« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/20

بسم الله الرحمن الرحیم

هل الإیجاب و الوجوب (الإنشاء و المـُنشأ) قابلان للتفکیك أم لا؟/الأوامر /مباحث الألفاظ

 

الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر /هل الإیجاب و الوجوب (الإنشاء و المـُنشأ) قابلان للتفکیك أم لا؟

 

خلاصةُ الجلسةِ السابقة: كان البحثُ في الجلسةِ الماضية يدورُ حولَ مسألةٍ و هي: هل القيدُ في الأوامرِ راجعٌ إلى المادّةِ أم إلى الهيئة؟ و بعبارةٍ أخرى، هل القيودُ قيودٌ للوجوبِ أم قيودٌ للواجب؟ كما قيل إنّ الوجوبَ على نوعين: وجوبٌ إنشائيّ و وجوبٌ فعليّ.

قلنا في المباحثِ السابقةِ إنّ المحقّق الخراسانيّ (رحمه‌الله) قسّمَ الحكمَ إلى مرحلتين:

١. مرحلةُ الإنشاء

٢. مرحلةُ الفعليّة

ثمّ إنّ الحكمَ بحسب بیانه (رحمه‌الله) قد يكونُ في مرحلةِ الإنشاءِ و الجعلِ فقط، و قد يصلُ أحيانًا إلى مرحلةِ الفعليّة. و لتوضيحِ ذلك ذُكرَ مثالُ الحجّ.

تَصوّرْ أنّ شخصاً قد أصبحَ مستطيعاً، و لكنّ شهرَ ذي الحِجّةِ لم يأتِ بعد، و سیأتي موسم الحجّ بعد عدّة شهور. في هذهِ الحالة یجب علی هذا الشخص أن يُهيّئ تدريجيّاً مقدّماتِ السفرِ إلى الحجّ، كالاستعدادِ بشراءِ التذاكرِ و الزادِ و الراحلةِ و سائرِ الأمورِ اللازمة. و هنا يُطرحُ السؤال: هل الحكمُ بالحجّ في هذه المرحلةِ فعليٌّ أم إنشائيّ؟

قال المحقّق الخراساني (رحمه‌الله): إنّ الحكمَ في هذه المرحلة إنشائيٌّ لا فعليّ؛ لأنّ الوجوبَ الفعليَّ للحجّ يتحقّقُ عندما يدخلُ شهرُ ذي الحِجّةِ و يُحرمُ الشخصُ و يشرعُ في أعمالِ الحجّ، و أمّا قبلَ ذلك فالحكمُ يبقى في مرحلةِ الإنشاء، و إن كان المكلّفُ مأموراً بإعدادِ المقدّمات.

تَذْنِيبٌ

إذا كانَ الوجوبُ إنشائياً، فَمَا فائدتُه؟ ما فائدةُ الوجوبِ المشروط؟ ما فائدة إنشاء الوجوب المشروط؟ و ما فائدةُ الإنشاءِ إذا لم يكن المنشأُ به طلباً فعليّاً و بعثاً حاليّاً؟

قد يُقال: ما ثمرةُ هذا التقسيم؟ و لماذا ينبغي التفريقُ بين الوجوبِ الإنشائيّ و الوجوبِ الفعليّ؟

إجابة المحقّق الخراساني:

ذکر المحقّق الخراسانيّ ذكرَ لهذهِ التفرقة:

ألف: كفايةُ الخطابِ الواحد

«إنّه يصير بعثاً فعلّياً بعد حصول الشرط ، بلا حاجة إلى خطاب آخر ، بحيث لولاه لما كان فعلاً متمكناً من الخطاب.»[1] أوّلُ ثمرةٍ هي أنّ الشارعَ المقدّسَ يُفيدُ بالخطابِ الواحدِ كلا الوجوبَ الإنشائيَّ والوجوبَ الفعليَّ معاً؛ کقوله- تعالی: :﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[2] هذا الخطاب الواحد ناظرٌ إلى مرحلتي الإنشاء (منذُ حصولِ الاستطاعة) والفعليّة (في شهرِ ذي الحجّة)، فلا حاجةَ إلى خطابين منفصلين؛ وعليه، يُجعَلُ الحكمُ الإنـشائيُّ من زمانِ الاستطاعة، و تكونُ فعليّتُهُ عند موسمِ الحجّ.

