« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/11

بسم الله الرحمن الرحیم

رجوع القیود إلی الهیئة أو المادّة/الأوامر /مباحث الألفاظ

 

الموضوع: مباحث الألفاظ/الأوامر /رجوع القیود إلی الهیئة أو المادّة

ملخّص الجلسة السابقة: قد طُرحت في الجلسة السابقة مسألةُ تعلّقِ القيود بالمادة أو بالهيئة. و المحور الأساسي هو: أنّه هل القيود و الشروط في الشريعة تعود إلى المادّة (مطلق العمل) أم إلى الهيئة (الخصوصيات و وقت إنفاذ العمل)؟ يرى الشيخ الأنصاري (أعلى الله مقامه الشريف) أنّ: «في موارد الشك، يرجع القيد إلى المادّة و يبقى الوجوب مطلقاً. أي إنّ القيود تؤثّر على المادة (الواجب) أكثر من تأثيرها على الهيئة، و يجب مراعاة مقدّمات الواجب بشكل مطلق». بينما يرى المحقّق الخراسانيّ و المحقق الخوئي أنّ: «القيد يرجع إلى الهيئة، و الوجوب مقيَّد. مثال: صلاة الظهر، و الوضوء و الغسل، سواء وُجِد الماء أم لا، فالوجوب تابع للزمان و شروط التحقّق».

القول بالتفصيل:

قد مال الإمام الخمیني (أعلى الله مقامه الشريف) أيضاً إلى هذا الرأي و اعتقد أنّ القيود المشكوكة تُرجع إلى الهيئة. قال: :«نعم، إن لم يمكن إرجاع القيد إلى الهيئة في مقام الإثبات لبعض الشبهات- مثل كون معنى الهيئة حرفياً و قلنا بأنّه غير قابل للتقييد- فلا بدّ و أن ترجع إلى الهيئة لبّاً و في متن الواقع.»[1]

ثمّ قال الإمام الخميني (قدس سره) لاحقاً: إذا أُرجع القيد إلى الهيئة، قد يُعتَرَض على ذلك من جهات. وجه الاعتراض هو ما سبق بحثه من أنّ الهيئة جزءية و المادة كلية. و توضيح ذلك: عندما نقول «اضْرِبْ»، فإنّه خطاب لشخص معيّن، و من هذا الاعتبار يُعتبر جزئياً. و لكن القيود غالباً ما تتعلّق بأمر كلي. فمثلاً في تعبير «اضربْ رجلاً مسلماً»، فإنّ قيد «مسلماً» هو قيد لـ «رجل»؛ لأنّ «رجلاً» كان يشمل جميع الرجال بشكل مطلق، و قيد «مسلم» حدّد دائرته. و عليه، فإنّ القيد عادةً ما يتعلّق بالأمر الكلي.

و الآن، فإنّ مادّة «ضَرَب» التي هي أصل الفعل، هي من الأمور الكلية و تشمل جميع حالات الضرب. أمّا هيئة «اضْرِبْ» فباعتبار أنّ خطابها شخصيّ و معيّن، فهي جزئية. لذا، بمقتضى القاعدة، يجب أن تعود القيود إلى المادّة لا إلى الهيئة. و هذا هو قول الشيخ الأنصاري (رحمه‌الله).

و لكنّ الإمام الخمیني (رحمه‌الله) ذاهب إلی أنّه یمکن في اللبّ و في متن الواقع، أن يرجع القيد إلى الهيئة. ولهذا كانت جملته هكذا: «إن لم یمکن إرجاع القید إلی الهیئة فی مقام الإثبات لبعض الشبهات مثل كون معنى الهيئة حرفياً و قلنا بأنّه غير قابل للتقييد.

