« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/26

بسم الله الرحمن الرحیم

إمکان الواجب المعلّق/الأوامر (الواجب المعلّق و المنجّز) /مباحث الألفاظ

 

الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر (الواجب المعلّق و المنجّز) /إمکان الواجب المعلّق

 

خلاصة الجلسة الماضية

قلنا في الجلسة الماضية إنّه یقال في الواجب المعلّق «الوجوب فعلي و فعل الواجب استقبالي». و الإشكال هو أنّ الوجوب الفعلي يجب أن يقتضي فعلاً حاليّاً و تأخيره غير معقول. الرد: خطاب الشارع واحد و الاختلاف ينشأ من جهة المكلّفين و موقعهم الزماني، لا من جهة الحكم. و الحج هکذا: المستطيع الداخل في شهر ذي الحجة يجب عليه الذهاب لأداء الحج فوراً؛ و أمّا المستطيع الذي استطاع قبل شهر ذي الحجّة، فالحكم عليه فعلي، و لكن الإنجاز يكون في الموسم. النتيجة: تنجّز الخطاب ثابت، و الاختلاف في زمان التكليف يرجع إلى المكلّف و ليس في نفس الحكم.

مسألة: الوجوب الحالي و الواجب الاستقبالي

كان الكلام في مسألة «الواجب المعلَّق». المراد من الواجب المعلَّق هو «الوجوب الحالي و الواجب الاستقبالي». على سبيل المثال، في الحج، عندما يصبح الشخص مستطيعاً، يتحقّق الوجوب عليه حالاً (الآن و بلا تأخير)، في حين يبقى إنجاز الواجب نفسه (مناسك الحج) مؤجّلاً للزمن الآتي، أي شهر ذي الحجة. بافتراض بقاء ثلاثة أشهر حتّى ذي الحجة، يكون الوجوب قد صار فعلياً، و تكون أنت مُلزَماً بالبحث عن التسجيل في القافلة و إتمام المقدّمات. و بعد العثور على القافلة و تجهيز التذاكر و تنظيم البرامج و توفير الزاد و الراحلة، تُستعد جميع الأمور للذهاب إلى مكّة في شهر ذي الحجة. هذا هو مفهوم «الوجوب الحالي و الواجب الاستقبالي».

إشكال المحقّق الإصفهاني و جواب صاحب الكفاية

لقد أورد المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) إشكالاً على هذا الوجوب قائلاً: ما هذا الوجوب الذي لا يوجد فيه واجب (متعلق الوجوب)؟ الوجوب يجب أن يكون له متعلّق واجب و يجب علينا إنجاز ذلك العمل، و لكن في هذه الحالة بقي ثلاثة أشهر؛ لذا فإنّ هذا الوجوب (بدون واجب فعلي) لا معنى له في هذه الحالة.

كلام المحقّق الخراساني في المقام

قال صاحب الکفایة (رحمة‌الله‌علیه) في الجواب: «إنّ الإرادة تتعلّق بأمر متأخَّر استقبالي، كما تتعلّق بأمر حالي، و هو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل، ضرورة أن تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات. فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة و كثير المؤونةـ ليس إلّا لأجل تعلّق إرادته به، و كونه مريداً له قاصداً إياه، لا يكاد يحمله على التحمّل إلّا ذلك. و لعلّ الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد، و توهمّ أنّ تحريكها نحو المتأخّر ممّا لا يكاد، و قد غفل عن أن كونه حركاً نحوه يختلف حسب اختلافه، في كونه ممّا لا مؤونة له كحركة نفس العضلات، أو ممّا له مؤونة و مقدّمات قليلة أو كثيرة، فحركة العضلات تكون أعمّ من أن تكون بنفسها مقصودةً أو مقدّمةً له، و الجامع أن يكون نحو المقصود»[1] أي أنّ الإرادة (القصد) تارةً تتعلّق بـ «أمرٍ حالي» (أمر موجود في الحال)، و تارةً تتعلّق بـ «أمرٍ استقبالي» (أمر يتحقّق في المستقبل).