ب. التباين بين فاقد الشرط و واجده:

الثمرة الثانية هي أنّ الحكم يكون فعلياً للواجد للشرط و يكون إنشائياً للفاقد له. «للواجد فعلي و للفاقد انشائي».

بتعبير المحقّق الخراساني (رحمه‌الله): «شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثاً فعلياً بالإضافة إليه، و تقديرياً بالنسبة إلى الفاقد له»[3] . أي إنَّ الشخص إذا كان في شهر ذي الحجة و هو مستطيع، فالحكم بالنسبة إليه فعلي. أما مَن استطاع و لكنّه لا يملك إمكانيّة السفر الآن، فما زال الحكم بالنسبة إليه في مرحلة الإنشاء.

بعبارة أخرى، الحكم الواحد الصادر من الشارع له آثار متباينة بالنسبة للأفراد المختلفين: فِعليّ لبعضهم و إنشائي لآخرين. و عليه، فإنَّ الحكم الإنـشائي يوجب لزوم تهيئة المقدمات. و كما لو لم يكن هناك وجوب إنشائي، لَتَوَقّف المكلّف حتى شهر ذي الحجة عن تهيئة المقدمات، و بالتالي يفوت الحج. و لكن بما أنّ الوجوب الإنـشائي قد جُعل منذ زمان الاستطاعة، يُكلَّف المكلّف بتهيئة المقدمات.

ولهذا، إن لم يكن الحكم إنشائياً، يقول الشخص: «سأذهب لتهيئة مقدمات الحج في شهر ذي الحجة؛ إن تيسّرت ذهبت، و إن لم تتيسّر لم أذهب». و في هذه الحالة لن ينجح أبداً في الذهاب إلى الحج، لأنه من المقدمات المـُفوِّتة. و لهذا، نحن لا نقبل قولكم: «ما فائدة هذا الحكم الإنـشائي؟»، لأنَّ الحكم الإنـشائي الذي أشار إليه المحقّق الخراساني (رحمه‌الله) له ثمرات.

الأمر الرابع: في دخول مقدّمات الوجودیة للواجب المشروط في محل النزاع و عدمه

تفكيك المقدمات: وجوبيّة و وجوديّة

من المناسب هنا توضيح الفرق بين المقدمات الوجوبية و المقدمات الوجودية.

    1. المقدمات الوجوبية: هي التي يكون تحققها شرطاً لوجوب ذي المقدّمة. مثل الاستطاعة للحج، أو دخول الوقت للصلاة. أي أنه ما لم تتحقق الاستطاعة، لا يصبح وجوب الحج فعلياً.

    2. المقدمات الوجودية: هي التي يكون تحققها شرطاً لوجود ذي المقدّمة، وليست شرطاً لوجوبه. مثل الزاد و الراحلة للحج، أو الوضوء والغسل للصلاة. هذه المقدمات تصبح لازمة التحصيل بعد تحقّق الوجوب.

محلّ النقاش في مسألة «مقدّمة الواجب»

 

السؤال هو: هل مقدّمة الواجب واجبة؟

الجواب: أنّ محل البحث هنا يدور حول المقدّمات الوجودية، لا المقدّمات الوجوبيّة.

التعليل:

     الاستطاعة (المقدمة الوجوبية): هي تتحقق من تلقاء نفسها و تحصيلها ليس واجباً بحدّ ذاته.

     أما الزاد والراحلة (المقدمة الوجودية): فتحصيلها واجب بعد وجوب الحج.

النتيجة: المقدمة الوجوبية ليست واجبةً، و لكن المقدّمة الوجوديّة واجبة.

