« قائمة الدروس
الحدیث الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الزهد/صفات المؤمن /شرح حدیث جنود العقل و الجهل

 

الموضوع: شرح حدیث جنود العقل و الجهل/صفات المؤمن /الزهد

 

الزهد من منظور الإمام الخميني (قدّس سرّه):

مقدمة

يُعدُّ موضوع الزهد أحد المباحث الأخلاقية الهامّة في آثار الإمام الخميني (رحمة‌الله‌عليه). لقد تناول سماحته في كتابه الشريف «أربعون حدیثاً» كلاماً عميقاً حول الزهد و معناه الحقيقي. يقع الكثير من الناس، بل و بعض أهل العلم، في خطأ فهم المعنى الصحيح للزهد. فهم يظنون أن الزاهد هو الشخص الذي اعتزل الدنيا، و اعتكف في زاوية منعزلاً، و لا يخالط أحداً، و لا يفعل شيئاً سوى الذكر، و لا يهتمّ بأمور المجتمع. و الإمام الخميني (أعلى الله مقامه الشريف) يعتبر هذا الفهم خاطئاً.

المعنى الحقيقي للزهد:

الزهد هو عدم الرغبة في الدنيا، أي عدم التعلّق بالدنيا و عدم الاستعباد لها. الزهد ليس الزهد ترك الدنيا و نعمها؛ بل هو عدم الإخلاد إلی الدنیا. قد يستفيد الإنسان الزاهد ظاهرياً من إمكانيّات الدنيا، و لكنه لا يعلّق قلبه بها، و إذا حُرم منها، لا يفقد سكينته و إيمانه.

بناءً على ذلك، فإنّ عدم الرغبة في الدنيا لا يستلزم تركها. بعبارة أخرى، من الممكن أن يعيش الإنسان بين الناس و يعمل و يكون له عائلة، و يتحمّل المسؤوليات، و لكنه في الوقت نفسه يكون زاهداً؛ لأنّ قلبه ليس رهينةً للدنيا.

الفرق بين الزهد و ترك الدنيا:

يُتصوّر أحياناً أنّ الزهد يعني ترك الدنيا و الانعزال، لكن الإمام يرفض هذا المعنى. فالزاهد الحقيقي ليس هو من اعتزل المجتمع، بل هو الذي يعيش في صميم المجتمع، و يخالط الناس، و يؤدّي واجباته، و لكنه في الوقت نفسه، غير معلّق بالدنيا، و إذا ما سُلِب منه مالٌ أو منصبٌ أو لذّة، لا ينهار.

أقسام عدم الميل و تطبيقه على الزهد:

لتوضيح معنى «عدم الرغبة» في الدنيا، يضرب مثالاً جميلاً:

1. عدم الميل الطبيعي:

قد لا يرغب الإنسان في شيء بشكل طبيعي. فمثلاً، عندما يكون مريضاً، تحضر عائلته طعاماً له، فيقول: «لا أشتهي، لا أستطيع أن آكل». هذا عدم ميل طبيعي و مؤقت.

2. عدم الميل العقلي أو القلبي:

لكن في بعض الأحيان، يكون لدى الإنسان رغبة، و لكنه يمتنع عنها بسبب عقله و إيمانه. فمثلاً، المريض الذي لديه سكر (السكري) يحب البطيخ، و لكنّه لا يأكله لأنّه يعلم أنّه مضرّ به. هذا النوع من عدم الميل ينبع من المعرفة و الإيمان.

الزهد في الدنيا هو من النوع الثاني. قد يمتلك الإنسان المؤمن ميلاً طبيعياً للدنيا، و لكنه يسيطر على نفسه و لا يتعاطف معها لأنّه يعلم أنّ التعلق بالدنيا يحجبه عن الآخرة.

بعبارة أخرى، الزهد يعني: «لا تضيّعوا آخرتكم من أجل الدنيا.»

الارتباط، أصل التعلّق بالدنيا:

قد يكون التعلّق بالدنيا في المال، و قد يكون في المنصب، و قد يكون في الشهوات و المحبات غير السليمة. إذا تعلّق الإنسان بشيء لدرجة أن زواله يُدمّره، فهذا هو الأسْرُ في الدنيا. و لتوضيح هذا المعنى، تُذكر أمثلة:

بعض الأفراد عندما يُسلب منهم منصبهم، يصابون باكتئاب شديد أو حتى يموتون. و شخص كان قاضياً، عندما عُزل من منصبه، قال: «الآن فهمت ما عاناه الملك المخلوع عندما أُزيح عن سلطانه!» هذه الجملة تدلّ على التعلّق بالمنصب.

وبعض الناس، عندما تقلّ أموالهم أو تتقلب الأسعار صعوداً و هبوطاً، يحزنون حتّى كأنهم فقدوا كلّ شيء. و هذا أيضاً شكل من أشكال الأسر في الدنيا.

الزهد يعني أنّ الإنسان إذا فقد شيئاً، فإنّه لا يفقد نفسه. فالزاهد هو مالك للدنيا، و ليس مملوكاً لها.

الزهد في القرآن و الحديث:

لم ترد كلمة «الزهد» في القرآن الكريم بصيغتها المباشرة، و لكن مفهومه مذكور في آيات عديدة. من ضمنها: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾[1] ، أي: كي لا تحزنوا على ما فاتكم من متاع الدنيا، ولا تفرحوا فرحاً بطراً بما أُعطيتم.

هذه الآية تُعبّر بدقة عن روح الزهد: ألّا يُحزن فقدان الدنيا الإنسان، و ألّا يُغرّه امتلاكها.

ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ: قَالَ اللهُ سُبْحانَهُ: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ، وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾[2] أي أنّ الزهد كلّه قد یستخلص في جملتين من القرآن: عدم الحزن على ما فات و عدم الفرح بما هو آتٍ.

النتیجة:

إنّ معنى الزهد وفقاً لتصريحات الإمام الخميني (قدس سره) هو: الزهد ليس تركاً للدنيا، بل هو عدم التعلّق بالدنيا. قد يعيش الزاهد في الدنيا، و لكن لا مكان للدنیا في قلبه.

إن التعلّق بالمال أو المنصب أو الشهوة، يُبعّد الإنسان عن الزهد الحقيقي. و الزهد الحقيقي يعني «عدم الوقوع أسيراً للدنيا» و«الحفاظ على السكينة القلبيّة في تقلّبات الحياة و مساراتها».

الخلاصة لتعريف الإمام الخميني (قدس سره) للزهد: الزهد هو ألّا يكون الإنسان أسيراً للدنيا، و ألّا يعقد قلبه عليها، و ألّا يخسر آخرته من أجلها. إنّ عدم الرغبة في الدنيا لا يستلزم تركها.


logo