« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/17

بسم الله الرحمن الرحیم

إطلاق الواجب علی الواجب المشروط حقیقة أو مجاز؟/الأوامر (الواجب المشروط و المطلق) /مباحث الألفاظ

 

الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر (الواجب المشروط و المطلق) /إطلاق الواجب علی الواجب المشروط حقیقة أو مجاز؟

 

ملخص الجلسة السابقة:

كان النقاش في الجلسة السابقة يدور حول إطلاق لفظ «الواجب» على «الواجب المشروط» قبل تحقّق الشرط. قلنا هناك اتّجاهان رئيسيّان بشأن إطلاق لفظ «الواجب» على الواجب المشروط (مثل صلاة الظهر قبل الزوال):

    1. رأي الآخوند الخراساني: يجوز إطلاق «الواجب» على الواجب المشروط. الدليل: قبل تحقق الشرط، لا يوجد وجوب بصورة فعليّة فالنتيجة العمليّة: لا يجب تحصيل المقدّمات (كتحصيل الماء للوضوء).

    2. رأي الشيخ الأنصاري: هذا الإطلاق حقيقة (لا مجاز). الدليل: الوجوب موجود بصورة حاليّة و فعليّة، و إن كان أداء الفعل مؤجلاً إلى المستقبل. النتيجة العملية: يجب تحصيل المقدمات من الآن.

الثمرة العملية للنظريّتين: الاختلاف بين هذين الرأيين يكمن في الوجوب الفعلي لتحصيل المقدّمات اللازمة لأداء الواجب المشروط.

الموضوع قيد البحث الحالي:

يدور النقاش الحاضر حول هذه المسألة الأساسية في علم أصول الفقه: كيف يمکن فهم الأمر الإلزامي عندما نجد عباراتٍ مثل «هذا واجب» أو «يجب عليك» في الآيات القرآنيّة الكريمة أو روايات المعصومين (عليهم السلام)؟ هل هذا الوجوب هو وجوب مطلق أم وجوب مشروط؟ هذا السؤال يُطرح على المجتهدين و أهل الاستنباط في مقام الاجتهاد و استنباط الأحكام الشرعية.

إتّجاهان رئیسیّان حول معنی «الوجوب»:

القول الأوّل: أنّ لفظ الواجب مجاز في المشروط[1] [2] [3] [4] [5] [6]

بناءً على هذا الرأي، إطلاق لفظ «الواجب» حقيقةً على الواجب المطلق (أي الأمر اللازم دون أيّ قيد أو شرط)، و إذا استُخدم في مورد الواجب المشروط (أي الأمر الذي وجوبه منوط بتحقّق شرط)، فسيكون الاستعمال مجازيّاً. و عليه، فإنّه عندما نجد لفظ «واجب» في آية أو رواية دون قرينة خاصّة، يجب حملُه طبقاً لهذا الرأي على معناه الحقيقي، أي الوجوب المطلق.

القول الثاني: لفظ الواجب مشترك معنوي بین الواجب المطلق و الواجب المشروط[7]

قال المحقّق الرشتي (رحمه‌الله): «أنّه لا دليل على كون الأمر و ما يجري مجراه مجازا في المشروط فتعين المصير إلى الاشتراك المعنوي.» [8]

في رأينا، الرأي الأصحّ هو أنّ لفظ «الواجب» مشترَكٌ معنوي بين الوجوب المطلق و الوجوب المشروط. و مقتضى الاشتراك المعنوي أنّ هذا اللفظ قد وُضع لمعنى واحد هو «اللزوم» و «الإلزام»، و هذا المعنى الواحد يصدق على الواجب المطلق كما يصدق على الواجب المشروط. وعليه، فإنّ «الواجب» يُستعمل في كلا الموردين على جهة الحقيقة، و ليس حقيقةً في أحدهما و مجازًا في الآخر. و في هذه الحالة، يكون لفظ «الواجب» أعمّ من المطلق و المشروط (أي «مطلق الوجوب»). و نتيجة هذا الرأي هي أنّه عندما يرد لفظ «واجب» في رواية، فقد يُراد به الوجوب المطلق، و في رواية أخرى قد يُبيَّن له قيد أو شرط فيصبح وجوبه مشروطاً، و كلا الاستعمالين صحيح و حقيقي. و المحقق الرشتي (قدس سره) من القائلين بهذا الرأي.

أدلّة القائلین بالاشتراك المعنوي (الرأي المختار):

قد استند هؤلاء الأکابر لإثبات دعواهم بالأدلّة الآتیة:

الدلیل الأوّل: التبادر[9]

