« فهرست دروس
الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/03/16

بسم الله الرحمن الرحيم

استصحاب الكلي/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /استصحاب الكلي

 

بعد أن فرغنا من عرض ما أفاده صاحب الكفاية (قده)، ننتقل الآن إلى ما ذكره السيّد اليزدي (قده) في حاشيته على المكاسب في مبحث المعاطاة. فقد طرح هناك رأيًا آخر، وهو أن استصحاب الكلّي من القسم الثاني لا يجري. وقد بيّن مقصوده في ذلك، ونقل عنه جمعٌ من الأعلام هذا الرأي.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ السيّد اليزدي (قده) في هذا الموضع تعرض لكلام الشيخ الأعظم (قده) في المسألة، وصرّح بأنّ الشيخ قد تعرّض لذلك في الرسائل ضمن مباحث الأصول، وأجاب عنه هناك.

فنحن الآن باقون مع ما أورده السيّد اليزدي (قده) في حاشيته على المكاسب في خصوص بحث المعاطاة، وسنتابع لاحقًا ما أورده في حاشيته على الرسائل إن شاء الله تعالى.

أمّا إذا رجعنا إلى كلام صاحب الرسائل وصاحب الكفاية، نلاحظ أنّ الشيخ الأعظم (قده) في الرسائل عندما تعرّض لمسألة السببيّة والمسببيّة، صرّح بأنّ الكلّي ليس مسبَّبًا عن الفرد الطويل، وإنّما هو مسبَّب عن الفرد الآخر. بينما صاحب الكفاية (قده) ذهب إلى أنّ الكلّي ليس مسبَّبًا عن الفرد الطويل فقط، بل هو مسبَّب عن كلا الفردين: القصير والطويل.

وعليه، يتّضح الفارق بين المدرستين: الشيخ الأعظم (قده) حصر السببيّة في غير الفرد الطويل، وأمّا صاحب الكفاية (قده) فقد جعل الكلّي مسبَّبًا عن كلٍّ من الفرد القصير والفرد الطويل معًا.

ومن هنا، فإنّ السيّد اليزدي (قده) عندما نقل عبارة الشيخ الأعظم في الرسائل، أشار إلى هذا العنوان الذي تقدّم بيانه في الدرس السابق، ليكون منطلقًا لفهم رأيه الخاص في المسألة.

لذلك قال السيد اليزدي(قده)

"أجاب عن هذا في الأصول بان ارتفاع القدر المشترك من اثار كون الحادث ذلك المقطوع الارتفاع لا من لوازم عدم حدوث الامر الآخر"[1] .

أما في عبارة متن الكفاية قال(قده) "لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه، بل من لوازم كون الحادث المتيقن ذلك المتيقن الارتفاع أو البقاء"[2]

هذا المبحث ـ وإن كان يحتاج إلى مزيد من التوقّف والتأمّل ـ لكن لا نطيل فيه الكلام، بل نشير إليه على نحو الإجمال:

إنّ الفرق بين الشيخ الأعظم (قده) وصاحب الكفاية (قده) يظهر بوضوح في تصويرهم لمقام الكلّي. فالشيخ الأعظم يرى أنّ الكلّي ـ بعد اليقين بوجوده ـ مقطوع الارتفاع بالوضوء، لأنّ الوضوء قاطعٌ لليقين بالحدث الأصغر لو كان موجودًا، أمّا الحدث الأكبر فلا نقطع بوجوده من الأساس. فالمقطوع بعدم وجوده الآن هو الحدث الأكبر، إذ لا نجزم بوقوع جنابة ولا بمسّ ميت، فنستصحب عدمهما، فينتفي وجود الحدث الأكبر من أصله. وبما أنّ الوضوء رافع للحدث الأصغر إن كان هو الموجود، فقد ارتفع قطعًا.

وعليه، فالكلّي (أي: الحدث) مسبَّب إمّا عن هذا الفرد أو عن ذاك، لكن كلا الطرفين منفيّان: الأصغر ارتفع يقينًا بالوضوء، والأكبر مشكوك الحدوث فيُستصحب عدمه. ومن هنا نشأ أصل الإشكال، حيث أراد المستشكل أن يجعل الكلّي مسبَّبًا عن الحدث الأكبر، مع أنّ هذا الفرد غير محرز الوجود ابتداءً.

