« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/05

بسم الله الرحمن الرحیم

تعلّم الأحکام الشرعیّة واجب أم لا؟/الأوامر (مقدّمة الواجب) /مباحث الألفاظ

 

الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر (مقدّمة الواجب) /تعلّم الأحکام الشرعیّة واجب أم لا؟

 

خلاصة الجلسة السابقة:

 

كان النقاش في الجلسة الماضیة حول وجوب تعلّم الأحكام الشرعية. ذكرنا أنّ الشهيد الصدر، في بحثه حول «مقدمة الواجب»، قد تناول وجوب تعلّم الأحكام بالتفصيل. فقال: إذا كان المكلّف مستطيعاً فعلاً أو سيصبح مستطيعاً عن قریب، يجب عليه تعلّم أحكام الحجّ، أمّا إذا شكّ في أصل الوجوب (الشبهة الحكمية)، فعليه أولاً الفحص و البحث. أمّا إذا شكّ في تحقق الاستطاعة فعلاً أو احتمالها مستقبلًا، فاستصحاب عدم الاستطاعة جارٍ، و بناءً عليه ينتفي وجوب التعلّم.

البحث مطروح في علم الأصول تحت عنوان «مقدمة الواجب»، و المقصود منه هو: هل يُعدّ تعلّم الأحكام الشرعيّة من مصاديق مقدّمة الواجب أم لا؟

من الواضح أنّ كلّ مكلّف، إذا أصبح واجب ما فعلياً عليه، يجب أن يهيّئ مقدماته؛ فمثلًا إذا وجبت عليه الصلاة، لزمه أن يتعلّم أحكامها قبل الإتيان بها كي يؤدّيها على وجهٍ صحيح.

رأي الشهيد الصدر في وجوب التعلّم:

يرى الشهيد الصدر تفصيلًا في هذه المسألة، و يقول إنّ وجوب التعلّم تابعٌ لمدى ابتلاء المكلّف بالتكليف:

إذا كان متيقّناً من الابتلاء بتكليفٍ ما- كالطهارة أو الصلاة- فتعلّمُ أحكامه واجب.

أمّا إذا كان الابتلاء مشكوكًا أو محتملًا فقط، فيقول الشهيد الصدر: يمكن إجراء «استصحاب عدم الابتلاء»، و بالتالي لا يجب التعلّم؛ أي بما أنّه لم يكن مبتلًى سابقاً، فالأصل بقاؤه كذلك الآن.

مثلاً: شخص يحتمل أن يُبتلى يومًا بخسوف أو كسوف، يقول: «إن شاء الله لن أُبتلى»، فلا يتعلّم صلاة الآيات. أو لو ابتُلي بعد ذلك، يرجع إلى الرسالة العملية و يقرأ الحكم ليقضيها لاحقاً.[1]

نرى أنّ مقالة الشهيد الصدر في هذا المقام تتضمن إشكالات:

الإشكال الأول: التفريق بين المقدّمات المفوتة و غير المفوتة

إنّ مقالة الشهيد الصدر في هذا الموطن غير تامة؛ لوجوب التفريق بين المقدّمات المفوتة و غير المفوتة. و«المقدّمات المفوتة» هي التي إذا لم تُتعلَّم، لا يمكن إنجاز الواجب، و لا يمكن حتى الاحتياط. و مثال ذلك تعلّم صلاة الآيات، حيث لا يمكن أداؤها دون تعلّمها.

أمّا في المقدّمات غير المفوتة التي يمكن العمل فيها بالاحتياط (مثل غسل اليدين مرتين أو ثلاثاً في الوضوء)، فالتعلّم غير لازم.

و عليه، ففي موارِد احتمال الابتلاء بواجب و هو من النوع المفوّت، يكون وجوب التعلّم قطعيّاً، حتّى لو لم يتحقّق الابتلاء بعد.