السؤال الثاني: هل المقدمات الوجودية واجبة في الواجب المطلق أم في الواجب المشروط؟

أي، هل المقدمات الوجودية واجبة في الواجب المطلق (كالصلاة) أم في الواجب المشروط (كالحج)؟

في الواجب المشروط، وجوب المقدمات يكون بعد تحقق الشرط. فمثلاً في الحج، متى يجب الزاد و الراحلة؟ بعد الاستطاعة. وعليه، فبمجرد أن يتحقق الوجوب بعد الاستطاعة، تجب الزاد والراحلة أيضاً. بعبارة أخرى، من اللحظة التي وجب فيها ذو المقدّمة، وجبت المقدّمة. و طالما لم تتحقّق الاستطاعة، فلا يجب تحصيل الزاد والراحلة. فالنفس الأساس حاكم في الواجب المشروط أيضاً.

تبعية المقدّمة لذي المقدّمة

وردت قاعدة على ألسنة العلماء و هي:

«المقدّمة في الإطلاق و الاشتراط تابعة لذي المقدّمة»؛ أي إنّ وجوب المقدّمة تابعٌ لوجوب ذي المقدّمة، من حيث الإطلاق أو الاشتراط.

بناءً على ذلك:

     في الواجب المشروط (كالحج)، يأتي وجوب المقدّمات الوجودية بعد حصول الشرط (الاستطاعة).

     في الواجب المطلق (كالصلاة)، يجب وجوب المقدّمات بعد دخول الوقت.

على سبيل المثال، الوضوء للصلاة هو من المقدّمات الوجودية، و يجب بعد دخول الوقت. بالتالي، سواء في الواجب المطلق أو المشروط، فإن وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذي المقدّمة. أي متى وجب ذو المقدّمة، وجبت المقدّمة.

و هكذا، فإن مسألة تعلُّم الأحكام تتبع هذه القاعدة. مثلاً، متى يجب تعلُّم أحكام الصلاة؟

إذا كان بإمكانك تعلُّمها بعد الأذان، فتعلَّمها في ذلك الوقت؛ ولكن إذا علمت أنك لن تجد فرصةً للتعلُّم بعد الأذان، فيجب أن تتعلَّمها قبله؛ لأنّ هذا يُعدّ من موارد المقدّمات المـُفوّتة؛ أي إذا أرجأت التعلُّم إلى ما بعد، فقد تفوتك الصلاة.

القول الأوّل: المقدّمات الوجودیّة للواجب المشروط داخلة في محل النزاع

یطرح هنا سؤال: حول ما إذا كانت المقدّمات الوجودية هي التي تدخل في محل النزاع، أم المقدّمات الوجوبية؟

لقد ذكرنا أن المقدّمات الوجوبية لا تكون محطّ بحث أصلاً؛ بل إنّ ما هو مورد النقاش هو: هل مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟ و هذا يكون في المقدّمات الوجودية.

أما السؤال الثاني فهو: هل هذا البحث يجري في الواجب المطلق أم في الواجب المشروط؟

الجواب هو أنّه يجري في كليهما، الواجب المطلق و الواجب المشروط. و السبب هو أنّه في الواجب المشروط أيضاً، كما أفاد المحقّق الخراساني (رحمه‌الله) يوجد وجوب إنشائي، و هذا الوجوب الإنشائي، بعد تحقُّق الشرط (مثل الاستطاعة في الحج)، يوجب وجوب مقدّماته.

إذن، بالنتيجة، وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذي المقدّمة، حتى لو كان وجوب ذي المقدّمة من النوع الإنشائي.

والآن، بناءً على هذا الأساس، إذا وصلنا إلى مسألة الوضوء قبل وقت الصلاة، فيجب أن ننظر: هل الوضوء قبل الوقت له وجوب إنشائي، أم أن وجوبه الفعلي يتحقق بعد دخول الوقت؟

وفي هذا الصدد، يقول الشيخ الأنصاري (رحمه‌الله) ما حاصله: «إذا علم شخص أنه لن يتمكن من الوصول إلى الماء بعد وقت الصلاة، فيجب عليه تحصيل الماء قبل الوقت. وذلك لأنه من المقدّمات المـُفوّتة التي يؤدّي تركها إلى فوات الصلاة مع الوضوء. و رغم عدم وجود دليل خاص على هذا الوجوب، إلّا أنّ هذا الوجوب قابل للالتزام بناءً على القاعدة».


logo