فقد أجاب الشيخُ الأعظم (قده) بأنَّ كليَّ الحدث ليس من لوازم نفس الجنابة، بل هو من لوازم الحدث القابل للرفع بالوضوء، ومن هنا نفى كونه معلولًا للجنابة ابتداءً، وأثبت أنّ الوضوء هو الرافع لذلك الكلي. وبهذا لا يبقى مجال لتوهّم استصحاب الكلي بلحاظ احتمال بقاء الجنابة.

وأمّا صاحب الكفاية (قده) فقد ذهب إلى أنّ الكلي ليس من لوازم عدم الجنابة، بل هو أمر مردّد بين أن يكون لازمه الوضوء أو لازمه الجنابة، أي أنّ منشأ الكلي يحتمل أن يكون هذا أو ذاك. فبينما الشيخ الأعظم نفى أصل الترديد وأرجع الأمر إلى الوضوء بصفته رافعًا، كان مبنى صاحب الكفاية قائمًا على تصوير الترديد بين الفردين.

قد مرّ علينا سابقًا عبارات المحقّق الأشتِياني وصاحب الأوثق، وقد أجبنا عنها في محلّها. إلّا أنّه يمكن أن نوجّه هنا إشكالًا على الشيخ الأعظم (قده)، وهو: لماذا حصر الحدثَ في الفرد القصير فقط، في حين أنّ صاحب الكفاية (قده) صرّح بأنّ الحدث مردَّد بين الفرد القصير والفرد الطويل؟

ولهذا الفرق بين العلمين نكتة دقيقة ستتضح لاحقاً.

إذ أنّنا نقطع بوجود الحدث أصلًا، غير أنّ ارتفاعه لا يكون إلّا بالإتيان بما هو نقيضه، أي الوضوء، فالمناط في رفعه هو لوازم هذا الرافع الشرعي(الوضوء).

ثم بعد ذلك جاء السيد اليزدي (قده) - مع عبارة الشيخ الأعظم - فقال ان تعبير الشيخ الأعظم فيه مشكلة، فقال (قده) "أجاب عن هذا في الأصول بان ارتفاع القدر المشترك - الحدث او الحيوان - من اثار كون الحادث ذلك المقطوع الارتفاع لا من لوازم عدم حدوث الامر الآخر".

إذن، إنّما حصر الشيخُ الأعظم (قده) الحدثَ في الفرد القصير، لأنّنا نقطع بوجوده، والشيء الموجود لا بدّ له من رافع. والرافع هنا هو الوضوء، وهو الذي حصل بالفعل. وأمّا حدث الجنابة، فلم يلتزم (قده) بوجوده أصلًا، فهو عدم، والعدم لا يصلح أن يكون رافعًا لشيء موجود؛ إذ لا يُتصوَّر رفع الموجود بأمر معدوم. ومن هنا كانت دقّة كلام الشيخ الأعظم أنّ الحدث المتيقَّن وجودُه إنّما يرتفع بما هو موجود فعلًا، أي الوضوء، لا بما هو معدوم كالجنابة المشكوك تحقّقها، فالذي يرفع الحيوان أو الشيء الموجود هو العدم لكن بعد الوجود هذا ما يريد بيانه الشيخ الأعظم (قده).

فعلى هذا جاء السيد اليزدي في بيان مطلبه وبين الاشكال على عبارة الشيخ الأعظم لأن الشيخ الأعظم قال في كلامه "إن ارتفاع القدر المشترك - الحدث او الحيوان - من آثار كون الحادث ذلك المقطوع الارتفاع - كالبقة او الوضوء - لا من لو لوازم عدم حدوث الأمر الآخر"

ثم قال السيد اليزدي(قده)

"قلت لا شك ان الحكم - الكلي - معلق على وجود القدر المشترك وعدمه لا على بقائه وارتفاعه"[3]

وحاصلُ كلامه (قده): إنّ أيَّ أثرٍ من الآثار الشرعيّة إنّما يُناط بوجود موضوعه، فإذا وُجِدَ ترتَّب عليه الأثر، وإذا ارتفع الأثرُ كان ذلك عينَ عدمِ موضوعه. فالأمرُ في الحقيقة يدور بين الوجود والعدم: وجود الكلّي بوجود فرده، وعدمُ الكلّي بعدم فرده.

