهة العبائية التي اعتبرناها الإشكال الثالث على جريان استصحاب الكلي من القسم الثاني، وهذا يستدعي منّا مراجعة هناك. فإنّ السيد اليزدي (قده) أنكر جريان الاستصحاب من القسم الثاني والتزم بجريان اصالة عدم الفرد الطويل، وذكر أنّه لا يعارضه شيء، مع أنّ الواقع أنّ له معارضاً. وقد أجاب (قده) عن ذلك بجواب خاص، وسنحاول بيان جوابه بدقة.

لذلك قال السيد اليزدي(قده) "فان قلت: - أشكل على نفسه ثم سيجيب - إن أصالة عدم الفرد الطويل معارضة بأصالة عدم الفرد الآخر، قلت: نمنع ذلك لأن المفروض انه لا يترتب على الأصل الثاني اثر شرعي مثبت للتكليف حتى يصلح للمعارضة مثلا أصالة عدم وجود النجاسة بالدم لا يثبت تكليف فيكون أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض ولازمها نفى وجوب الغسلة الأخرى"[1]

حاصل ما أفاده السيد اليزدي (قده) أنّه أراد التمسك باستصحاب عدم الفرد الطويل، الذي نتيجته ـ على مبناه ـ تعود إلى عدم جريان الاستصحاب في الكلي، إذ الكلي لا يوجد إلا بوجود فرده. وفي المقام لو كان الكلي متحقّقاً في ضمن الحدث الأصغر فقد ارتفع بالوضوء قطعا، وإن كان متحقق في ضمن الحدث الأكبر (الفرد الطويل) فنحن نشك في أصل وجوده، فنستصحب عدمه. وعليه: لا يبقى لدينا شيء اسمه كلي الحدث كي نجري استصحابه. ومن هنا رفض (قده) جريان الاستصحاب في القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وهذا الموقف قد تبنّاه أيضاً المحقق العراقي (قده)، حيث ذهب إلى نفس النتيجة تقريباً. بينما الشيخ الأعظم الأنصاري (قده) صرّح بجريان الاستصحاب في هذا القسم، ورأيه هو الذي بنى عليه أكثر الأعلام. وكذلك صاحب الكفاية (قده)، فقد تقدّم منه القول بجواز الاستصحاب أيضاً، وهو ظاهر عباراته. بل الغالبية من الأعلام صرّحوا بجريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني، ولم يقبلوا برأي السيد اليزدي في نفيه.

وعليه: فالرأي الذي في المقام هو ما تبناه السيد اليزدي (قده) والمحقق العراقي (قده)، بخلاف الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية وجمهور الأعلام. ومن هنا يُطالب القائل بالمنع ـ أي السيد اليزدي (قده) ـ بالدليل، فدليله لم يزد على ما ذكره المتوهَّم في مسألة السبب والمسبب غير أنّه حاول تقويته وتشيده، في حاشيته على المكاسب.

إذن نقول: لو أُشكل على السيد اليزدي (قده) بأن أصالة عدم الفرد الطويل تعارضها أصالة عدم الفرد القصير، فنتيجة المعارضة هي التساقط. وإذا تساقطا رجعنا إلى استصحاب بقاء الكلي، فيثبت جريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني. وعليه، فهذه النتيجة ـ أي التعارض المؤدي إلى التساقط ـ لا تنفع السيد اليزدي (قده)، بل تهدم مبناه. فلابد له أن يمنع أصل التعارض حتى تُحفظ أصالة عدم الفرد الطويل بلا معارض، لتبقى النتيجة على وفق رأيه في نفي جريان الاستصحاب.

لذلك قال (قده) "قلت: نمنع ذلك - أي التعارض - لأن المفروض انه لا يترتب على الأصل الثاني - اصالة عدم الفرد القصير - اثر شرعي مثبت للتكليف حتى يصلح للمعارضة، مثلا أصالة عدم وجود النجاسة بالدم لا يثبت تكليف فيكون أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض ولازمها نفى وجوب الغسلة الأخرى "

توضيح مراد السيد اليزدي (قده) ذكر (قده) مثالاً لتقريب مراده، وهو ما إذا علمنا بنجاسة الثوب لكن ترددنا: هل هي من الدم أو من البول؟

فالكلي ـ أي كلي النجاسة ـ متيقن الوجود.

ثم إذا غسلنا الثوب مرة واحدة، ثم بعد ذلك نشك هل كانت النجاسة من البول حتى نحتاج إلى غسلة ثانية، أم من الدم حيث تكفي غسلة واحدة؟ فعلى هذا نجري أصالة عدم كونها من البول، وهو عين التمسك بأصالة عدم النجاسة الزائدة، فبذلك نسقط وجوب الغسلة الثانية.

وهنا اعترض السيد اليزدي (قده) بأنّه لا يصح أن نعارض أصالة عدم البول بأصالة عدم الدم؛ لأن أصالة عدم الدم لا يترتب عليها أثر شرعي، وذلك لأن الثوب قد غُسل غسلة واحدة بالفعل، فغسل الدم قد تحقق وانتهى أثره، فلا معنى لاستصحاب عدم الدم بعد تمام الغسل.

وعليه:

أصالة عدم البول يترتب عليها أثر عملي، وهو سقوط وجوب الغسلة الثانية.

أما أصالة عدم الدم فلا أثر شرعي لها بعد تحقق الغسل الأول.

