46/10/15
بسم الله الرحمن الرحیم
الإشکال علی استدلال المحقّق الإصفهاني/ مفهوم الوصف/المفاهيم
الموضوع: المفاهيم/ مفهوم الوصف/ الإشکال علی استدلال المحقّق الإصفهاني
طرحنا في الجلسة السابقة استدلال المحقّق الإصفهاني لإثبات العلّيّة الانحصاريّة للوصف في ترتّب الحكم على الموضوع.
غير أنّ ما ذكره في الاستدلال على أصل علّيّة الوصف للحكم، لا يمكن الالتزام به، إذ إنّ استدلاله مبنيّ على الخلط بين العلّيّة الحقيقيّة والعلّيّة الجعليّة الاعتباريّة.
توضيح ذلك: أنّ مدخليّة ذات الموضوع وجميع قيوده في ترتّب الحكم علی الموضوع أمر ثابت عقلاً، فبانتفائه ينتفي الحكم أيضاً. نعم، إنّ كون الشيء ذا دخل في موضوع الحكم، أمر جعلي واعتباري، ولكنّ العلّيّة بين الموضوع والحكم ـ بحسب ما تقرّره القواعد العقليّة ـ أمر حقيقي.
والذي يعتبر في إفادة المفهوم بواسطة أيّ قيد من قيود الموضوع، ليس هو علّيّة القيد الحقيقيّة للحكم، بل علّيّته الجعليّة الاعتباريّة، بمعنى أن يكون القيد معتبراً عند المتكلّم كعلّة لترتّب الحكم علی الموضوع، ويفهم المخاطب من ظاهر الكلام هذا الاعتبار.
ولهذا قلنا في بحث الشرط: إنّ وضع الجمل الشرطيّة يقتضي ظهوراً عرفيّاً في ترتّب الحكم على موضوعه عند تحقّق الشرط بنحو لا يتخلّف معه الحكم، وهذا ما يوجب اعتبار الشرط بمنزلة العلّة ـ سواء كانت علّة تامّة أو الجزء الأخير منها ـ في ترتّب الحكم علی الموضوع.
وعليه، فإنّ مجرّد دعوى أنّ الحكم ينتفي بانتفاء الوصف لا يكفي في إثبات علّيّة الوصف للحكم، إذ إنّ هذه الخصوصيّة لا تختصّ بالوصف دون غيره، بل تسري إلى سائر قيود الموضوع، فإنّ جميعها يوجب انتفاؤه انتفاء الحكم. غير أنّ العرف لا يعتبر كلّ قيد من قيود الموضوع علّة في ترتّب الحكم عليه، وإلّا لزم القول بعلّيّة اللقب أيضاً، وهو واضح البطلان.
وبعبارةٍ أُخرى: جميع قيود الموضوع تؤخذ بلحاظ حيثيّة تقييديّة، ولكن بعض تلك القيود تنطوي على حيثيّة تعليليّة أيضاً، بمعنى أنّ ترتّب الحكم على الموضوع في نظر المتكلّم وفي فهم المخاطب يكون معلّلاً بخصوص تلك الحيثيّة.
فالمهمّ في البحث عن دلالة القيود المأخوذة في الموضوع على المفهوم، هو تشخيص الجانب التعليلي فيها، أي ثبوت العلّيّة الاعتباريّة لذلك القيد في ترتّب الحكم على الموضوع. وأمّا مجرّد الحيثيّة التقييديّة، فثبوتها لكلّ قيد واضح لا يحتاج إلى استدلال، لأنّ انتفاء أيّ من تلك القيود يوجب بطبيعة الحال انتفاء الحكم دون أن يلازم ذلك إثبات المفهوم بالمعنى المصطلح.
ومن هنا قال المحقّق الخراساني في مقام بيان أنّ الأصل في القيود هو الاحترازيّة: إنّ احترازيّة القيود إنّما تفيد تضييق دائرة موضوع الحكم في القضيّة كما لو وقع هذا التضييق ابتداءً بلفظ واحد من دون توسّط قيد، كأن يقال: «جئني بإنسان»، بدلاً من قوله: «جئني بحيوان ناطق».[1]
فإذا قيل: «إنّ الوصف مشعر بالعلّيّة» فلا يراد بذلك أنّ الوصف بما أنّه من قيود الموضوع وله مدخليّة في تماميّة اقتضاء المقتضي، فهو بمنزلة الشرط ويستلزم انتفاء الحكم بانتفائه، إذ لو كان المراد ذلك، لما صحّ التعبير بأنّ «الوصف مشعر بالعلّيّة»، بل لكان اللازم أن يقال: إنّ الوصف جزء من أجزاء العلّة التامّة للحكم.