الإشکال الثاني: المخالفة مع الرواية المعتبرة و إطلاق الأدلّة

صَرّح المحقّق الخوئي (رحمة الله علیه) بوجود رواية معتبرة في هذا الباب حیث نُقل عن «ابْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‌ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَ كُنْتَ عَالِماً فَإِنْ قَالَ نَعَمْ قَالَ لَهُ أَ فَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ وَ إِنْ قَالَ كُنْتُ جَاهِلًا قَالَ لَهُ أَ فَلَا تَعَلَّمْتَ‌ حَتَّى تَعْمَلَ فَيَخْصِمُهُ وَ ذَلِكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ.»[2]

يُستفاد من هذه الرواية أنّ الجهل عذرٌ غير مقبول، و أنّ المكلّف مُلزَمٌ بالتحرّك لإزالة الجهل. بالتالي، مع وجود مثل هذا الدليل المعتبر، لا وجه لإجراء «استصحاب عدم الابتلاء»؛ لأنّ القاعدة العمليّة «الأصلُ دليلٌ حيث لا دليل» تجري في فرض فقدان الدليل، و المفروض في هذه المسألة أنّه قد ورد دليلٌ خاصّ.

الإشكال الثالث: سيرة العقلاء و قاعدة دفع الضرر المحتمل

من وجهة نظر العقلاء، «دفع الضرر المحتمل واجب». فالإنسان العاقل عندما يحتمل ضرراً هامّاً، يحكم عقله بضرورة اتخاذ إجراء للوقاية. بالتالي، في حالة احتمال الابتلاء بالتكليف، يحكم العقل و سيرة العقلاء بوجوب تعلّم أحكامه حتّى لا يقع في العقوبة. و عليه، بالنظر إلى الأدلّة الثلاثة المذكورة (المقدّمات المفوتة، إطلاق الرواية، و سيرة العقلاء)، لا يمكن قبول كلام الشهيد الصدر في رأینا.

الأمر السابع: في خروج تحصیل المعرفة بالموضوعات الشرعیّة عن محل النزاع

و هنا يطرح سؤال: هل وجوب التعلّم وجوبٌ نفسي أم وجوبٌ طريقي؟

الوجوب النفسي يعني أنّ تركه يستوجب العقاب بذاته. و الوجوب الطريقي يعني أنّ العقاب يترتّب على ترك ذي المقدّمة، لا على المقدّمة و التعلّم؛ لأنّه وسيلة لإنجاز الواجب، فهو لا يستوجب عقاباً مستقلاً.

في رأینا، وجوب التعلّم هو من نوع الوجوب الطريقي؛ لدلیلین:

الدلیل الأوّل

ذلك لأنّ الترتيب في الرواية جاء هكذا: يُسأل أولاً: لماذا لم تعمل؟ و عندما يجيب: «كنتُ جاهلاً»، يقال له: «لماذا لم تتعلّم؟» هذا التقديم في السؤال يدلّ على أنّ العقاب الأصلي يترتّب على ترك العمل، و يُحسب عدم التعلّم سبباً له. و عليه، فإنّ الجاهل الذي ترك واجباً لا يعاقب عقابين (أحدهما على الجهل و الآخر على الترك)، بل يعاقب عقاباً واحداً؛ لأن وجوب التعلّم هو طريق للواجب و ليس هدفاً مستقلاً.

الدلیل الثاني: العقل

من وجهة نظر الفقهاء، الاحتياط في الشريعة جائز؛ و بالتالي، إذا قام المكلف بالاحتياط في موضع جهله بالتكليف، فقام بأداء كلا الطرفين فإنّ عمله صحيح و يُعتبر معذوراً. و نتيجة لذلك، لا يجب التعلّم في المواضع التي يكون فيها الاحتياط ممكناً. و لكن في الحالات التي لا يمكن فيها الاحتياط (مثل صلاة الآيات في بعض صورها)، يصبح وجوب التعلّم مؤكداً و قطعياً.

أمّا بالنسبة إلی قاعدة «قُبح العقاب بلا بيان»، فهي تجري فقط في الحالة التي يكون فيها المكلف قد بحث عن البيان ولم يجده. أما إذا لم يبحث أصلاً عن البيان، فإنّ العقل لا يرى سريان هذه القاعدة. و عليه، فالعقل يحكم أيضاً بضرورة البحث و التعلّم حتى إذا لم يجد بياناً، ففي تلك الحالة يمكن أن تجري القاعدة المذكورة.

 


logo