« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ سید علي الموسوي اردبیلي

47/06/23

بسم الله الرحمن الرحیم

 المراد من ظهور الکلام/ الأمر الثاني /العام و الخاص

الموضوع: العام و الخاص / الأمر الثاني / المراد من ظهور الکلام

 

كان البحث في المراد من «ظهور» اللفظ، وقد طرحنا في هذا الشأن دعويين وذكرنا الإشكالات الواردة عليهما.

غير أنّ المستفاد من كلمات بعض علماء الأُصول هو أنّهم جعلوا الظهور مرادفاً للمراد الاستعمالي، وجعلوا حجّيّته مرادفة لانطباق المراد الجدّي معه. وعلى هذا الأساس ادّعوا أنّ المخصّص المنفصل لا يوجب زوال الظهور ـ بمعنى أنّه لا يغيّر المراد الاستعمالي، لأنّ استعمال اللفظ في غير ما وضع له، لا يصحّ إلّا مع اقتران الكلام بقرينة لفظيّة أو لُبّيّة ـ لكنّه يسقط الظهور عن الحجّيّة، أي يكشف عن أنّ المراد الجدّي للمتكلّم من اللفظ الذي صدر عنه لم يكن مطابقاً لمراده الاستعمالي.

غير أنّ هذه الدعوى ترد عليها إشكالات:

أوّلاً: في الموارد التي تقوم فيها قرينة مقترنة بالكلام على أنّ مدلول اللفظ ليس هو المراد الجدّي للمتكلّم، وإن كان المراد الاستعمالي منطبقاً على الموضوع له، لا يصحّ الالتزام بأنّ للفظ ظهوراً فاقداً للحجّيّة، بل يقال: إنّ القرينة قد غيّرت ظهور الكلام، وأوجدت فيه ظهوراً مستنداً إليها.

فمثلاً إذا ورد عن الإمام(ع) تقيّةً في مسألة جواز نظر المملوك إلى مالكته المرأة قوله: ، قيل:«لا بأس‌ أن‌ يرى المملوك‌ الشعر والساق»[1] [2] إنّ القرينة قد أوجبت ظهور الدليل في التقيّة. بينما لو كان المقصود من الظهور هو المراد الاستعمالي، لكان اللازم الحكم بظهور الكلام في جواز النظر، غاية الأمر الادّعاء بسقوط حجّيّة هذا الظهور، وهو غير صحيح.

ثانياً: إنّ حجّيّة الظهور غير قابلة للانفكاك عنه؛ فحيثما تحقّق الظهور تحقّقت حجّيّته لا محالة، لأنّ حجّيّة الظهور مبتنية على بناء العقلاء، والعقلاء لا يقسّمون الظهورات إلى «حجّة» و«غير حجّة»، بل يرون الظاهر حجّة على الإطلاق.

ثالثاً: يلزم على هذا المعنى إخراج الأُمور غير المرتبطة بمرحلة الاستعمال ـ كالإطلاق ـ عن عداد ظهورات الكلام، لكونها من شؤون الدلالة التصديقيّة الثانية والمراد الجدّي للمتكلّم. وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به؛ إذ لا يمكن إنكار وجود «الظهور الإطلاقي» في الكلام.

كما أنّ القرائن التي تعيّن المراد الجدّي للمتكلّم تنشئ ظهوراً مستنداً إلى القرينة في الكلام؛ فمثلاً لو قيل: «زيد رجل شجاع»، وعلم بالقرائن أنّ الكلام صدر في مقام السخريّة، قيل: إنّ الكلام ـ ببركة القرائن ـ ظاهر في التهكّم، لا أنّ ظاهره «شجاعة زيد» لكنّه ظهور فاقد للاعتبار.

وعليه فالحقّ أنّ المراد من ظهور الكلام ليس هو المراد الاستعمالي لمفرداته، ولا هو نفس المراد الجدّي، بل هو مجموع الأُمور التي تكون كاشفة عن المراد الجدّي للمتكلّم؛ سواء أكانت تلك الأُمور هي الوضع أو أصالة الحقيقة، أو أصل انطباق المراد الجدّي على المراد الاستعمالي، أو القرائن اللفظيّة أو اللبّيّة، أو مقدّمات الحكمة.

