47/05/19
بسم الله الرحمن الرحیم
في إمکان الواجب المعلّق/الأوامر (الواجب المعلّق و الواجب المنجّز) /مباحث الألفاظ
الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر (الواجب المعلّق و الواجب المنجّز) /في إمکان الواجب المعلّق
خلاصة الجلسة السابقة
كانت المناقشة في الجلسة السابقة حول تقسيم الواجب المطلق إلى معلّق و مُنجَّز، و ذكرنا أنّ الواجب المعلَّق هو اصطلاح أوّل من أورده صاحب الفصول و هداية المسترشدين. ففيه الوجوب فعلي و لكن الأداء في المستقبل؛ كالحج بعد تحقُّق الاستطاعة. و قد طُرِحَت هذه النظريَّة لحل إشكال «وجوب المقدِّمة قبل وجوب ذي المقدِّمة»، و ثمرتُها تظهر في المقدّمات المفوّتة؛ كوجوب الغُسل قبل الفجر لصحّة الصوم. تعريف الواجب المنجَّز: الوجوب و الأداء (كالصلاة بعد دخول الوقت) توأمان. و تعريف الواجب المعلَّق: الوجوب فعلي و لكن أداؤه استقبالي (كالحج مع الاستطاعة).
توضيح ماهية الواجب المعلَّق و تعريفه
في علم أصول الفقه، طُرحت مسألة بعنوان الواجب المعلَّق منذ زمن صاحب الفصول و صاحب هداية المسترشدين. يشير هذا الاصطلاح إلى نوع من الوجوب يوجد فيه فاصل زمني بين فعليّة الحكم و فعليّة متعلَّقِه.
تعريف الواجب المعلَّق
الواجب المعلَّق هو ما كان «وجوبه فعلي» و لكن «المطلوب (الواجب) استقبالي»؛ أي إنّ حكم الوجوب قد حل بالفعل، أمّا أداء نفس الواجب فيتعلّق بالمستقبل. و لهذا السبب، يُسمّى أحياناً بـ «الوجوب حالي و الواجب استقبالي».
مثال: إذا استطاع المكلَّف مالاً و بدناً للحج، فإنّ وجوب الحج يصبح بالفعل في تلك اللحظة؛ أي إنّ تكليف الحج واجب عليه، رغم أنّه لا يزال يفصله أشهر عن شهر ذي الحجّة (زمان أداء الواجب). في هذه الحالة، الوجوب حالي و الواجب استقبالي. بناء على ذلك، يصبح تحصيل مقدّمات الحج، كـتدارك الزاد و الراحلة، واجباً على المكلَّف من لحظة الاستطاعة.
بتعبير آخر، المكلَّف قد وقع في دائرة الإلزام من حيث الحكم، و لكن فعل المأمور به يقع في ظرف المستقبل.
المطلب الثاني: في إمکان الواجب المعلّق و استحالته
في هذه المسألة، يوجد رأيان أساسيان بين الأصوليين:
القول الأوّل: إمکان الواجب المعلّق[1] [2] [3] [4] [5] [6] [7] [8] [9] [10] [11]
قال الحائري الاصفهاني (رحمهالله):«و ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف و لا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة و ليسم منجزا أو إلى ما يتعلق وجوبه به و يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له و ليسم معلقا كالحج فإن وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة و يتوقف فعله على مجيء وقته و هو غير مقدور له.» [12]
يرى بعض الفقهاء، و منهم صاحب الفصول و جماعة من المتأخرين، أنّ الواجب المعلَّق ممكن الوقوع، و أنّه قد تحقّق بالفعل في موارد كالحج.
القول الثاني: إستحالة الواجب المعلّق[13] [14] [15] [16]
في المقابل، يرى جمع من الأصوليين، من بينهم بعض المحقّقين المتأخرين، أنّ الواجب المعلَّق مستحيل، و يعتقدون أنّ اجتماع «الوجوب الفعلي» مع «الوجوب الاستقبالي» في المتعلَّق يستلزم التناقض.
الإشكال الأساسي عند منكِري الواجب المعلَّق
قد بَنى منكروا الواجبِ المعلَّق استدلالهم على حقيقة «الوجوب». يقولون: الوجوب يعني الإلزام بالفعل، بحيث يكون تركه حراماً. بعبارة أخرى: «الوجوب معناه أنّ تركه حرام».
