47/04/25
بسم الله الرحمن الرحیم
وجوب تعلّم الأحکام الشرعیّة/ مقدّمة الواجب/مباحث الألفاظ
الموضوع: مباحث الألفاظ/ مقدّمة الواجب/ وجوب تعلّم الأحکام الشرعیّة
خلاصة الجلسة الماضية: دار النقاش في الجلسة السابقة حول إمكانية فصل الإيجاب و الوجوب (الإنشاء والمنشأ) أم لا؟ قلنا إنّ الحكم الشرعي له مرحلتان: إنشائيّة و فعليّة. في مثال الحج، يوجد الوجوب الإنـشائي من وقت الاستطاعة، و يتحقّق الوجوب الفعلي في شهر ذي الحجة. الحكم فعلي لمن استوفى الشرط؛ و إنشائي لمن فقده. يجب التفريق بين المقدّمات الوجوبية و الوجودية؛ الأولى ليست واجبةً و الثانية واجبة. القاعدة هي: «المقدّمة في الإطلاق و الاشتراط تابعة لذى المقدّمة.» و وفقاً لرأي الشيخ الأنصاري، إذا كان ترك المقدّمات يؤدّي إلى فوات الواجب، فيجب تحصيلها قبل الوقت.
الأمر السادس
في سياق استكمال مباحث أصول الفقه، و تحديداً في مسألة «مقدّمة الواجب» نجد مسألةً محوريّةً و هي مسألة «وجوب التعلُّم».
لدينا في باب التكليف شروط، منها البلوغ و منها العقل. هنا يُطرح السؤال: هل العلم بالحكم الشرعي هو شرطٌ آخر لتحقق التكليف؟ بعبارة أخرى، هل يجب على المُكلَّف أن يعلم ما هو واجب أو حرام حتى يشمله التكليف؟
بعبارة أخرى، السؤال هو:
هل تعلُّم الأحكام الشرعية واجبٌ أم لا؟
إذا قلنا إنّ العلم بالمسألة شرط للتكليف، فإنّ نتيجته أنّ الصلاة مثلاً لا تجب على من لا يعرفها؛ بینما أنّ الواقع لیس کذلك، بل الصلاة واجبة على كل مُكلَّف، عالماً كان بالحكم أم جاهلاً به. لذلك، يجب عليه أن يسعى لتحصيل مقدّمتها، أي التعلُّم. و عندما يتعلَّم، حينئذٍ يجب عليه أداء الصلاة. فإذا وجبت الصلاة، وجبت مقدّمتها، و هي التعلُّم. و عليه، يصبح التعلُّم واجباً لكونه مقدّمةً لأداء الواجب.
الأقوال في وجوب التعلّم
یُطرح الآن هذا السؤال: هل تعلُّم جميع الأحكام واجبٌ؟ هل يجب على المكلَّف أن يعرف الرسالة العمليّة بأكملها من البداية إلى النهاية؟
في هذه المسألة طرحت عدّة آراء و أقوال:
القول الأول: وجوب المعرفة مطلقاً (في الواجب المطلق و الواجب المشروط)[1] [2]
يجب على الإنسان أن يتعلَّم جميع الأحكام الشرعيّة، سواء كانت تلك الأحكام متعلِّقةً بالواجب المطلق كالصلاة، أو متعلِّقةً بالواجب المشروط كالحج. حتّى لو لم يكن مستطيعاً بعد و لم يجب عليه الحج، فيجب عليه تعلُّم مسائل الحج. و يُطلق على هذا الرأي: «المعرفة مُطلقاً واجبةٌ».
قال المحقّق الخراساني (رحمة الله علیه): «و أمّا المعرفة، فلا يبعد القول بوجوبها، حتّى في الواجب المشروط بالمعنى المختار قبل حصول شرطه، لكنّه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرّد قيام احتمالها، إلّا مع الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقلّ بعده بالبراءة، و أنّ العقوبة على المخالفة بلا حجّة و بيان و المؤاخذة عليها بلا برهان». [3]
أي التعلّم واجب حتّى في الواجب المشروط و لا يمكن إجراء البراءة. علی سبیل المثال: في الحجّ مع أنّه ليس له وجوب فعلي قبل تحقُّق الاستطاعة، إلّا أنّ تعلُّم أحكامه واجب.
دلیل القول الأوّل:
يقول صاحب الكفاية إن هذا من باب «استقلال العقل بتنجّز الأحكام» أي إنّ الأحكام الشرعيّة مُنجَّزة بالنسبة إلينا، و العقل يحكم بوجوب تعلُّم الإنسان لها حتّى يتمكّن من العمل بالتكليف. و بحسب تعبيره، فإنّ وجوب التعلُّم ليس من باب وجوب المقدّمة لواجب خاص، بل هو من حيث إننا مُكلَّفون بمعرفة كلّ الشريعة.
نقد كلام الآخوند (صاحب الكفاية):
في رأینا، كلام المرحوم الآخوند صحيح فيما يتعلّق بالواجب المنجَّز، و لكنّه غير تام فيما يتعلّق بالواجب غير المنجَّز، و ذلك للأسباب التالية:
أولاً: قبل أن يبتلي الإنسان بمسألة ما، لا يوجد دليل عقليّ أو شرعيّ على وجوب تعلُّمها. فمثلاً، الشخص الفقير الذي ليس لديه أيّ إمكانيّة للحج، فما هو الدليل على وجوب تعلُّمه لأحكام الطواف و السعي؟ هذا التعلُّم ليس له فائدة عمليّة و لا وجوب عليه.