فإنّ العلم بالموضوع له مضموماً إلى أصالة الحقيقة أو إلى القرائن المرتبطة بكشف المراد الاستعمالي وإن كان يؤدّي إلى انكشاف المراد الاستعمالي للمتكلّم إلّا أنّه لا يصحّ عدّ مجرّد المراد الاستعمالي ظاهر الكلام، بل إنّما يقال بتحقّق ظهور الكلام بعد أن ينضمّ إلى المراد الاستعمالي أصل انطباق المراد الجدّي عليه، أو القرائن المرتبطة بمقام كشف المراد الجدّي بحيث ينكشف بذلك المراد الجدّي للمتكلّم، وحينئذٍ يقال: إنّ ظهور الكلام قد تمّ وإنّ المراد الجدّي قد تبيّن للمخاطب على أساسه.

ولقد أجاد الشيخ المظفّر حيث قال في أُصوله في هذا المجال: «قيل: إنّ الظهور على قسمين: تصوّري وتصديقي‌.

1 ـ «الظهور التصوّري» الذي ينشأ من وضع اللفظ لمعنىً مخصوص، وهو عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغويّة أو العرفيّة. وهو تابع للعلم بالوضع، سواءً كان في الكلام أو في خارجه قرينة على خلافه أو لم تكن.

2 ـ «الظهور التصديقي» الذي ينشأ من مجموع الكلام، وهو عبارة عن دلالة جملة الكلام على ما يتضمّنه من المعنى. فقد تكون دلالة الجملة مطابقة لدلالة المفردات وقد تكون مغايرة لها، كما إذا احتفّ الكلام بقرينة توجب صرف مفاد جملة الكلام عمّا يقتضيه مفاد المفردات.

والظهور التصديقي يتوقّف على فراغ المتكلّم من كلامه، فإنّ لكلّ متكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن، فمادام متشاغلاً بالكلام لا ينعقد لكلامه الظهور التصديقي.

ويستتبع هذا الظهور التصديقي ظهور ثانٍ تصديقي، وهو الظهور بأنّ هذا هو مراد المتكلّم. وهذا هو المعيّن لمراد المتكلّم في نفس الأمر، فيتوقّف على عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة، لأنّ القرينة مطلقاً تهدم هذا الظهور. بخلاف الظهور التصديقي الأوّل، فإنّه لا تهدمه القرينة المنفصلة.

أقول: ونحن لا نتعقّل هذا التقسيم، بل الظهور قسم واحد، وليس هو إلّا دلالة اللفظ على مراد المتكلّم. وهذه الدلالة هي التي نسمّيها «الدلالة التصديقيّة» وهي أن يلزم من العلم بصدور اللفظ من المتكلّم العلم بمراده من اللفظ، أو يلزم منه الظنّ بمراده. والأوّل يسمّى «النصّ» ويختصّ الثاني باسم «الظهور».

ولا معنى للقول بأنّ اللفظ ظاهر ظهوراً تصوّريّاً في معناه الموضوع له...

وأمّا تقسيم «الظهور التصديقي» إلى قسمين فهو تسامح أيضاً، لأنّه لا يكون الظهور ظهوراً إلّا إذا كشف عن المراد الجدّي للمتكلّم، إمّا على نحو اليقين أو الظنّ، فالقرينة المنفصلة لا محالة تهدم الظهور مطلقاً. نعم، قبل‌ العلم بها يحصل للمخاطب قطع بدوي أو ظنّ بدوي يزولان عند العلم بها، فيقال حينئذٍ: قد انعقد للكلام ظهور على خلاف ما تقتضيه القرينة المنفصلة. وهذا كلام شايع عند الأُصوليّين... وفي الحقيقة أنّ غرضهم من ذلك الظهور الابتدائي البدوي الذي يزول عند العلم بالقرينة المنفصلة، لا أنّه هناك ظهوران، ظهور لا يزول بالقرينة المنفصلة، وظهور يزول بها. ولا بأس أن يسمّى هذا الظهور البدوي «الظهور الذاتي» وتسميته بالظهور مسامحة على كلّ حال.»[3]

فما أفاده في هذا السياق من أنّ الظهور لا يكون ظهوراً إلّا إذا كان كاشفاً عن المراد الجدّي، هو في الحقيقة عين ما ادّعيناه من أنّ المراد من الظهور هو مجموع الأُمور الكاشفة عن المراد الجدّي للمتكلّم.

وعليه فمادام المراد الجدّي للمتكلّم من الكلام غير معلوم لنا، فإنّ دعوى تحقّق الظهور في الكلام تكون دعوىً بلا وجه.

وينبغي الالتفات إلى أنّ اللفظ الواحد قد يكون له ظهورات متعدّدة من جهات مختلفة، فبعضها مستند إلى الوضع، وبعضها إلى تماميّة مقدّمات الحكمة، وبعضها الآخر إلى القرائن.

 


logo