« قائمة الدروس
بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الواجب التوصّلي التخییري/التکسّب بالواجبات /المكاسب المحرمة

 

الموضوع: المكاسب المحرمة/التکسّب بالواجبات /الواجب التوصّلي التخییري

 

كان البحث الفقهي حول أخذ الأجرة على الواجبات. في هذا الصدد، هناك تنبيهات أثارها المرحوم الشيخ الأنصاري (أعلى الله مقامه الشريف) و قد طرح فيها مباحث.

أخذ الأجرة على الواجبات التوصّلية التخييرية:

يقول (الشيخ الأنصاري): لا مانع من أخذ الأجرة في الواجب التخييري التوصّلي. قال: «أمّا الواجب التخييري فإن كان توصّلياً فلا أجد مانعاً عن جواز أخذ الأجرة على أحد فرديه بالخصوص بعد فرض كونه مشتملاً على نفع محلّل للمستأجر و المفروض أنّه محترم لا يقهر المكلّف عليه فجاز أخذ الأجرة بإزائه فإذا تعيّن دفن الميّت على شخص و تردّد الأمر بين حفر أحد موضعين فاختار الولي أحدهما بالخصوص لصلابته أو لغرض آخر فاستأجر ذلك لحفر ذلك الموضع بالخصوص لم يمنع من ذلك كون مطلق الحفر واجباً عليه مقدّمةً للدفن‌[1]

إذا كان الواجب تخييرياً و توصيلياً، فلا مانع من أن يختار المكلف (المستأجر) أحد أفراد الواجب التخييري بما يعود بالنفع على الأجير. على سبيل المثال، في الواجب التخييري الذي له فردان، قد يختار أحدهما ليكون في مصلحة الأجير.

و يطرح مثال دفن الميت؛ حيث يقول: بالرغم من أنّ أخذ الأجرة على أصل الدفن حرام، إلا أنه لا إشكال في أخذ الأجرة مقابل مكان خاص له. بمعنى أنهم يحدّدون مكاناً مميزاً و يقولون: «احفر هنا و جهّز القبر» و يُدفع مبلغ مالي مقابل خصوصيّة ذلك المكان تحديداً. و يصرّح الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بأنّ هذا الفعل لا إشكال فيه.

نرى اليوم أن أغلب القائمين على تغسيل الميت و الصلاة عليه و حفر القبر، يطالبون أجراً. و تبرير أخذ الأجرة في هذه الحالات (مثل دفن الميت) هو أنّ الأجرة تُدفع مقابل تحديد المكان الخاص للقبر، و ليس مقابل أصل عملية الدفن نفسها.

و بالرغم من ذلك، يُبدي البعض شبهةً حول أصل الدفن، قائلين: بما أنّ الدفن واجب و أخذ الأجرة على الواجب غير جائز، فلا يجوز أخذ مال على أصل الدفن، و لكن يجوز أخذه مقابل تعيين المكان الخاص.

مرأی السیّد أبوالحسن الإصفهاني (رحمه‌الله):

قال السیّد أبوالحسن الإصفهاني: «لو كان الواجب توصّليّاً كالدفن و لم يبذل المال لأجل أصل العمل، بل لأجل اختيار عمل خاصّ لا بأس به، فالمحرّم أخذ الأُجرة لأصل الدفن. و أمّا إذا اختار الوليّ مكاناً خاصّاً و قبراً مخصوصاً و أعطى المال للحفّار لحفر ذلك المكان الخاصّ، فالظاهر أنّه لا بأس به. كما أنّه لا بأس بأخذ الطبيب الأُجرة للحضور عند المريض. و إن أشكل أخذها لأجل أصل المعالجة. هذا لو كان الواجب توصّليّاً لا يشترط فيه قصد القربة كالدفن و أمّا لو كان تعبّديّاً يشترط فيه التقرّب كالتغسيل فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه علىٰ أيّ حال. نعم لا بأس بأخذها علىٰ بعض الأُمور الغير الواجبة كما تقدّم في غسل الميّت».[2]

إذا كان الواجب توصيلياً (كدفن الميت)، و لم تُدفع الأجرة مقابل أصل العمل، بل في مقابل اختيار عمل خاص، فلا إشكال في أخذ الأجرة. و يؤكّد (رحمه‌الله) على أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على أصل الدفن (لأن الأجرة على الواجب حرام)، ولكن إذا عيّن ولي الميت مكاناً خاصاً للقبر، وأخذ الأجير أجرة مقابل حفر ذلك المكان تحديداً، فالظاهر أنه لا إشكال فيه.

و یشبّه (رحمه‌الله) ذلك بما يتقاضاه الطبيب؛ فالطبيب لا يستطيع أخذ أجرة على أصل الطبابة (لأنها واجبة عليه)، و لكنه يستطيع أخذ مبلغ مالي مقابل حضوره في مكان خاصّ محدد. أصل المعالجة واجب على الطبيب، لكنّه يجوز له أخذ الأجرة على تواجده في ذلك الموقع المحدد. و هذا الحكم (جواز أخذ الأجرة) يجري في الواجب التوصّلي الذي لا يُشترط فيه قصد القربة.

