46/11/22
بسم الله الرحمن الرحیم
التمسّک بآية(أُولُوا الْأَرْحامِ)/ أحکام الحضانة/أحکام الأولاد
الموضوع: أحکام الأولاد/ أحکام الحضانة/التمسّک بآية (أُولُوا الْأَرْحامِ)
تبيّن ممّا تقدّم في كلمات الأصحاب أنّ كثيراً منهم تمسّكوا بقوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِی كِتَابِ اللَّهِ﴾[1] لإثبات أحقيّة الأقارب في الحضانة عند فقد الأبوين. وعليه فمن المناسب أوّلاً أن نتطرّق إلى تفسير هذه الآية المباركة ليتبيّن أنّه هل يمكن التمسّك بها في المقام أم لا؟
يذكر الفخر الرازي بعض الآيات السابقة عليها ـ أي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِی سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكـُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَیْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا﴾[2] ـ فيقول: «اختلفوا في المراد بهذه الولاية، فنقل الواحدي عن ابن عبّاس والمفسّرين كلّهم أنّ المراد هو الولاية في الميراث وقالوا: جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنّه لم يهاجر ولم ينصر.
واعلم أنّ لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى، لأنّ هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قرّرناه في مواضع من هذا الكتاب، ويقال: «السلطان وليّ من لا وليّ له»، ولا يفيد الإرث... بل الولاية تفيد القرب فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظماً للبعض مهتمّاً بشأنه مخصوصاً بمعاونته ومناصرته، والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء، وأن يكون حبّ كلّ واحد لغيره جارياً مجرى حبّه لنفسه، وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى كان حمله على الإرث بعيداً عن دلالة اللفظ، لا سيّما وهم يقولون: إنّ ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ﴾ ، وأيّ حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنىً لا إشعار لذلك اللفظ به ثمّ الحكم بأنّه صار منسوخاً بآية أُخرى مذكورة معه، هذا في غاية البعد.
اللهمّ إلا إذا حصل إجماع المفسّرين على أنّ المراد ذلك، فحينئذٍ يجب المصير إليه، إلا أنّ دعوى الإجماع بعيد.»[3]
ثمّ قال في تفسير الآية التي ذكرناها في بداية الكلام: «الذين قالوا المراد من قوله تعالى: ﴿أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ ولاية الميراث، قالوا: هذه الآية ناسخة له، فإنّه تعالى بيّن أن الإرث كان بسبب النصرة والهجرة والآن قد صار ذلك منسوخاً، فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة. وقوله: ﴿فِی كِتابِ اللَّهِ﴾ المراد منه السهام المذكورة في سورة النساء. وأمّا الذين فسّروا تلك الآية بالنصرة والمحبّة والتعظيم قالوا: إنّ تلك الولاية لمّا كانت محتملة للولاية بسبب الميراث، بيّن الله تعالى في هذه الآية أنّ ولاية الإرث إنّما تحصل بسبب القرابة إلا ما خصّه الدليل، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم، وهذا أولى، لأنّ تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز...
تمسّك أصحاب أبي حنيفة... بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام، وأجاب أصحابنا عنه بأنّ قوله: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ﴾ مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولويّة، فلمّا قال: ﴿فِی كِتابِ اللَّهِ﴾ كان معناه في الحكم الذي بيّنه الله في كتابه، فصارت هذه الأولويّة مقيّدة بالأحكام التي بيّنها الله في كتابه، وتلك الأحكام ليست إلا ميراث العصبات. فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط، فلا يتعدّى إلى توريث ذوي الأرحام.»[4]
ويقول العلامة الطباطبائي في تفسير الآية 72 من سورة الأنفال: «الولاية أعمّ من ولاية الميراث وولاية النصرة وولاية الأمن، فمن آمن منهم كافراً كان نافذاً عند الجميع، فالبعض من الجميع وليّ البعض من الجميع، كالمهاجر هو وليّ كلّ مهاجر وأنصاري، والأنصاري وليّ كلّ أنصاري ومهاجر، كلّ ذلك بدليل إطلاق الولاية في الآية.
فلا شاهد على صرف الآية إلى ولاية الإرث بالمواخاة التي كان النبي(ص) جعلها في بدء الهجرة بين المهاجرين والأنصار وكانوا يتوارثون بها زماناً حتّى نسخت.»[5]
وقال في تفسير الآية 75 من هذه السورة: «جعل للولاية بين أُولي الأرحام والقرابات، وهي ولاية الإرث، فإنّ سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.
والآية تنسخ ولاية الإرث بالمواخاة التي أجراها النبي(ص) بين المسلمين في أوّل الهجرة وتثبت الإرث بالقرابة، سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن، أو كان عصبة أو لم يكن، فالآية مطلقة كما هو ظاهر.»[6]
ولهذه الآية الشريفة نظير في سورة الأحزاب حيث قال تعالى: ﴿النَّبِیُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِی كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً﴾[7] وهي ظاهرة في أنّ المورد يخصّ الإرث، فنعرف بذلك أنّ ما ورد في سورة الأنفال أيضاً يتعلّق بأولويّة الأقرباء في الإرث بالنسبة إلى غيرهم، وغالباً ما وقع التمسّك في الأخبار بهاتين الآيتين في مورد الإرث.
غير أنّ هناك أخباراً تمسّك فيها بالآيتين في غير مورد الإرث أيضاً، نذكر بعضها فيما يلي:
1 ـ خبر أبي بصير، قال: «قلت لأبي جعفر(ع): إنّ رجلاً من المختاريّة لقيني فزعم أنّ محمّد بن الحنفيّة إمام. فغضب أبو جعفر(ع) ثمّ قال: أفلا قلت له؟ قال: قلت: لا والله! ما دريت ما أقول؟ قال: أفلا قلت له: إنّ رسول الله(ص) أوصى إلى عليّ والحسن والحسين، فلمّا مضى عليّ(ع) أوصى إلى الحسن والحسين(ع) ولو ذهب يزويها عنهما لقالا له: نحن وصيّان مثلك، ولم يكن ليفعل ذلك. وأوصى الحسن(ع) إلى الحسين(ع)، ولو ذهب يزويها عنه لقال: أنا وصيّ مثلك من رسول الله(ص) ومن أبي، ولم يكن ليفعل ذلك. قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ﴾، هي فينا وفي أبنائنا.»[8]
وسننقل بقيّة الروايات في الجلسة القادمة إن شاء الله.