وعليه، فالتعبير ب‌ـ(البقاء) أو (الارتفاع) ليس هو المناط في الحكم، بل هما مجرّد اصطلاحين أُطلقا بلحاظ أنّ الشيءَ إذا وُجِدَ ثم زال عُبّر عن زواله بالارتفاع، وأمّا مناطُ الحكم فهو نفس الوجود والعدم.

ومن هنا نلتفت إلى أنّ الاستصحاب عُرِّف في أوّل البحث بأنّه: (إبقاء ما كان)، وهذا التعبير مبنيّ على أنّ الشيءَ موجود، فيُراد بيان استمرار وجوده. وأمّا إذا عُدم فنعبر عن ذلك بالارتفاع. إذن، البقاء والارتفاع تعبيران عرفيّان، أمّا حقيقة الحكم فمبنيّة على أصل الوجود والعدم.

فمثلاً: إذا وُجدت النجاسة في العباءة لم تصحّ الصلاة فيها، وأمّا إذا لم تكن النجاسة موجودة، صحّت الصلاة. بعبارة أوضح: إذا النجاسة باقية لم تجزِ الصلاة، وإذا ارتفعت جازت الصلاة. فالمناط إذن ليس على عنوان البقاء أو الارتفاع بما هما، بل المناط مبنيّ على وجود الشيء وعدمِه.

ولذلك قال(قده) "لا شك ان الحكم علق على وجود القدر المشترك وعدمه لا على بقائه وارتفاعه - يعني ليس المناط هو عنوان البقاء والارتفاع - وان عبر ذلك فمن جهة ان العدم بعد الوجود يكون - يسمى - ارتفاعا والا فليس الحكم معلقا على هذا العنوان مثلا في مسألة الشك في بقاء النجاسة بعد الغسل مرة حكم جواز الصلاة وعدمه وغير ذلك من الآثار معلق على وجود النجاسة وعدمها - وليس على البقاء والارتفاع - "

حاصل مراد السيّد اليزدي (قده):

إنّ السيّد اليزدي (قده) إنّما صاغ عبارته تلك لوجود نكتةٍ دقيقة، وقد أشار إليها بعضُ الأعلام (قده):

"لقد أجاد فيما أفاد من أنّ الحكم ليس مترتّبًا على بقاء الكلّي وارتفاعه ليُشكَل بأنّ ارتفاعه ليس مسبَّبًا عن عدم وجود الفرد الطويل، بل هو مسبَّب عن كون الحادث الفردَ الآخر"[4] .

فحاصل كلام السيّد اليزدي ـ كما بيّنه المحقّق الداماد ـ أنّ غرضه الإشكال على الشيخ الأعظم (قده). وذلك لأنّ المستشكل لمّا اعترض على الشيخ بأنّ الكلّي مسبَّب عن الفرد الطويل، والفرد الطويل نستصحب عدمه، فلو استُصحب عدم الفرد الطويل كان معناه استصحاب عدم الكلّي، كان جواب الشيخ الأعظم أنّ الحدث قد وُجِد، وما دام موجودًا فهو باقٍ، وإذا كان باقياً فلا بدّ من رافعه. ومن هنا قال الشيخ: "إنّ ارتفاع القدر المشترك من آثار كون الحادث ذلك المقطوع الارتفاع".

إلّا أنّ السيّد اليزدي يرى أنّ عنوان الارتفاع لا موضوعيّة له، إذ لا يترتّب الحكم على نفس البقاء أو الارتفاع، بل المدار على أصل الوجود والعدم. فالفرد القصير إنّما هو موجود بالفعل، وأمّا الفرد الطويل فهو معدوم، والحكم يدور مدار وجود هذا وعدم ذاك، لا على عنوان البقاء والارتفاع بما هما.

وبهذا يوجّه الإشكال على الشيخ الأعظم، إذ لا يصحّ أن يُقال: إنّ الحدث بما أنّه موجود يترتّب على الفرد القصير، لأنّ الفرد القصير ليس عنوان "الارتفاع"، بل هو عين وجود الشيء في ظرفه. فالآثار الشرعيّة إذن لا تُبنى على البقاء والارتفاع، وإنّما على نفس الوجود والعدم. وعليه، فباستصحاب عدم الفرد الطويل يثبت عدم الحدث، فيعود الكلام إلى ما أفاده المتوهِّم.

