47/05/03
بسم الله الرحمن الرحیم
الأجرة علی الواجبات الشخصیّة/التکسّب بالواجبات /المکاسب المحرّمة
الموضوع: المکاسب المحرّمة/التکسّب بالواجبات /الأجرة علی الواجبات الشخصیّة
خلاصة الجلسة الماضية: کان النقاش في الفقه حول مناقشة فقهية تناولت مسألة صحّة الإجارة على الواجبات، حيث استعرضنا آراء عدد من العلماء الأعلام.
بطلان النيابة في الواجب الشخصي
يصرح سماحة آية الله المكارم الشيرازي (دام بقاؤه الشريف) بأنّ النيابة لا تصحّ في الواجبات التي تُلزم الشخص بعينها.
«إنّ المحذور في الواجب الكفائي أيضاً موجود، فانّ من يؤدّي وظيفته بالصلاة على الميّت، أو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لا يجوز له أخذ الاجرة في مقابل أداء الوظيفة و مجرّد كونه كفائياً لا يوجب تفاوتاً في المقصود. … إنّ الواجب الكفائي التعبّدي لا مانع من أخذ الاجرة عليه بلحاظ كونه تعبّديا. إنّما الإشكال من ناحية نفس الوجوب… ما ذكره في جواز النيابة في هذه المقامات مشكل، بعد كون الإنسان نفسه مأموراً بنفس ذلك الشيء و كيف تصحّ النيابة في مقابل أمر يكون نفسه مأموراً به.»[1]
بعبارة أخرى، لا يمكن للشخص أن يؤدّي واجباً كان واجباً عليه أصلاً، و في نفس الوقت ينوب فيه عن شخص آخر. فكمثال، إذا أراد شخص أن يؤدّي صلاته أو حجّه الواجب عليه، و قام في الوقت ذاته بالنيابة عن غيره، فإنّ مثل هذه النيابة باطلة؛ لأنه لا يمكن الجمع بين التكليف الشخصي و النيابة عن الغير.
و يضيف سماحته: على الرغم من أنّ الإجارة على الواجب قد تكون صحيحةً في بعض الحالات، فإنّ النيابة في الواجب الشخصي باطلة بشكل مطلق، و لا يوجد أيّ ملازمة بين صحّة الإجارة و صحّة النيابة.
تحليل فقهي و عُرفي لکون المعاملة سفهیّة
يتناول آية الله سبحاني (دام تأييده) المسألة من زاوية مختلفة، حيث يبحث إحدى الاعتراضات المعروفة:
«إنّه إن أُريد من المقهورية أنّ العمل لا يفي بغرض المستأجر، فالمفروض خلافه و إن أُريد أنّه يشترط وراء الإيفاء بالغرض عدم الإيجاب من جانب الشارع، لأنّ المعاوضة مع الإيجاب تكون سفهية، ففيه أنّها انّما تكون سفهية لو كان الأجير بصدد الطاعة سواء استؤجر أم لا و أمّا إذا لم يكن على ذاك الوصف و توقّف انتفاع المستأجر على قيام الغير بواجبه فلا يعد إعطاء العوض و الانتفاع به معاملة سفهية.»[2]
هل أخذ الأجرة للقيام بواجب شخصي يُعدُّ معاملةً سفهیّةً؟
و يُجري سماحته تمييزاً بين عدة حالات ردّاً على هذا التساؤل:
أ) حالة المطيع:
إذا كان الفرد مُطيعاً و مُلتزماً بأداء الواجب، و يَرْغبُ في القيام به طوعاً، ثمّ أخذ أجرةً على نفس هذا العمل، فإن هذا العقد يُعتبر سَفهیّاً؛ لأنّه كان سيقوم به على أيّ حال دون دافع مالي.
ب) حالة العاصي:
أما إذا كان الفرد عاصياً و غير راغب في أداء الواجب، كأن يكون مُعرضاً عن الصلاة، ثم دفع له شخص مالاً ليُصلي، فإن هذا العقد لا يُعدُّ سفهیّاً. ففي هذه الحالة، يصبح الدافع المالي هو سبب تحقيق الواجب، و قد يكون مؤثراً في إصلاح السلوك و التربية الدينية.