توضيح ذلك: أنت تُقرِّر أن تفعل شيئاً في الحال، و هذا ما نسمّيه: «الإرادة تتعلّق بأمرٍ حالي» و لكن عندما تقول: سأجعل المنبّه مثل الساعة أو الهاتف لكي أستيقظ بعد ساعتين لصلاة الليل، فهنا «الإرادة تتعلّق بأمرٍ استقبالي». إذن، إرادتنا تارةً تتعلّق بأمرٍ حالي و تارةً بأمرٍ استقبالي، و لا إشكال في ذلك. و كذلك الأفعال و التكاليف التي يطلبها منّا الحق سبحانه و تعالى؛ فبعض التكاليف تكون حاليةً و یأمر بالإنجاز الفوري، و بعضها يخبرنا بإنجازها بعد ساعتين أو ثلاث. إرادتنا تارةً حالية و تارةً استقباليّة، و إرادة الله تعالى كذلك؛ تارةً حالية و تارةً استقباليّة.

يقول المحقّق الخراساني (رحمه‌الله): الإرادة و خطاب الشارع هو «تَحريكُ العَضَلاتِ نَحوَ المرادِ». و المراد من «تَحريكُ العَضَلاتِ نَحوَ المُرادِ» هو أن خطابات الشارع كاشفة عن إرادة الشارع. فعندما يقول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾[2] فإنّ هذا الخطاب من الشارع هو كاشف عن الإرادة الإلهية بأن تؤدّوا الصلاة. هذه الإرادة تُحدِث تحريكاً للأعضاء باتجاه المراد و المقصود. عندما يسمع المكلّف هذا الخطاب، يبدأ في تحصيل المقدّمات: يجب أن يكون لباسه طاهراً، و يُحدِّد القبلة، و يتأكد أنّ المكان ليس مغتصباً. يهيئ نفسه حتّى إذا حان وقت الصلاة قال: «الله أكبر»؛ و يتعلّم أذكار الركوع و السجود و القراءة. يُرتِّب كلّ هذه الأمور ليتحقّق أمر ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾. لقد كانت إرادة الله على هذا النحو، و بناءً عليه، يحدث من جهة المكلّف أيضاً «تَحريكُ العَضَلاتِ نَحوَ المُرادِ».

يجب الانتباه إلى معنى «نَحوَ المرادِ»؛ هل المراد هو فقط «ذُو المقدّمة» (الواجب الأصلي) أم يشمل المقدّمات أيضاً؟

الجواب هو: أنّه يشمل المقدّمات و ذا المقدّمة معاً. يقول المحقّق الخراساني (رحمه‌الله): «نَحوَ المُرادِ» يعني أن تؤدّوا المراد (الواجب الأصلي) بكافّة خصوصيّاته. و أداء المراد بكافّة خصوصيّاته يعني أنّ لهذا الواجب مقدماتٍ. تارةً يكون هذا المراد حالياً و لا يحتاج إلى مقدّمات بعيدة و يُنجّز في نفس اللحظة. و لكن تارةً أخرى يتطلّب هذا «تَحريكُ العَضَلاتِ نَحوَ المُرادِ» مئات المقدمات و يجب إنجاز كلّ تلك المقدّمات للوصول إلى المراد. و هذا أي «تَحريكُ العَضَلاتِ نَحوَ المرادِ» يختلف باختلاف الأزمنة و الأمكنة و الأشخاص و الواجبات المختلفة. قد يكون له مقدّمات كثيرة أو مقدّمات قليلة.

الاختلاف في الإرادة: هل هي إرادة واحدة أم إرادتان؟

السؤال المطروح هو: هل توجد «إرادة واحدة أو إرادتان» لدى المكلَّف؟

أ) نظريّة الإرادتين: هل تتشّكل لدى المکلَّف إرادتان؟ إرادة للمقدمات و إرادة لذي المقدَّمة (الواجب الأصلي)؟ إذا كان الأمر كذلك، فهاتان الإرادتان منفصلتان. يرى البعض وجود إرادتين. الإشكال على هذا الرأي أنّه إذا كان هناك وجوبان منفصلان، فقد يقوم الفرد بالمقدّمات و لكنّه لا يقوم بذي المقدَّمة.