ملخّص ما أفاده السيّد اليزدي (قده) في الردّ على الشيخ الأعظم (قده):

إنّ جواب الشيخ الأعظم (قده) إنّما كان بصدد دفع المستشكل؛ حيث إنّ المستشكل اعتمد في بيانه على العدم، بينما الشيخ الأعظم أجاب بتصوير الارتفاع. فصار النزاع بينهما لفظًا ومعنًى: هذا يتكلّم بالعدم، وذاك يتكلّم بالارتفاع.

لكن السيّد اليزدي نبّه إلى أنّ الحكم الشرعي لا يترتّب على عنوان الارتفاع أو البقاء، وإنّما يترتّب على الوجود والعدم. فالمناط في جريان الأثر هو: هل هناك وجود للموضوع أو لا؟

ومن ثمّ، فتصوير الشيخ الأعظم أنّ هناك شيئًا وُجِدَ ثم ارتفع ـ أي أنّ الفرد الطويل كان موجودًا ثم زال ـ ليس في محلّه، لأنّ الفرد الطويل من الأصل لم يكن موجودًا حتى يُفرض بقاؤه أو ارتفاعه. أمّا الفرد القصير فقد وُجدَ بالفعل، وأمّا الفرد الطويل فقد عُدم، فلا معنى لإدخال عنوان الارتفاع في مقام البيان.

إذن، نكتة الردّ أنّ الحكم يدور مدار الوجود والعدم، لا على البقاء والارتفاع.

ثم قال (قده) "وكذا في مسألة الشك في بقاء الحدث وعدمه - أي في وجود الحدث وعدمه - في صورة الدوران بين الأكبر والأصغر إذا أتى برافع أحدهما، وهكذا في ما نحن فيه كما هو واضح، ومن المعلوم ان وجود الكلى انما هو بوجود فرده وانعدامه - الكلي - بعدمه - فرده - فوجوده - الفرد - وعدمه علة للعدم من حيث إن عدم علة الوجود علة للعدم فالشك في وجوده بعد حدوث ما يزيل أحد الفردين على تقديره ناشئ عن الشك في وجود الفرد الآخر من الأول وعدمه وإذا كان الأصل عمده فلا يبقى بعد ذلك شك في الوجود بل ينبغي ان يبنى على العدم" [5]

إذن، إلى هنا يتّضح أنّ السيّد اليزدي (قده) قد رفض ما أفاده الشيخ الأعظم (قده)، ومال إلى ما ذكره المستشكل؛ حيث يرى أنّ الأمر يدور مدار الوجود والعدم، لا على عنوان البقاء والارتفاع. فالموضوع إن وُجِد ترتّبت عليه آثاره، وإن عُدم انتفى أثره، من غير حاجة إلى افتراض بقاءٍ ثمّ ارتفاع.

فإن قيل: إنّ أصالة عدم الفرد الطويل ـ وهو معدوم من الأساس ـ تُعارَض بـ أصالة عدم الفرد الآخر (الفرد القصير)، وإذا تعارضا تساقطا، وإذا تساقطا بقي عندنا الكلّي فنستصحبه. فهذا هو الإشكال على السيّد اليزدي (قده)؛ إذ إنّه قال: إنّ أصالة عدم الفرد الطويل جارية. فإذا أجرينا هذه الأصالة، لزم الحكم بعدم الكلّي، لأنّ الفرد القصير قد ارتفع وانتهينا منه، ومع عدم الفرد الطويل لا يبقى هناك كلّي أصلًا.

لكن يقال: إذا كان الأمر كذلك، فالعدم في الفرد الطويل يتعارض مع العدم في الفرد القصير. فمن يقول إنّ الكلّي منحصر بالفرد القصير؟ أو إنّه منحصر بالفرد الطويل؟ بل الأمر مردّد بينهما. وهذا شبيه بمسألة الإناءين: فإنّ أصالة الطهارة في أحدهما تُعارَض بـ أصالة الطهارة في الآخر، ولا موجب لترجيح أحدهما على الآخر؛ إذ الترجيح بلا مرجّح باطل. فالنتيجة أنّ أحدهما لا على التعيين نجس، فلا سبيل إلى إثبات الطهارة في كليهما.

وقد أجاب السيّد اليزدي (قده) عن هذا الإشكال في تعليقتِه على المكاسب.

وللكلام تتمة..


[4] - كالمحقّق الداماد، حيث قال في المحاضرات في مباحث أصول الفقه، ج٣، ص٦٢.
[5] - المصدر السابق ص356.
logo