فإذا قلتم بأنّ الوجوب قد صار فعلياً و لكن وقت أداء الواجب لم يحن بعد، فإنّ لازمه أن يكون تركه حراماً في الحال. ففي مثال الحج، إذا لم يحجّ المستطيع قبل شهر ذي الحجة، فإنّ ترك الحج غير حرام عليه فعلاً، لأنّه لم يحن وقت فعل الواجب بعد. فكيف يمكن القول بأنه وجوب فعلي؟
من هنا يستنتج المنكرون ما يلي:
«هذا الوُجوبُ الّذي لا يَلزَمُ مِن تَركِهِ العِقابُ، لَيسَ بوُجوبٍ حقيقيٍّ» و بعبارة أوضح، إذا أتى الوجوب الآن، فيجب أن يكون تركه ممنوعاً؛ و إذا كان الترك جائزاً، فلا وجود لوجوب. إذن، الواجب المعلَّق محال من الأساس.
منشأ الإشكال: الخلط بين الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية
أساس هذا الإشكال في الخلط بين نوعين من الإرادة: الإرادة التكوينية و الإرادة التشريعية. لقد استند منكروا الواجبِ المعلَّق إلى قاعدة تقول: «تخلّف الإرادة عن المراد ممتنع». و لهم استناد على الآية الكريمة: :﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[17] بناءً على ذلك، يقولون: إذا كانت إرادة الله (أي الوجوب) موجودةً قد تحقّقت فعلاً، فيجب أن يكون المطلوب (الواجب) موجوداً الآن أيضاً، و إلّا لزم أن تنفصل الإرادة عن المراد، و هذا مستحيل.
أمّا برأینا أنّ هذا خلط بين نوعين من الإرادة؛ لأنّ الإرادة التكوينيّة منشأٌ لإحداث خارجٍ و لا يمكن تخلّفه، في حين أنّ الإرادة التشريعيّة مجرد جعلِ تكليف و تحريض للمكلف، و يمكن أن تكون ناظرةً إلى الفعل الاستقبالي.
تبيین التمايز بين الإرادة التكوينية و التشريعية
أ) الإرادة التكوينية
في الإرادة التكوينية، إرادة الفاعل هي عين تحقّق المراد. فكلّما أراد الله- تعالی- شيئاً، فبمجرّد إرادته يتحقّق المراد في الخارج، كما قال:
﴿وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[18] في هذا النمط من الإرادة، «التخلّف» غير متصوّر.
ب) الإرادة التشريعية
أمّا في الإرادة التشريعية، فيريد الله-تعالی- أن يقوم المكلّفون بأفعال في أزمنة و شروط خاصة. و في هذا المقام، الإرادة بمعنى إيجاد الميل و الدافع لدى المكلف، لا التحقّق الخارجي للفعل.
و ببيان أدق:
الإرادة التشريعية هي إيجاد الشوق في المكلف بالخطاب الإلزامي. فالله سبحانه حين يأمر: بــ «صَلِّ» أو «حُجَّ» فإنّه في الواقع يُنشئ الدافع للقيام بالفعل في نفس المكلف. و هذه الإرادة يمكن أن تكون فعليّةً، حتّى لو وقع الفعل المأمور به في المستقبل.
الإنسان في أفعاله الاختيارية أيضاً يتصرف أحياناً هكذا. فمثلاً، يقرر شخص أن يسافر في المستقبل. في هذا القرار، تتحقق الإرادة الآن، و لكن الفعل المراد (السفر) يقع في المستقبل. بل و من لحظة الإرادة، يجب و يلزم توفير مقدمات السفر (شراء التذكرة، تجهيز الأمتعة، و غير ذلك).
و على هذا القياس، عندما يكون للشارع المقدس إرادة تشريعية بالحج و حصلت الاستطاعة، يكون وجوب الحج فعلياً، و لكن متعلّق الواجب (أفعال الحج) يقع في ظرف المستقبل. و مع ذلك، يُلزم المكلّف من ذلك الوقت بتوفير المقدمات. و هذا هو حقيقة الواجب المعلَّق.
برأینا أن الواجب المعلَّق ممكن الوقوع، و قد وقع في موارد كالحج و صوم شهر رمضان (في فرض العلم بحلوله). و خلط المنكرين من حيث أنّهم أرادوا أن يقيسوا إرادة الشارع التشريعيّة على معيار الإرادة التكوينية؛ في حين أنّ إرادة الشارع في مقام التشريع ناظرة إلى فعل المكلف في ظرف زمني خاص، لا إلى التحقّق الفعلي للمراد.
إذن:
الوجوب فعلي؛ لأنّ حكم الشارع منجزٌ بالفعل.
الواجب استقبالي؛ لأنّ وقته سيأتي لاحقاً.
تخلّف الإرادة عن المراد في هذا الموضع معقول، لأنه من نوع التشريع، لا التكوين.