النتيجة:

فمراد السيد اليزدي (قده) أنّ أصالة عدم البول ـ وهي التي تمثل أصالة عدم الفرد الطويل في محل الكلام ـ سليمة عن المعارض؛ لأن أصالة عدم الدم (أصالة عدم الفرد القصير) ساقطة موضوعاً لعدم ترتب الأثر عليها. ومن هنا قرر (قده) أنّ الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني لا يجري.

ثم إنّ الأعلام نبّهوا على ملاحظة مهمّة في هذا الموضع، وهي أنّ السيد اليزدي (قده) قد صرّح في حاشيته على المكاسب برفض جريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني، وعدّه غير جارٍ، وهذا ظاهر عباراته هناك. لكن في المقابل، إذا رجعنا إلى العروة الوثقى نجد أنّه في جملة من الفتاوى استند هو الى الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني، و أفتى على أساسه.

ومن هنا يثور التساؤل: هل ما ذكره في الحاشية هو رأيه النهائي الذي استقرّ عليه، أم أنّه رجع عنه لاحقاً في العروة فاختار القول بجريان الاستصحاب من القسم الثاني؟ فإذا كان الأمر كذلك لزم القول بوجود تهافتٍ بين كلامه في الحاشية على المكاسب وكلامه في العروة الوثقى.

وسيأتي إن شاء الله تفصيل البحث وذكر الموارد التي يظهر فيها اعتماده على هذا القسم من الاستصحاب في فتاواه.

لكن ينبغي الالتفات إلى أنّ مطلب السيد اليزدي (قده) لم ينتهِ عند ما حرّره في حاشيته على المكاسب، إذ إنّه في حاشيته على الرسائل ذكر شيئاً آخر يخالف ما ذكره هناك. فقد قبل في تلك الحاشية بالإشكال القائل: إن أصالة عدم الفرد الطويل معارضة بأصالة عدم الفرد القصير، فالتزم بمقتضى هذا الإشكال. وبذلك يكون كلامه في حاشية المكاسب ـ حيث أنكر المعارضة ـ غير تام، بل غير صحيح بحسب ما صرّح به لاحقاً.

وسيأتي إن شاء الله تفصيل كلامه في حاشيته على الرسائل وبيان وجه التغاير بين ما ذكره في الموضعين.

ملاحظة مهمّة:

إنّ البحث في جريان الأصول كثيراً ما يدور بين الأعلام (قده) في موارد العلم الإجمالي، لأنّ الأصل إنما يجري مع الشك، وهذا محل اتفاق بينهم. غير أنّ الكلام يقع في جهةٍ أُخرى، وهي:

تارةً يُجعل الشك مأخوذاً في موضوع الأصل نفسه.

وأخرى يكون الشك مورداً لجريان الأصل، بمعنى أنّ الأصل لا يجري إلا حيثما وُجد الشك فعلاً.

وعليه، فالمسألة ليست في أصل كبرى أنّ الأصل يجري مع الشك، فهذا مفروغٌ عنه، بل الكلام في كيفية دخالة الشك: هل هو مقوم لموضوع الأصل، أم أنّه شرط لجريانه فحسب؟ وهذا ما ينعكس أثره بوضوح في بحوث العلم الإجمالي وتعارض الأصول.

توضيح المطلب:

الأصل لا يجري مع العلم التفصيلي، لانتفاء موضوعه، وهو الشك. لكن الكلام في أن العلم الإجمالي: هل يُعامل معاملة الشك فتجري فيه الأصول، أم يُعامل معاملة العلم التفصيلي فلا تجري فيه؟ وهنا اختلفت كلمات الأعلام (قده) اختلافاً واسعاً. وقد اشتهر بينهم أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف، لكن هل تنجيزه على نحو وجوب الموافقة القطعية، أم على نحو حرمة المخالفة القطعية؟ وفي ذلك كلام طويل يأتي لاحقاً إن شاء الله.

وأما ما اتفقوا عليه فهو أنّ العلم الإجمالي إذا حصل قبل خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء فإنه يبقى منجّزاً. مثاله: إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين، ثم خرج أحدهما عن الابتلاء ـ كأن أريق ماؤه أو كُسر الإناء ـ فهذا الخروج لا يسوّغ إجراء الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، بل يبقى العلم الإجمالي منجزاً فيهما معاً؛ لأن العلم حصل قبل خروج الطرف عن الابتلاء. وبذلك لا يمكن التمسك بأصالة الطهارة في الطرف الآخر، فيبقى كلا الطرفين محكوماً بحكم العلم الإجمالي، فيلزم الاجتناب عنهما.

موقف السيد اليزدي (قده) في حاشيته على المكاسب: صرّح بأن الأصل لا يجري في الفرد القصير (بعد غسله)، فلا يكون معارضاً لأصالة عدم الفرد الطويل.

أما في حاشيته على الرسائل: فقد وافق على أنّ الأصل كان جارياً من الأول في عدم نجاسة الدم (قبل الغسلة الأولى)، فبعد الغسل يقع التعارض بين هذا الأصل وأصالة عدم نجاسة البول، ومع التعارض يتساقطان.

وعليه، يتبيّن أنّ السيد اليزدي (قده) في حاشية الرسائل من القائلين بجريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثاني، لكنّه يرى أنّ الجواب عن تعارض الأصول ليس على نفس ما أفاده الشيخ الأعظم (قده)، بل له وجه آخر في المناقشة معه سيذكره لاحقاً.

 

وللكلام بقية.


logo