عن الأشخاص المتراخين في الصلاة أو المستهينين بالواجبات، فإنّ التشجیع المالي قد يكون سبباً في أدائهم للعبادة، و هذا الدفع لا يكون سفهیّاً فحسب، بل قد يكون محموداً من الناحية التربوية و الاجتماعية.
التمييز بين الجاهل و العالم في حُكم السَّفاهة
بحسب ما قاله آية الله سبحاني، فإنّ بطلان عقد الإجارة يثبت في حالة كان الأجير عالماً بوجوب الفعل. أما إذا كان الأجير جاهلاً بوجوب العمل و كان يترك الواجب عن غير قصد، فإن دفع المال إليه للقيام بالواجب لا يكون باطلاً و حسب، بل قد يكون سبباً في تنبّهه و أدائه للتكليف.
«إنّ المقهورية انّما تتحقّق إذا كان الأجير أيضاً عالماً بالوجوب و من الممكن أن يكون جاهلًا به فلا يعد عقد الإجارة أمراً سفهياً.»[3]
و عليه، فإنّ عقد الإجارة يكون صحيحاً و مشروعاً في كلتا الحالتين: حالة العصيان وحالة الجهل بوجوب الفعل.
الفرق بین الضرورة العرفي و الضرورة الشرعي
من أهمّ النقاط في رأي آية الله سبحاني، التفريق بين نوعين من الضرورة:
الف): الضروة العرفیّة
إذا كان الاستئجار لأداء عملٍ يجري عليه الناس عادةً و طبيعةً، كالأكل أو النوم، فإنّ مثل هذا العقد يُعدّ سفهيًّا و باطلًا؛ لأنّه تحصيل حاصل، و العقلاء لا يدفعون أجرةً في مقابل هذه الأفعال.
ب) الضرورة الشرعيّة
أمّا إذا كان الاستئجار متعلّقًا بأمرٍ شرعيٍّ ضروريٍّ، كأداء الصلاة أو الصيام أو الواجبات الكفائيّة، فالعقد صحيح؛ لأنّ هذه الأعمال و إن كانت واجبةً شرعاً إلا أنّها من وجهة نظر العرف العام ليست أموراً شائعةً و مضمونةً، فيكون دفع المال للحثّ على أدائها أمراً صحيحاً و معقولاً.
«إنّه انّما يعدّ أكلًا للمال بالباطل إذا كان انتساب العمل إليه، انتساباً طبيعياً كالأكل و الشرب، أو يعدّ من الوظائف الضرورية العرفية التي يقوم بها كل إنسان عادي. و أمّا إذا كان الانتساب بإيجاب من المقنن و الشارع من دون أن يكون هناك داع طبيعي، فلا يعد أخذ الأُجرة عليه أكلًا للمال بالباطل إذا انتفع به الغير.»[4]
واجبٌ عينيّ و واجبٌ تخييريّ في ضوء الإجارة
في هذا المجال، ذهب بعضهم إلى التفريق بين الواجب التخييريّ و الواجب العينيّ، و قالوا إنّ أخذ الأجرة في الواجب التخييريّ صحيح، و أمّا في الواجب العينيّ فليس كذلك.
غير أنّ آية الله السبحاني لا يقبل هذا التفريق و يستدلّ قائلاً:
«لو جاز أخذ الأُجرة على أحد فردي الواجب التخييري التوصلي لجاز أخذها على بعض مصاديق الواجب العيني التعييني لأجل انتفاع المستأجر بذلك المصداق دون الآخر.»[5]
في الواجب التخييريّ، مثل كفارة الصوم، يكون الفرد مخيَّراً بين عدّة أعمال (كالصوم أو الإطعام أو تحرير العبد). فاستيفاء الأجرة على واحدٍ من هذه الأفعال جائز، لأنّه داخلٌ في دائرة اختياره. أمّا في الواجب العينيّ، فباعتبار تعدّد مصاديقه، يوجد نوعٌ من التخييـر الضمني؛ فالصلاة مثلاً يمكن إقامتها في أماكن متعدّدة. و لذلك، فإنّ أخذ الأجرة على تحقيق الواجب في مصداقٍ خاصٍّ (كالصلاة في المسجد أو الحرم) لا إشكال فيه أيضاً. و من ثمّ، يوصي آية الله سبحاني بعدم التشديد الفقهي في هذا الباب، و قبول جواز الأجرة على الواجب العينيّ بحسب اختلاف مصاديقه.
