« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/24

بسم الله الرحمن الرحیم

إمکان الواجب المعلّق/الواجب المعلّق و المنجّز /مباحث الألفاظ

 

الموضوع: مباحث الألفاظ/الواجب المعلّق و المنجّز /إمکان الواجب المعلّق

 

خلاصة الجلسة السابقة

کان النقاش في الجلسة السابقة حول أنّ القیود في الأوامر هل هي راجعة إلی المادّة أو إلی الهیئة؟ بعبارة أخری هل القیود قیود للوجوب أو قیود للواجب؟ و قیل أیضاً إنّ الوجوب علی نوعین: وجوب إنشائي و وجوب فعلي.

البحث في الواجب المعلّق و تفكيك الوجوب عن الواجب(دراسة لزوم تفكيك زمان الوجوب عن زمان الواجب في المسائل الاعتبارية)

قد جری النقاش في علم الأصول حول مسألة الواجب المعلق (الواجب المشروط). و قد قال المرحوم الحائري الأصفهاني: «و ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف و لا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة و ليسمّ منجّزاً أو إلى ما يتعلق وجوبه به و يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له و ليسمّ معلّقاً كالحج فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة و يتوقّف فعله على مجي‌ء وقته و هو غير مقدور له.» [1]

السؤال الرئيسي هو: ما معنى أن يكون الوجوب حاليّاً (أي إنّ الوجوب موجود بالفعل و في الحال)، بينما يكون الواجب استقباليّاً (أي إن متعلق الوجوب مرتبط بالمستقبل).

فعلى سبيل المثال، في فريضة الحج، حين يصبح الإنسان مستطيعاً يكون الوجوب حاضراً حالياً، و لكن الواجب (أداء المناسك) يتأخّر إلى شهر ذي الحجة، الذي قد يأتي بعد ثلاثة أو أربعة أشهر. و على الرغم من هذا الفاصل الزمني، يجب على المكلّف منذ هذه اللحظة أن يسعى إلى إعداد المقدّمات، مثل الحصول على الإذن، و الانضمام إلى القافلة، و تأمين سائر التجهيزات اللازمة.

إشکال علی المسألة المذکورة

قال المحقّق النهاوندي (رحمةالله علیه): «يرد عليه: أنّ التفكيك بين زمان الوجوب و بين زمان ذات الواجب أمر غير معقول؛ لأنّ اتصاف الفعل بالوجوب فى زمان فرع إمكانه اذ معنى اتصافه بالوجوب فى زمان هو كونه لازم الحصول فيه و لا يعقل ذلك الّا مع فرض امكان وقوعه فى هذا الزمان ثمّ إذا قيّد الفعل بوقوعه فى زمان آخر يستحيل وقوعه بقيده فى ذاك الزمان لعدم امكان اجتماع الأزمنة فاتصاف الفعل الواقع فى زمان بالوجوب فى زمان آخر غير ممنوع و ممتنع و الحاصل قد مرّ أنّ اختلاف زمان الوجوب و الفعل محال ...»[2]

الإشكال هو أنّ هذا الفصل و التفريق أساساً مُحَالٌ؛ لأنّه ما مفهوم الوجوب؟ الوجوب معناه أنّ تركه حرام. فإذا ترك شخصٌ إتيان الحج (لأنّه بقيت أربعة أو خمسة أشهر إلى الوقت الأصلي) و مشتغل فقط بتحصيل المقدمات، هذا يعني أنّ الحج في الحال ليس واجباً عليه.

فما هذا الوجوب الذي ليس تركه حراماً و ليس فعلُهُ لازماً؟ الوجوب هو ما كان فِعْلُهُ لازماً و تركُهُ حراماً. فإذا كان الوجوب حاليّاً و الواجب استقباليّاً، فهذا القول غلط. يشكل البعض بأنّه إنّما تجب في هذا المورد المقدّمات لا الواجب نفسه.

أصل الإشكال: خلط المباحث الفلسفية بالاعتبارية

أجاب الإمام الخمیني (أعلى الله مقامه الشريف) و جماعة من العلماء بأنّ إشكالكم هو أنّكم خلطتم المباحث الاعتباريّة بالمباحث الفلسفية.

يوجد أصل في الفلسفة و هو أنّ تفكيك الإِنشَاءُ عَن المنْشَأ مُحَالٌ و كذلك تفكيك الإرَادَةُ عَن المرَاد مُحَالٌ. هذه الأصول الفلسفيّة صادقة في التكوينيّات. و بالاستناد إلى هذا الأصل يسألون: كيف يمكن أن يكون لشيء وجوب، في حين أنّ متعلَّق الوجوب (الواجب) يتحقّق بعد ثلاثة أشهر؟ إذا كان لله إرادة و الوجوب حاصل، فيجب أن يتمّ العمل فوراً؛ و إلا فلا وجوب هناك.