أما إذا كان الواجب تعبّديّاً و يُشترط فيه قصد القربة (كغسل الميت)، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه؛ لأن غسل الميّت يشترط فيه قصد القربة. بالتالي، لا يجوز أخذ أجرة على أصل غسل الميت.

و مع ذلك، يجيز (رحمه‌الله) أخذ الأجرة على الأعمال المستحبة التي تؤتی بها جنب الواجب؛ فمثلاً، يمكنه أخذ أجرة مقابل الإتيان بالأعمال المستحبة في غسل الميت، لكن ليس له حق الأجرة مقابل الأعمال الواجبة.

و خلاصة رأيه: إذا عُيّن مكان خاص، فلا إشكال في أخذ الأجرة، و لكن إذا كان العمل مُطلقاً دون تعيين لمكان خاص، فيصبح محلاً للإشكال.

مرأی السیّد گلبایگاني و إشکاله علی السیّد ابولحسن الإصفهاني:

لقد وقع كلام المرجع الراحل السيد أبو الحسن الأصفهاني (بشأن حرمة أخذ الأجرة على أصل الطبابة) موضع إشكال من قبل بعض العلماء الآخرين. و قد أفاد آية الله گلبايگاني في تعليقة له على كلامه ما يلي: «لا إشكال في أخذها له إذا لم يتوقف العلاج أو حفظ النفس على المعالجة مجانا، فإن الواجب هو بذل العمل و أما المبذول فلا مانع من أخذ شي‌ء بإزائه كما في المحتكر».[3]

لا بأس بأخذ الأجرة، بشرط أن لا يتوقّف العلاج أو حفظ النفس على المعالجة المجّانية.

يرى سماحة آية الله الگلبايگاني أنّ الطبيب يجوز له أخذ المال، لأنّ وجوب المعالجة لا يتوقّف على كونها مجّانية. فإن كان المريض فقيراً و لا يستطيع الدفع، وجب على الطبيب أن يعالجه مجّاناً، و لا يجوز له أخذ الأجرة؛ لأنّ المعالجة المجّانية في هذه الحالة واجبة. أمّا إذا كان المريض غنيّاً قادرًا على الدفع، فإنّ وجوب المعالجة المجّانية يرتفع، و يجوز للطبيب أن يأخذ أجرة مقابل علاجه.

و بناءً على ذلك، يقول آية الله الگلبايگاني: يجوز للطبيب أن يأخذ أجرة على أصل المعالجة، لأنّ العلاج على نوعين:

الأوّل: العلاج المجّاني، وهو واجب في حقّ الفقير؛

و الثاني: العلاج غير المجّاني، وهو جائز في حقّ الغني. ويذكر سماحته لتوضيح هذا المبنى مثالاً بالمحتكر: فلو احتكر أحدٌ الأرزّ أو القمح في زمن المجاعة، و الناس بحاجة ماسّة إليه، وجب عليه أن يوفّر السلعة للناس، ولكن مع ذلك يجب دفع ثمنها. وهكذا الطبيب أيضاً: إن كان المريض فقيراً وجب علاجه مجّاناً، و إن كان غنيّاً فلا يجب أن يكون العلاج مجّانياً ويجوز أخذ المال منه.

 

أصل البحث هو أنّه هل يجوز في الواجب الكفائي أن يُعقد على الأجرة أم لا؟

الذين يجيزون أخذ الأجرة في الواجب الكفائي لا يفرّقون بين الفقير والغنيّ،

لكن آية الله الگلبايگاني لا يرى الواجب الكفائي منحصراً في «أصل المعالجة»، بل يعتبره «المعالجة المجّانية».

فبحسب رأيه، المعالجة المجّانية واجبة كفائياً فقط في حقّ الفقير، ولذا ترى بعض الأطباء المتشرّعين لا يأخذون أجرة من الفقراء.

ويقول آية الله الگلبايگاني: إنّ العلاج في مورد الغني واجب، ولكن ليس على وجه المجّانية؛ ولذلك لا إشكال في أخذ الأجرة.

كما يرى فريق آخر من العلماء أنّه لا مانع من أخذ الأجرة في الواجبات الكفائية التوصّلية، لأنّ المعاملة والتجارة أمرٌ عرفي، وليس هناك دليل شرعي يمنع من ذلك.

الروایات المؤیّدة لجواز أخذ الأجرة

و لإثبات جواز أخذ الأجرة، نُقِلَت أيضاً روايات في هذا الباب. في الأزمنة الماضية، كان الطب يشمل عادةً الحجامة و ما شابهها. و قد نُقِلتْ رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) بسند صحيح، حيث سُئِلَ عن كسب الحجّام، فقال الإمام: «لا بأس به».

«عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ[4] عَنْ أَبِيهِ[5] وَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ[6] عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ[7] عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ[8] عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ[9] قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ قُلْتُ أَجْرُ التُّيُوسِ قَالَ إِنْ كَانَتِ الْعَرَبُ لَتَعَايَرُ بِهِ وَ لَا بَأْسَ[10]

العلماء القائلون بجواز أخذ الأجرة للطبیب قد استندوا بهذه الروایة.

كما نُقِلتْ رواية أخرى تفيد بأن الفَرْقَد الحجّام جاء مع جماعة عند الإمام الصادق (عليه السلام) و قال: فداكَ أبي و أمي، إنّ لي مهنةً و قد قال قوم إنّ هذا العمل مكروه؛ فإن كان كذلك، تركته. فسأله الإمام: «ما هي مهنتك؟» فقال: «الحجامة». فقال الإمام: كُلْ من كسبك، فإنّ كسبك حلال. يمكنك أن تتصدّق منه، و تحجّ به، و تتزوّج. و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله) يحتجم و یعطي الأجرة؛ و لو كان حراماً، لما أعطی النبيُّ أجرةً.

«عدّة من أصحابنا[11] عن سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ[12] عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ[13] عَنْ حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ[14] قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) وَ مَعَنَا فَرْقَدٌ الْحَجَّامُ فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَعْمَلُ عَمَلًا وَ قَدْ سَأَلْتُ عَنْهُ غَيْرَ وَاحِدٍ وَ لَا اثْنَيْنِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ عَمَلٌ مَكْرُوهٌ وَ أَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مَكْرُوهاً انْتَهَيْتُ عَنْهُ وَ عَمِلْتُ غَيْرَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَإِنِّي مُنْتَهٍ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِكَ. قَالَ: وَ مَا هُوَ؟ قَالَ: حَجَّامٌ. قَالَ: كُلْ مِنْ كَسْبِكَ يَا ابْنَ أَخِ وَ تَصَدَّقْ وَ حُجَّ مِنْهُ وَ تَزَوَّجْ فَإِنَّ النَّبِيَّ (صلی الله علیه و آله) قَدِ احْتَجَمَ وَ أَعْطَى الْأَجْرَ وَ لَوْ كَانَ حَرَاماً مَا أَعْطَاهُ. قَالَ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكَ إِنَّ لِي تَيْساً أُكْرِيهِ‌ فَمَا تَقُولُ فِي كَسْبِهِ؟ فَقَالَ: كُلْ‌ كَسْبَهُ‌ فَإِنَّهُ‌ لَكَ‌ حَلَالٌ‌ وَ النَّاسُ‌ يَكْرَهُونَهُ‌ قَالَ: حَنَانٌ قُلْتُ: لِأَيِّ شَيْ‌ءٍ يَكْرَهُونَهُ وَ هُوَ حَلَالٌ؟ قَالَ: لِتَعْيِيرِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً [15]

و يُستفاد أيضاً من هذه الرواية الموثوقة أنّ أخذ الأجرة على الواجبات مثل الطبابة لا إشكال فيه. و قد استدلَّ العديد من العلماء بهذه الروايات لإثبات جواز أخذ الأجرة على الطبابة. و على الرغم من أنّ هذه المسائل ليست واجبةً عيناً بالضرورة، إلّا أنّها تُعتبر من الواجب الكفائي التوصّلي.

على سبيل المثال، يُقال: إن الحجامة هي إحدى سُبل الحفاظ على الصحة، و يتوقف إجراؤها بشكل ما على نظام الصحّة العام للمجتمع؛ و لذلك يمكن أن تُعدَّ من مصاديق الواجب الكفائي التوصّلي، و يكون أخذ الأجرة عليها بلا إشكال.

 


[4] عليّ بن إبراهیم بن هاشم القمّي: إمامی ثقة.
[5] إبراهیم بن هاشم القمّي: امامی ثقة علی التحقیق.
[6] البندقي النیسابوري: إمامي ثقة علی التحقیق.
[7] إمامی ثقة.
[8] محمّد بن أبي عمیر زیاد: إمامي ثقة و من أصحاب الإجماع.
[9] الدهني: إمامی ثقة.
[11] عليّ بن محمّد علان الكلیني: إمامی ثقة؛ محمّد بن عقیل الكلیني: مهمل؛ محمّد بن جعفر الأسدي الكوفي: إمامی ثقة؛ محمّد بن الحسن الطائي الرازي: إمامی ثقة.
[12] الآدمي: مختلف فیه و لکنّ الأقوی أنّه إماميّ ثقة.
[13] البزنطي: إمامي ثقة و من أصحاب الإجماع.
[14] الصیرفي: واقفی ثقة.
logo