46/12/06
بسم الله الرحمن الرحیم
/ سقوط القضاء بناء على القاعدة/قاعدة «ما غلب الله عليه»
الموضوع: قاعدة «ما غلب الله عليه»/ سقوط القضاء بناء على القاعدة/
تقدّم أنّ القدر المتيقّن من موارد تطبيق قاعدة «ما غلب الله عليه» هو ما كان العذر فيه موجباً لفقدان الشروط العامّة للتكليف.
وأمّا إذا كان العذر شرعيّاً من دون أن يستلزم زوال تلك الشروط، فإن تعذّر على المكلّف إتيان أصل التكليف، فلا وجه لتطبيق القاعدة عليه حينئذٍ.
غير أنّه يمكن أن يدّعى ـ استناداً إلى حسنة مرازم وصحيحة معاوية بن عمّار،
وهما ظاهرتان في نفي توجّه أصل التكليف الاستحبابي إلى المكلّف عند عروض العذر ـ
أنّ التكاليف غير الإلزاميّة تختلف عن التكاليف الواجبة، فإنّ عروض العذر الشرعي المندرج تحت عنوان «ما غلب الله عليه» قد يؤدّي إلى سقوط أصل التكليف الاستحبابي عن عهدة المكلّف.
لكن هذه الدلالة تقيّد بقرائن أُخرى، ومنها ما دلّ على خلاف ظاهر هاتين الروايتين، کحسنة محمّد بن مسلم الذي قال: «قلت له: رجل مرض فترك النافلة؟ فقال: يا محمّد! ليست بفريضة، إن قضاها فهو خير يفعله وإن لم يفعل فلا شيء عليه»[1] [2] ، فإنّ هذه الرواية مع كونها مضمرة معتبرة، لأنّ مضمرات محمّد بن مسلم معمول بها عند الأصحاب، وتفيد أنّ النافلة تبقى مشروعة في ذمّة المكلّف وأنّ الفضل في قضائها، لا أنّ العذر أسقط أصل الاستحباب.
وبناءً عليه، تحمل حسنة مرازم وصحيحة معاوية بن عمّار على أنّ توجّه التكليف الاستحبابي إلى غير المعذور آكد وأشدّ، لا أنّ أصل الاستحباب قد ارتفع عن المعذور.
وأمّا إذا تسبّب عذر من الفئة الثانية في تعذّر إتيان بعض أجزاء المكلّف به أو شروطه، فلا يبعد القول بشمول القاعدة لهذا الفرض، بمعنى أنّ مدخليّة تلك الأجزاء أو الشروط في ملاك المكلّف به متوقّفة على عدم وجود عذر يجوّز تركها إذا كان هذا العذر ممّا يعدّ من مصاديق «ما غلب الله عليه»، وخاصّة إذا أدّى العذر إلى فقدان القدرة الشرعيّة على الإتيان بها.
نعم، إذا كان الجزء أو الشرط من أركان العمل وکان كالطواف ممّا تشرّع فيه الاستنابة أو کالطهارة المائيّة ممّا له بدل، فمقتضی قاعدة «ما غلب الله عليه» هو وجوب الإتيان بالبدل أو الاستنابة حينئذٍ، بل إنّ دلالة القاعدة علی وجوب البدل أو الاستنابة لا تقتصر على الأجزاء أو الشروط الركنيّة، بل تشمل غيرها أيضاً، كما في هدي الحجّ الذي يستبدل بالصوم عند تعذّر الهدي. وأمّا الأركان التي لا بدل لها ولا تشرّع فيها الاستنابة، فلا يمكن تصحيح العمل عند تعذّرها بالتمسّك بقاعدة «ما غلب الله عليه»، كما فيمن لا يقدر على الوقوفين في الحجّ.
ثمّ إنّ المحدّث البحراني قال في دلالة الروايات الواردة في الإغماء: «إنّ الجميع ظاهر كما ترى في أنّ سقوط القضاء عن المغمى عليه إنّما هو من حيث كون الإغماء من قبله سبحانه وفعله بعبده، وحينئذٍ فإلحاق الإغماء الحاصل من قبل المكلّف به وإن كان عن جهل، ليس بجيّد، بل حكمه حكم ما لو تعمّد ذلك من وجوب القضاء.