ب) نظرية الإرادة الواحدة (المحقّق الخراساني): إذا قلنا بوجود «إرادة واحدة مستمرة»، فماذا يعني ذلك؟

يقول المحقّق الخراساني: إنها «إرادة واحدة مستمرة»؛ يعني أنّه عندما يأتي الخطاب الشرعي، يبدأ المکلَّف في القيام بالمقدمات. و يُطلق عليه «الإرادة المستمرة»؛ أي أنّ ذهن المکلَّف ينشغل منذ صدور الخطاب بالسعي لتحقيق هذا الواجب. و هذا أي «تحريك العضلات نحو المراد» مع الإرادة المستمرة، هو شيء واحد. في الواقع، يوجد «الشوق المؤكّد إلى إيجاد المراد». هذا الشوق المؤكّد هو الذي يأمرك بالقيام بالمقدّمات. الإرادة الأصليّة هي الإرادة لذي المقدّمة و الإرادات الأخرى (إرادة القيام بالمقدمات) تبعية و فرع عليها. الشوق إلى المقدّمات نابع من الشوق إلى المراد، و كلّها تشكّل إرادةً مستمرّةً واحدةً. بالتالي، جميع الإجراءات التمهيديّة (مثل تنظيف الجسد و لبس الثوب النظيف و الوضوء) ترتكز على ذلك الوجوب الأصلي.

على أيّ حال، إذا قبلنا نظرية المحقّق الخراساني (الإرادة الواحدة المستمرة)، تُحلّ مسألة الواجب المعلَّق؛ لأنّ الإرادة لذي المقدّمة (الواجب الأصلي) هي نفسها التي تجبرك على القيام بجميع المقدّمات. هذه الإرادة لذي المقدّمة ليست إرادةً منفصلةً للمقدّمات. و نتيجة ذلك أنّ وجوب المقدّمة ليس وجوباً منفصلاً و مستقلاً عن وجوب ذي المقدّمة؛ بل كلّ ذلك إرادة واحدة مستمرّة. يُعبَّر عن هذه الإرادة بـ «إرادة الشوقية» و هي التي توجِد «التحريك نحو المراد». هذه الإرادة قد تحتاج إلى مقدّمات و قد لا تحتاج إليها.

في رأينا، إنّ قول المحقّق الخراساني (قدس سره) هو حلّ لمشكلة ثبوت وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها. الإشكال الأساسيّ هو: كيف يمكن أن يجب شيء قبل حلول موعده، مثل وجوب مقدّمات الحجّ قبل حلول شهر ذي الحجة؟ في رأينا، يمكن حلّ هذه المشكلة بهذه الطريقة. و ينبّه المحقّق الخراساني (رحمه‌الله) إلى أنّ المسافة بين المقدمة و ذیها قد تكون قصيرةً أو طويلةً؛ و هذا لا فرق فيه. غایة الأمر هو «تحريك العضلات نحو المراد».

تشبيه بتأثير المتأخّر في الأمور التشريعية

لتقريب المعنى، يجب الرجوع إلى مسألة «شرط المتأخر». في مثل «الغسل الليلي للمستحاضة الکثیرة» قلنا إنّ صيام المستحاضة الکثیرة في الیوم السابق يصحّ إذا اغتسلت اللیلة اللاحقة؛ و هذا ما يُسمى «الشرط المتأخر». كان يُقال إنّ «تأثير المتأخّر في المتقدم» محال. و لكننا قلنا إنه لا إشكال في شريعتنا أن يؤثّر أمر متأخر في أمر متقدم. هذا الأمر ليس «تكوينياً» حتى تقول إن «تأثير المتأخر في المتقدم» محال؛ بل هو حكم «تشريعي» أمر به الشارع المقدس.

في رأينا، الأمر كذلك في بحث الواجب المعلَّق؛ هذا أمر «تشريعي». و يبدو أنّ الإشكال- کیف یمکن أن یکون للشيء وجوب و لکنّ الواجب لیس موجوداً إلّا في المستقبل؟- في الأمور التشريعيّة، غير وارد؛ لأنّ الله تعالى قدَّر ذلك. هذا الحكم ليس تكوينيّاً حتّى تقول ما هذا الوجوب؛ بل هو حكم تشريعيّ كـ «تأثير المتأخّر في المتقدم». في رأينا، هذه الأمور لا إشكال فيها على الإطلاق.


logo