مراده هو أنّه بالرغم من وجود إشكال في إرجاع القيد إلى الهيئة في مقام الإثبات و الظاهر، لأنّ الهيئة لها معنى حرفي و جزئي و يُقال إنّ المعنى الحرفي غير قابل للتقييد، إلّا أنّ هذا الإشكال ناظر إلى الظاهر. ثم يضيف: «فلابد أن ترجع إلی الهیئة لُبّاً و فی متن الواقع» أي في الواقع و لبّ الأمر، تعود القيود إلى الهيئة، و إن لم يكن كذلك في الظاهر. و عليه، فالقيد لبّاً هو قيد الهيئة.

النتيجة هي أنّ الإمام الخمیني (رحمه‌الله) يؤيّد و يقوّي كلام المحقّقَین الخراساني و الخوئي (رحمهما‌الله) القائلَين بأنّ القيود ناظرة إلى الهيئة. و التوضيح الجلي لهذا الكلام هو أنّنا عندما نقول «صَلِّ قبل الزوال» أو «صَلِّ بعد الزوال»، فالمقصود هو أنّه قبل الوقت، لا يوجد وجوب أصلاً، و بعد الساعة الثانية عشرة يجيء الوجوب. و من البديهي أنّ مقدّمات الواجب أيضاً يصبح لها معنى بعد الساعة الثانية عشرة. قبل الساعة الثانية عشرة لا يوجد وجوب فعلي لصلاة الظهر؛ و بعد الساعة الثانية عشرة يتحقّق الوجوب و تجب المقدمات أيضاً.

     و عليه، فموقف الإمام الخمیني (رحمةالله‌علیه) هو تأييد رأي المحقّقَین الخراساني و الخوئي (رحمهماالله) و یُوصی أن نُرجع القيود المشكوكة إلى الهيئة.

تقسيم المقدمات إلى مُفَوِّتة و غير المفَوِّتة

يقول آية الله المكارم (سلّمه الله تعالى): من الواضح أنّ الثمرة في هذا النزاع تظهر في تحصيل المقدّمات المفوّتة كتهيئة الزاد والراحلة وأخذ الجوازات بالنسبة إلى الحجّ، فبناءً على مذاق المشهور لا دليل على وجوبها لعدم وجوب ذي المقدّمة على الفرض، وأمّا على المبنى المنسوب إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله فتحصيلها واجب قبل مجي‌ء زمان الواجب، فيجب مثلًا حفظ الماء قبل مجي‌ء وقت الصّلاة إذا كان تحصيل الطهارة بعد مجي‌ء وقت الصّلاة متوقّفاً عليه، وكذلك تحصيل مقدّمات السفر إلى الحجّ بعد حصول الاستطاعة وقبل الموسم.

نعم ربّما يجب تحصيل المقدّمات حتّى على مبنى المشهور، وهو ما إذا علمنا بفوت غرض المولى في صورة عدم تحصيل المقدّمات، فإنّ العقل يحكم حينئذ بحفظ غرض المولى لمكان حقّ الطاعة والمولويّة، كما إذا علم العبد بأنّه لو لم يحفظ الماء الآن يبقى المولى عطشاناً في المستقبل، فلا إشكال في أنّه لو لم يحفظ الماء وصار المولى عطشاناً صار مستحقّاً للملامة والمؤاخذة، وفي الشرعيات نظير ما إذا علمنا ببعض القرائن مثلًا بإهتمام الشارع بالصّلاة مع الطهارة المائيّة وأنّ غرضه منها لا يحصل بغيرها، فيحكم العقل بحفظ الماء ولو قبل مجي‌ء زمان وجوب الصّلاة[2]

یقسّم آیةالله المکارم (حفظه‌الله) المقدّمات بقسمین:

المقدمات المفَوِّتة:

و هي المقدمات التي إذا لم تُؤَدَّ، يفوت الواجب و لا يمكن تحقّقه بعد ذلك.

مثال: مقدّمات الحج، مثل:

         التسجیل و التخطیط

         الحصول علی التأشیرات و تذاکر الطیران

         تجهیز الزاد و الراحلة

إذا لم تُؤَدَّ هذه المقدمات، لا يمكن تحقق الحج.