شرط «المجانية» في الواجبات
يضيف آية الله سبحاني نقطةً أصوليّة:
إذا استُفِيد من مذاق الشارع المقدّس وجوبُ أن يتمّ إنجاز واجبٍ ما بصورة مجّانية (كالأمر بالمعروف أو بعض الخدمات الشرعية)، فإنّ أخذ الأجرة على ذلك العمل يكون باطلاً؛ لأنّ عنوان «على وجه المجان» مُلْحَظٌ فيه.
أمّا إذا لم يوجد مثل هذا القرينة في الشريعة، فلا إشكال في أخذ الأجرة على إنجاز الواجب.
«إنّ مجرّد كون الشيء حقاً للغير لا يكفي في عدم جواز أخذ الأُجرة عليه، بل المدار ثبوت كونه مطلوباً للشارع على وجه المجّان و أن لا يجوز أخذ الأُجرة عليه و إن لم يكن من باب الحق للمخلوق.»[6]
المناقشة مع الأجرة على الواجب:
بيَّن المرحوم الشيخ الأنصاري (قدَّس سرَّه)، لتوضيح استنكار أخذ الأجرة على الواجب، مثالاً عُرفيّاً.
«لو فرض أن المولى أمر بعض عبيده بفعل لغرض و كان مما يرجع نفعه أو بعض نفعه إلى غيره فأخذ العبد العوض من ذلك الغير على ذلك العمل عد أكلا للمال مجانا و بلا عوض ثم إنه لا ينافي ما ذكرناه حكم الشارع بجواز أخذ الأجرة على العمل بعد إيقاعه كما أجاز للوصي أخذ أجرة المثل أو مقدار الكفاية لأن هذا حكم شرعي لا من باب المعاوضة.»[7]
يُكلَّف خادمٌ بنقل أمتعة ضيف إلى الباب، فيُعطيه الضيف مبلغاً من المال. عندما يطّلع المولى على الأمر، يلومه قائلاً: «أمرتُك أن تؤدّي هذا العمل بدافع الخدمة لا من أجل المال».
يستنتج الشيخ الأنصاري (قدَّس سرَّه) أن توقُّع الشارع المقدَّس مماثلٌ؛ أي أنّ الواجب يجب أن يُؤدَّى لله- تعالى- لا في مقابل مال.
و يؤيِّد کاشف الغطاء هذا المعنى، فيقول: إنَّ الله- تعالى- عندما يوجب أمراً، فإنَّ المقصود هو أن يُؤدَّى مجاناً، و تلقّي الأجرة مُقابلَه يُنافي روح العبادة و قصد القربة.
أُجرة الخطابة و المنبر:
من التطبيقات العملية لهذه المسألة مسألة أخذ الأجرة على التبليغ و الخُطب الدينية. و يتوقّف الجواب على نوع الواجب:
إذا اعتبرنا التبليغ واجباً كفائياً و توصّلياً (لا يتطلّب قصد القربة)، فلا مانع من أخذ الأجرة عليه.
أما إذا اعتُبر واجباً تعبدياً، فمن الأفضل أن يُؤدَّى دون انتظار مقابل مادي، كما كانت سيرة العلماء السلف؛ فهم لم يكونوا يطالبون بمال مقابل تبليغ الدين، و إن كان قبولهم للهدية التي تُقدَّم لهم دون مُطالبة به لا إشكال فيه.