ثانياً: في الحالات التي يكون فيها الاحتياط ممكناً، فإنّ الإنسان يقوم بالاحتياط، و بالتالي لا حاجة إلى التعلُّم مجدداً؛ لأنّ الإنسان إمّا أن يكون مُجتهداً فيستنبط الحكم بنفسه، أو يكون مُقلِّداً فيعمل بفتوى مُجتهده، أو يكون مُحتَاطاً فيخرج عن التكليف بالاحتياط. بناءً على ذلك، لا يوجد دليل على وجوب التعلُّم المطلق.
القول الثاني: التفصیل[4]
قال المحقّق الناییني (رحمةاللهعلیه): «لا إشكال في لزوم التّعلم إذا كانت المسألة ممّا تعمّ بها البلوى، كمسائل السّهو و الشّك، و التّيمم و غير ذلك، من غير فرق بين ان يعلم بالابتلاء أو لا يعلم. و امّا لو لم تكن المسألة ممّا تعمّ بها البلوى، فظاهر الفتاوى عدم وجوب التّعلم مع عدم العلم أو الاطمئنان بعدم الابتلاء.» [5] ؛ أي: إنّ التعلُّم واجب في المسائل العامّة البلوى؛ أي يجب على الإنسان أن يتعلَّم المسائل التي يبتلي بها عموم الناس. بعبارة أخرى، یجب تعلّم المسائل التي يتعامل معها غالبية أفراد المجتمع مثل مسائل الصلاة، الطهارة، الصوم و ما شابهها حتّى لو لم يكن الشخص متيقّناً بأنّه سيُبتلى بتلك المسألة في المستقبل أم لا.
دلیل القول الثاني:
و يُبيِّن المرحوم النائيني دليله أيضاً بأنّ الأصل العقلائي و العمليّ يقتضي أنّه لما كان احتمال الابتلاء موجوداً في هذه المسائل، يحكم العقل بوجوب الاستعداد المسبق و تعلّم الأحكام امتثالاً للتكليف. فإذا كانت مسألة ما محلّ ابتلاء للمجتمع و مبتلى بها الناس، فيجب عليك تعلُّم تلك المسائل. و يحكم العقل بضرورة معرفة الأحكام ذات الصلة في مثل هذه الحالات؛ لأنّ نفس الدليل الذي يوجب علینا أن نتّبع الشریعة و نختارها کما أمرنا بالإيمان بالدين الإسلامي و النبوّة استناداً إلى معجزة النبي مثلاً، يقتضي بعد ذلك تعلُّم أحكام تلك الشريعة أيضاً.
القول الثالث: وجوب التعلّم مع العلم أو الاطمئنان بالابتلاء[6]
بناءً على هذا الرأي، ليس من اللازم أن يتعلَّم الإنسان جميع الأحكام، و لا حتى المسائل التي يبتلى بها الناس؛ بل يجب عليه أن يتعلَّم فقط المسائل التي يبتلى بها هو نفسه. فمثلاً، إذا كان شخص ما فقيراً و لا يملك الاستطاعة المالية، فلا يجب عليه تعلُّم مسائل الحج، لأنه أصلاً ليس مورداً للابتلاء بالنسبة له.
إضافةً إلى ذلك، يجب الانتباه إلى أنّ هذا الوجوب يكون في المواضع التي لا يمكن فيها الاحتياط. فإذا استطاع المكلَّف أن يحتاط في المسائل، فلا داعي له للذهاب بحثاً عن التعلُّم لكلّ مسألة. فمثلاً، إذا لم يعلم هل الغسل مرّتين لازم في التطهير بالماء أو تكفي مرةً واحدةً، يمكنه أن يغسل ثلاث مرّاتٍ احتياطاً ليطمئن. و في مثل هذا الموضع، ينتفي وجوب التعلُّم. إذن، یسقط وجوب التعلُّم في الحالات التي يكون فيها الاحتياط ممكناً.
يقول المحقق البجنوردي :«إنه لا شك في وجوب التعلّم مع العلم أو الاطمئنان بالابتلاء كما أنه لا شكّ في عدم الوجوب مع العلم أو الاطمئنان بعدم الابتلاء، و انّما الكلام في مورد الاحتمال احتمالاً عقلائياً مع عدم العلم أو الاطمئنان بأحد الطرفين فهل يجب مطلقاً أو لا يجب كذلك أو يفصل بين أن يكون المحتمل من الأمور العامة البلوى فيجب أو لا فلا.» [7]
القول الرابع: عدم وجوب التعلّم
قال السیّد الشاهرودي (رحمة الله علیه): «إنّ وجوب التعلم مما لا يمكن الالتزام به و علی تقديره لا وجه للفرق بین المسائل العامة البلوى و بین غیرها في وجوب الأولی دون الثانیة؛ فإن مجرّد الابتلاء لا يكون دلیلاً علی الوجوب. و لا يمكن جعل مستند القائلین بوجوب التعلم نفسیاً_ بحیث يترتب علی تركه العقاب و إن لم يفت به الواجب_ كثرة الابتلاء و نحوها من الأمور الاعتبارية و الوجوه الاستحسانیة؛ لأنهم أجل شأناً و أرفع مقاماً من استناد هذا إلیهم.»[8]