ومن هذا التعليل الذي قد عرفت أنّه من القواعد الكلّيّة والضوابط الإلهية يفهم أيضاً وجوب القضاء على الحائض والنفساء إذا كان عروض ذلك من قبلهما بشرب الدواء، وإن كان ظاهر الأصحاب خلافه عملاً بإطلاق أخبار الحيض.»[3]
إلا أنّ المحقّق الهمدانيّ أشكل على كلامه فقال: «فيه: منع ظهوره في العلّيّة المنحصرة، بل هي قضيّة كلّيّة مسوقة لبيان نفي القضاء وغيره من المؤاخذات المترتّبة علی ترك الواجب في وقتها إذا كان ذلك بإغماء ونحوه من الأسباب الخارجة عن اختيار المكلّف، وأمّا انحصار العذر بذلك كي يلزمه ثبوت القضاء عند انتفاء كونه ممّا غلب عليه، فلا يكاد يفهم منه، أي: لا ظهور له في السببيّة المنحصرة في مورده فضلاً عن أن يتعدّی عنه إلی الحائض ونحوها ممّا لا مساس لهذا التعليل به، لأنّه إنّما تتمشّی هذه القضيّة فيما إذا كان ترك الصلاة محتاجاً إلی الاعتذار بأن كانت تلك الصلاة بالذات مطلوبة منه ففاتته لعذر خارج عن اختياره، بخلاف ما لو كانت الصلاة محرّمة عليه كما في الحائض والنفساء، فإنّ فعلها حينئذٍ يكون موجباً للمؤاخذة لولم يكن ممّا غلب عليه، لا تركها الذي يجب عليه اختياره طاعةً لله.»[4]
والحقّ في دعوى عدم إفادة القاعدة للمفهوم هو ما قاله المحقّق الهمداني، وإن كان ما ذكره من أنّ الصلاة محرّمة على الحائض والنفساء وأنّ الإتيان بها هو الذي يحتاج إلى العذر دون الترك، قابلاً للمناقشة، إذ قد يقال: إنّ حرمة الصلاة على الحائض والنفساء لا تلازم عدم وجود الملاك فيها، كما أنّ بعض العبادات ـ كالصوم ـ إذا كانت ضرريّة، فإنّ الإتيان بها يكون محرّماً،
ومع ذلك لا ينكر وجود الملاك فيها، بل يفترض فوته بسبب العذر ممّا يقتضي وجوب القضاء بعد زواله.
ولکنّ الجواب: أنّ متعلّق الحرمة في مورد الحائض والنفساء هو الصلاة نفسها، بينما في موارد الضرر، يكون متعلّق الحرمة هو عنوان «الإضرار بالنفس». وعليه ففي الحالة الثانية، حيث يكون الوجوب والحرمة متعلّقين بعنوانين مختلفين صادقين على مصداق واحد، يمكن القول بأنّ جهة الحرمة قد توجب سقوط فعليّة الوجوب مع بقاء الملاك فيه، فيسقط التكليف لأجل وجود المانع لا لانتفاء المقتضي.
وبعبارة أُخرى: وجود المانع قد يسقط الفعليّة دون أن ينكر وجود الملاك الواقعي للفعل.
وأمّا في ما ذكره صاحب الحدائق من مورد الحائض والنفساء، فلا يوجد إلّا عنوان واحد ـ وهو الصلاة ـ وهو بنفسه متعلّق للحرمة علی الفرض، فلا يمكن أن يفرض في آنٍ واحد وجود ملاك الوجوب فيه، لأنّ الجمع بين الحرمة والملاك الموجب للوجوب في نفس العنوان غير معقول.
وعليه لا يصحّ قياس حرمة الصلاة على الحائض والنفساء بحرمة الصوم الضرري.