إنّ المراد من «التبادر» هو أنّ اللفظ قد يستحضر معنيين مختلفين أو أكثر في الذهن في آنٍ واحد، و يكون له دلالة متكافئة على معانٍ متعدّدة. و عندما يكون التبادر كذلك، لا يمكن عدّ أحد المعاني مجازاً فحسب و إسناد الآخر إلى الحقيقة؛ لأنّ دلالة اللفظ على المعاني متكافئة و مُتساوية الوزن. و عليه، فإنّ لفظ «الواجب» في النصّ الشرعي قد يدلّ حقيقةً على «الواجب المطلق» و على «الواجب المشروط» على حدّ سواء؛ أي إنّ إطلاق اللفظ لا ينفي الحقيقة في أحد الموردين ويُحيلها إلى الآخر. من هنا، فإذا لم توجد قرينة، فلا يصحّ الحكم بمجازية الإطلاق، و يجب الأخذ بالاحتمالين الحقيقيّين في عين الاعتبار؛ و لذلك، عندما يُستعمل لفظ «الواجب»، يوجد تبادر (أي بداهة و سرعة انتقال الذهن) إلى معنى واحد يشمل كلا قسمي الواجب المطلق و الواجب المشروط. و هذا التبادر يدلّ على أنّ لفظ «الواجب» يُطلق حقيقةً على كلا القسمين و يشمل معنى واحدًا (اللزوم) يحيط بهما معاً.

الدلیل الثانی: صحّة تقسيم الوجوب إلى المطلق و المشروط[10]

إنّ تقسيم اللفظ إلى عدّة أقسام يُشير إلى أنّ ذلك اللفظ له معنى عامّ يشمل جميع تلك الأقسام. فمثلاً، عندما نقول: «الإنسان إمّا عالم و إمّا جاهل»، يتضح أنّ لفظ «الإنسان» يصدق حقيقةً على كلا القسمين (العالم و الجاهل)؛ وي ُقال في ذلك: إنّ المقسَم داخلٌ في أقسامه. و كذلك الحال في تقسيم «الكلمة إمّا اسم و إمّا فعل و إمّا حرف». و في مسألتنا أيضاً، عندما نقول: «الواجب إمّا مطلق و إمّا مشروط»، فإنّ ذلك دليلٌ على أنّ لفظ «الواجب» يشمل حقيقةً كلا القسمين، و أنّ التقسيم صحيح.

الدلیل الثالث: عدم المنافرة و التعارض[11]

في الاستعمال المجازي، تُوجد عادةً «المنافرة»؛ أي إنّه عندما يُستعمل لفظٌ ما، يتبادر إلى الذهن أوّلًا معناه الحقيقي، لكنّ الذهن ينتقل بعد ذلك إلى المعنى المجازي بسبب وجود قرينة تصرفه عن المعنى الأصلي، فيُترك المعنى الحقيقي تماماً فمثلًا حين يُقال: «رأيتُ أسداً»، يتبادر إلى الذهن أوّلاً الحيوان المفترس، و لكن إذا جاءت قرينة مثل «يرمي» (أي: كان يرمي بالسهم)، ينتقل الذهن من دون فاصل إلى المعنى المجازي و هو «الرجل الشجاع»، و یترك المعنى الأوّل كليّاً.

 

أمّا في التقييد و الشرط فلا توجد منافرة، كما في قولنا: «رقبةٌ مؤمنةٌ»، فإنّ الوصف «مؤمنة» يُقيّد المعنى و لا يُلغيه. فعندما يُقال «رقبة»، يُراد منها معناها الحقيقي و هو «العبد»، و حين يُضاف إليها القيد «مؤمنة» لا يُنفي ذلك معناها الحقيقي، بل يُقيّده.

إذًا، هذا الاستعمال هو استعمال حقيقي لا مجازي. و كذلك الأمر في تقييد المطلقات، فإنّ هذا التقييد بنفسه دليل على كون الاستعمال في الحالين (المطلق والمقيّد) حقيقيّاً، و لا يدلّ على المجاز.

الدلیل الرابع: الاجماع[12]

و قد استند بعضُ الأصوليّين إلى وجود إجماعٍ أو شهرةٍ على هذا الرأي، و هو أنّه في مثل هذه الموارد لا يوجد استعمالٌ مجازيّ، و بناءً عليه يمكن الحکم بأنّ استعمال لفظ «واجب» في الحالين هو استعمالٌ حقيقيّ.

المبحث الثاني: في تقسیم الواجب المطلق إلی المعلّق و المنجّز[13]

هنا ينبغي الالتفات إلى اختلاف التعابير المتنوّعة التي وردت في كتب الأصول، مثل:

الواجب المطلق في مقابل الواجب المشروط، الواجب المنجَّز (واجب فوري غیر منوط بحصول شرط) في مقابل الواجب المعلَّق (الذي یكون وجوبُه منوطاً بتحقّق شرطٍ في المستقبل)،و كذلك الواجب المطلق في مقابل الواجب المقيَّد.

فهذه التعابير و إن كانت متقاربةً في ظاهرها، و لکن قد تتضمّن فروقًا دقيقةً تحتاج إلى تدقيقٍ أعمقٍ في كلمات كبار الأصوليّين، كصاحب كتاب «الفصول».

فعلى سبيل المثال: هل «الواجب المشروط» هو بعينه «الواجب المعلّق»؟ أم أنّ بينهما فرقاً في جهةٍ من الجهات؟

هذا بحثٌ دقيقٌ لا يتّسع له المقام فعلاً، و يحتاج إلى دراسةٍ مفصّلةٍ مستقلةٍ في موضعٍ أخصّ من هذا السياق.

 


[13] الواجب المعلق عند صاحب الفصول هو الواجب المشروط عند الشیخ الأنصاري.
logo