بل المراد من هذه العبارة أنّ ذكر الوصف يشعر بأنّ المتكلّم قد اعتبر ذلك الوصف علّة لترتّب الحكم على الموضوع؛ فمثلاً إذا قيل: «أُحبّ الوردة الحمراء»، دلّت هذه العبارة على أنّ حمرة الوردة في نظر المتكلّم هي السبب في حبّه لها، أي أنّها علّة اعتباريّة لترتّب الحكم لا أنّها جزء من العلّة التامّة الحقيقيّة له.
غير أنّ هذه الدعوى غير تامّة، لأنّ مجرّد ذكر الوصف لا يلازم إشعاره بالعلّيّة وإن لم يكن خالياً من احتمالها؛ ففي المثال المذكور قد لا تكون حمرة الوردة هي سبب حبّ المتكلّم لها، بل يكون الداعي إلى حبّها أنّ محبوبه يحبّ الوردة الحمراء، فهو يحبّها لأجل ذلك لا لأجل حمرتها، وإلّا فلو خلّي بينه وبين الوردة، لم تكن الحمراء عنده بأحبّ من البيضاء.
أو لو قال المولى لعبده: «جئني بخشبة طويلة»، فإنّ طول الخشبة لا يكون بالضرورة هو علّة الطلب، بل قد تكون العلّة أنّ المولى يريد أن ينال بها شيئاً موضوعاً في مكان مرتفع، فيكون الطول مطلوباً لأمر وراءه، لا بما هو هو.
نعم، إذا أُريد من «الإشعار» مجرّد احتمال العلّيّة للوصف، فلا إنكار فيه، غير أنّ مجرّد الاحتمال لا ينهض دليلاً على ثبوت العلّيّة، بل لابدّ في إثباتها من قرينة تدلّ على إرادتها. وعليه فإنّ إفادة الوصف للمفهوم على هذا المبنى تتوقّف على وجود تلك القرينة، وهو ما يوجب الخروج عن فرض الكلام.
وأمّا الاستدلال الذي أقامه المحقّق الإصفهاني لإثبات أنّ علّيّة الوصف للحكم انحصاريّة، فليس بتامّ، وذلك لأنّ الحكم المترتّب في كلّ قضيّة على موضوعها يغاير الحكم المترتّب في قضيّة أُخرى على موضوع آخر وإن اشتركا في عنوان كلّي واحد؛ فمثلاً يختلف وجوب إكرام «الإنسان العالم» عن وجوب إكرام «الإنسان العادل»، وإن كان كلّ منهما داخلاً تحت عنوان «وجوب الإكرام». ولذا إذا قال المولى: «أكرم رجلاً عالماً» ثمّ قال في دليل آخر: «أكرم رجلاً عادلاً» وكان «زيد» جامعاً بين الوصفين، فإنّ إكرامه حينئذٍ يحقّق امتثالين لا امتثالاً واحداً، بينما لو كان هناك حكم واحد لما تحقّق إلّا امتثال واحد.
وعليه فلا مانع من أن يكون وصف معيّن علّة لحكم في قضيّة ووصف آخر علّة لحكم آخر في قضيّة أُخرى وإن كان الحكمان تحت عنوان واحد، ولا يلزم من ذلك أن يجعل الوصف بعنوان جامع يشمل سائر القيود علّة للحكم دون ملاحظة عنوانه الخاصّ كي يستشكل عليه بأنّ ذلك خلاف ظاهر القضيّة الوصفيّة.
وقد التفت المحقّق الإصفهاني إلى هذا الإشكال وقال في مقام دفعه: إنّ الظاهر من القضيّة الوصفيّة أنّ الذي يناط بالوصف هو الوجوب بما هو، لا بما هو شخص خاصّ منه. وعليه فإنّ ما ينتفي بانتفاء ما يكون دخيلاً في موضوعيّة الموضوع لسنخ الحكم إنّما هو سنخ الحكم لا شخصه.[2]
ولكن قد سبق في الأبحاث التمهيديّة أنّ تقسيم الأحكام المذكورة في القضايا إلى سنخ الحكم وشخصه ممّا لا يمكن الالتزام به. وعليه فإنّ الحيثيّات الدخيلة في موضوع كلّ قضيّة تستلزم بالضرورة أن يتّصف الحكم المترتّب على ذلك الموضوع بحيثيّة خاصّة أيضاً؛ فمثلاً وجوب إكرام زيد من جهة كونه عالماً يغاير وجوب إكرامه من جهة كونه عادلاً.
والغريب أنّ المحقّق الإصفهاني مع أنّه قد أشكل علی دلالة القضايا علی سنخ الحكم ـ كما تقدّم في المباحث التمهيديّة ـ التزم في هذا الموضع بذلك وجعل وجه الإشكال في الاستدلال هو دعوى لزوم أخذ قدر جامع لعلل متعدّدة لحكم واحد.[3]