وبذلك يتّضح أيضاً وجه الإشكال في دعوى السيّد العاملي حيث قال: : «وأمّا ما كان بتقصير منه فإنّه يطلق عليه عرفاً أنّه فوّت الصلاة أو فاتته فيدخل تحت العمومات... وليس هو أمر غلب الله عليه فيكون مسقطاً... إذ مفهوم العلّة يقتضي القضاء إذا كان بفعل المكلّف.»[5]
إلا أنّ السيّد الخوئي أشكل على ما ذهب إليه المحقّق الهمداني وقال: «إنّ حيثيّة الإغماء ذاتيّة بالإضافة إلى الإغماء نفسه، وحيثيّة استناده إلى غلبة الله سبحانه حيثيّة عرضيّة. فلو كان المقتضي لنفي القضاء هو طبيعي الإغماء ـ أعني: الحيثيّة الذاتيّة ـ لم يحسن العدول عنه في مقام التعليل إلى الجهة العرضيّة. فإذا فرضنا أنّ العالم يجب إكرامه لذاته لم يحسن حينئذٍ تعليل الوجوب المذكور بأنّه شيخ أو هاشمي أو من أهل البلد الفلاني ونحو ذلك.
فاذا بنينا على دلالة النصوص المذكورة على أنّ العلّة في نفي القضاء عن المغمى عليه هي غلبة الله في الوقت كما هو المفروض، فطبعاً نستكشف من ذلك أنّ طبيعي الإغماء بذاته لا يستوجب نفي القضاء، فإنّه وإن احتمل وجود علّة أُخرى للنفي أيضاً ـ لما عرفت من عدم ظهور التعليل في الانحصار ـ لكن ظهوره في عدم ترتّب الحكم على الطبيعي غير قابل للإنكار، فلا محيص من رفع اليد عن المطلقات لأجل هذه النصوص الدالّة على أنّ الموجب لنفي القضاء إنّما هي غلبة الله.»[6]
لكن يشكل عليه بأنّ استناد الإمام(ع) إلى القاعدة في نفي القضاء لا يلزم أن يكون مستنداً إلى عدم وجود المقتضي في نفس الإغماء لعدم توجّه التکليف، بل قد يكون مبنيّاً على ما يفهم من سياق سؤال السائل من أنّ الإغماء كان طارئاً خارجاً عن اختيار المكلّف.
وعليه فالإمام(ع) لم يكن في مقام نفي المقتضي الذاتي للإغماء لعدم توجّه التکليف، وإنّما کان بصدد بيان ضابطة عامّة يستنبط منها الحکم الشرعي في الموارد التي يعرض فيها العذر من دون اختيار المكلّف. فلو فرض وجود جهة أُخرى في الإغماء توجب سقوط التكليف حتّى في صورة حصوله عن اختيار، فذلك لا ينافي كون الإمام(ع) قد بيّن قاعدة عامّة تنطبق على مورد السؤال، من دون أن يكون بصدد نفي سائر الجهات المؤثّرة في الحكم.
ثمّ إنّ صاحب الجواهر قال في بيان مفاد هذه القاعدة: «المراد منها أنّ كلّ ما غلب الله من الشرط أو المانع أو الجزء أو الكلّ، فالله أولى بالعذر فيه، بمعنى يسقط حكم المغلوب عليه ويبقى الباقي.»[7]
ولكن يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ مفاد القاعدة يشتمل على تفصيل قد تقدّم بيانه، فإنّها لا تجري في موارد تعذّر الإتيان بالمكلّف به بأسره، إلا إذا كان العذر موجباً لانتفاء الشروط العامّة للتكليف.
وثانياً: أنّ قاعدة «ما غلب الله عليه» لا تدلّ علی بقاء حكم الباقي، لأنّها إنّما تتكفّل بنفي التكليف ولا تثبت تكليفاً جديداً، والذي يتكفّل بإثبات الحكم بالنسبة إلى المقدار المتبقّي هو «قاعدة الميسور».
والفرق بين القاعدتين ـ فضلاً عمّا تقدّم ـ هو أنّ «قاعدة الميسور» تختصّ بموارد العسر ولا تشمل مطلق موارد العذر، بخلاف قاعدة «ما غلب الله عليه»، فإنّها تجري في كلّ ما يعدّ عذراً شرعيّاً خارجاً عن اختيار المكلّف.