رأي الشيخ الأنصاري في تفكيك الزمان

الشيخ الأنصاري كان يعتقد أنّ الوجوب موجود من قبل، و كان يقول: «الوجوب حالیٌّ و الواجب استقبالیٌّ [3] أي إنّ الوجوب فعلي من الآن (قبل تحقّق الشرط)، و لكن متعلّقه (الواجب) يتحقّق في المستقبل. برأيه الصلاة واجبة علينا و وجوبها حاصل، و كان يميز بين زمان الوجوب و زمان الواجب.

زمان الواجب يبدأ من أوّل أذان الظهر، لا زمان الوجوب. و لهذا كان يقول إنّه يجب تحصيل مقدّمات العمل (كمعرفة أحكام الصلاة) قبل حلول الوقت. و معرفة الأحكام تعدّ من المقدّمات المفوتة، لأنّها إذا تركت فات الواجب نفسه، إذ لو أراد أنّ يتعلّم الأحكام بعد الأذان لفاتته الصلاة.

و في مثال فقهي فرعي، إذا بقيت ساعة واحدة إلى وقت صلاة الظهر، فالتوضؤ بنيّة وجوب الصلاة لا يصح (و إن كان بعضهم يقول بأنّ نيّة مطلق الطهارة لا إشكال فيها)، و لكن الشيخ الأنصاري كان يقول إنّ الوجوب موجود.

الفرق بين الآراء

الشيخ الأنصاري (رحمه‌الله) كان يقول إنّ الوجوب موجود، و لكن الواجب يتحقّق بعد الساعة الثانية عشرة (وقت الظهر)، و في المقابل كان المحقّق الخراساني (رحمه‌الله) يقول إنّ الوجوب يأتي بعد الساعة الثانية عشرة و لا وجوب قبلها. و ثمرة هذا الخلاف تظهر في مسألة القضاء، أي وجوب قضاء الصلاة إذا فات وقتها.

و في كلّ حال كان يقول إنّه لا ينبغي خلط هذه المسألة، و لا ینبغي القول بإنّ الإرادة و المراد لا ينفصلان في التكوين، فلابد أن يكونا كذلك في التشريع. فالآية الكريمة ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[4] ناظرة إلى الإرادة التكوينية، أي إنّ الله حين يريد الشيء، يتحقّق المراد فوراً. لذلك يقال إنّ الإرادة و المراد يجب أن يكونا مجتمعين: إذا كانت هناك إرادة فلابد أن يكون هناك وجوب و يجب أن يُفعَل الشيء في الحال، و إن لم توجد إرادة فلا وجوب هناك. و على هذا لا معنى لأن يُقال: «الوجوب فعلي و الواجب يتحقّق بعد ساعتين أو ثلاث ساعات». يقول الشیخ الأنصاري (رحمه‌الله) إنّ هذا القياس غير صحيح، و لا ينبغي إلحاق المباحث الفلسفية المتعلقة بالإرادة التكوينية بالمباحث الاعتبارية، و لا ینبغي خلط الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة.

تمثيل الأمر الاستقبالي في الأمور التشريعية

في المسائل الاعتبارية و التشريعية لا إشكال في أن تتعلّق الإرادة بأمر استقبالي، كما في قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[5] فمثلاً في العرف قد تقول لخادمك: «الآن اذهب و خذ الطعام»، و قد تقول له: «اذهب بعد ساعتين و خذ الطعام». هذا أمر استقبالي و لا إشكال فيه. لقد صدرت منك الأوامر (كأن تحدّد نوع الطعام: كباب، دجاج، و غيرهما)، و لكن تنفيذها مؤجل إلى ساعتين أو ثلاث ساعات بعد ذلك. في هذه الحالة لم يقع تفكيك بين الإرادة و المراد، و إنما تعلّقت الإرادة بأمر استقبالي.

النتيجة و الشواهد الشرعية

الأمر كذلك في الشرع المقدس، فربما يكون الوجوب حاليّاً و الواجب استقبالياً، و تتعلّق إرادة الشارع بأمر استقبالي. و الدليل على ذلك قول الشارع المقدس: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[6] فهذه الآية تثبت وجوب الحج على المستطيع، و من جهة أخرى توجد أوامر تجعل أداء الحج في شهر ذي الحجة (و هو زمان الواجب).

و هذه الطريقة تحلّ مسألة الوجوب الحالي و الواجب الاستقبالي، و لا يستلزم منها المحالية، و لذلك حلّها الشيخ الأنصاري و أمثاله بهذه الطریقة.

 


logo