في رأينا، في المقدمات المفوتة، رأي الشيخ الأنصاري صحيح؛ أي إنّ الوجوب المطلق للمقدمات ضروري قبل زمان الوجوب الأصلي.

المقدمات غير المُفَوِّتة:

     و هي المقدمات التي إذا لم تُؤَدَّ، لا يزول الواجب و له بديل.

     مثال: الوضوء للصلاة؛ إذا لم يكن هناك ماء، فالتيمم بديل.

     أي إنّها مقدمة للصلاة، و لكنها ليست مفوّتةً؛ لذا يمكن أداء الواجب بدونها.

ثمرة هذا البحث:

في استدامة بحث التقييد، طُرح هذا السؤال: إذا قلنا إنّ التقييد يعود للهيئة أو للمادة، فأين تظهر الثمرة العملية لذلك؟

تظهر الثمرة في الموضع الذي لم يأتِ فيه وقت الوجوب بعد؛ كقبل شهر ذي الحجة في الحج، أو قبل أذان الظهر في الصلاة. في هذه الحالات يُسأل: هل يجب على المكلف تهيئة المقدمات الواجبة مسبقاً أم لا؟

إذا قلنا إن القيد يعود للمادة، فيجب تهيئة المقدمات قبل دخول الوقت؛ و هذا هو رأي المرحوم الشيخ الأنصاري.

أما إذا قلنا إن القيد يعود للهيئة، فإنه لا يوجد تكليف على المكلّف قبل الوقت، و لا يجب عليه تجهيز المقدمات. فمثلاً، إذا كان لديه ماء للصلاة و لا يعلم هل الماء سينقطع بعد الأذان أم لا؟ فبناءً على هذا المذهب (قيد الهيئة)، لا يجب عليه حفظ الماء قبل الأذان. فبعد الأذان، إن وُجد الماء توضأ، و إن لم يوجد، تيمّم و أتی بالصلاة.

و هذا بالضبط هو نفس ما قاله المحقق الخوئي (رحمه‌الله): «الوجوب يأتي من الساعة الثانية عشرة، و المقدمات تجب أيضاً من ذلك الحين؛ وقبل ذلك لا يوجد أيّ إلزام».

و هنا يقول سماحة آية الله العظمى المكارم (دام ظله):

    1. في المقدّمات المفوتة، رأي الشيخ الأنصاري صحيح؛ لأنّ العقل و الشرع يقتضيان تحصيل هذه المقدمات قبل الوقت. فمثلاً، من يريد الحج، إذا لم يقم بالتسجيل و الحصول على التذكرة و الجواز قبل شهر ذي الحجة، فلن يتمكن من أداء الحجّ في وقته. وعليه، يجب عليه توفير المقدمات قبل الوقت.

    2. في المقدمات غير المفوتة، رأي المحقّق الخراساني صحيح، و يمكن تحصيل المقدّمات و إتمامها بعد تحقّق الوجوب. كتحصيل الماء للوضوء، إذا لم يُحَصَّل قبل الأذان، فبعد الأذان إن وُجد الماء توضّأ، و إن لم يوجد أتى ببديله (التيمّم).

مثال عملي:

إذا حصل شخص على مال (مثلاً مليار) في شهر غير ذي الحجة، فهل يمكنه الشروع فوراً في الحج؟

الجواب: لا يمكنه، لأن الحج غير واجب في ذلك الوقت. الوجوب المطلق يتحقق فقط بعد حلول وقت الحج الفعلي (شهر ذي الحجة). فإذا أنفق الشخص المال في أمور أخرى، تزول استطاعته للحج، و لكن هذا لا يؤثّر على وجوب الحج قبل وقته.

وفي رأينا، هذا الدليل يؤكّد الوجوب المطلق في المقدمات المفوتة و مراعاة وقت الوجوب الأصلي.


logo