« قائمة الدروس
بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/27

بسم الله الرحمن الرحیم

عدم منافاة الوجوب الماهیّةَ/التکسّب بالواجبات /المکاسب المحرّمة

 

الموضوع: المکاسب المحرّمة/التکسّب بالواجبات /عدم منافاة الوجوب الماهیّةَ

 

ملخص الجلسة السابقة: كان البحث الفقهي يدور حول دراسة مسألة صحّة الإجارة علی الواجبات و ما يوجّه من نقد لفتاوى المرحوم الشيخ الأنصاري (أعلى الله مقامه الشريف). وفي هذا الصدد تمّ بحث و تحليل آراء عدد من الفقهاء منهم: آية الله السبزواري، و آية الله التبريزي، و آية الله المكارم الشيرازي.

رأي آية الله السبزواري

صرّح آية الله السبزواري في كتاب «مهذّب الأحكام» بأنّ صحة الإجارة تتوقّف على شرط أساسي واحد فقط، و هو أن لا یکون غرض المؤجر من العمل منهيّاً عنه من قبل الشارع المقدس. بمعنى أنّه إذا لم ينه الشارع عن الدافع أو الهدف الكامن وراء العمل، تكون الإجارة صحيحةً، حتى لو لم يُعتبر ذلك الغرض عقلائياً من وجهة العرف.

«إنّه ليس من أكل المال بالباطل إذ يكفي في العوض مطلق الغرض الصحيح الذي لم ينه عنه الشارع و لا ريب في تحقّقه[1]

يعتمد سماحته فقط على عدم النهي الشرعي بخلاف من يشترط لتحقّق صحّة الإجارة وجود الغرض العقلائي،. و يتميز هذا الرأي بشمولية عالية، حيث ينطبق على جميع أقسام الواجبات - سواء كانت كفائيّةً، تخييريّةً، عينيّةً، تعبّديةً، أو توصيّليةً - لأنّه طالما لم ينه الشارع عن الغرض، يبقى عقد الإجارة معتبراً. و نرى أنّ هذا الرأي سديد.

أجوبة سماحة آية الله التبريزي (رحمه‌الله) على إشكالات إجارة الواجبات

يدور بحث آية الله التبريزي حول كلام الشيخ الأنصاري الذي اشترط لصحّة الإجارة وجود «المنفعة المحلّلة المقصودة». وقد خفّض آية الله السبزواري هذا الشرط إلی حدّ «عدم النهي الشرعي» و يأتي آية الله التبريزي ليجيب على ثلاثة إشكالات رئيسيّة وجّهها الفقهاء مثل الكاشف الغطاء و الشيخ الأنصاري على أخذ الأجرة في الواجبات:

«إذا فرض أن في فعل المكلّف غرضا للآخرين و أن الواجب عليه هو الفعل مطلقاً لا الفعل مجانا و بلا عوض، فلا يكون أخذ العوض و تمليك عمله للغير من الأكل بالباطل، فان الموجب لصدقه أخذ قيد المجانية في متعلق الأمر. و المفروض خلافه. و القهر عليه من باب الأمر بالمعروف لا يوجب سقوط عمله عن المالية، كما أن القهر على بيع ماله في المخمصة لا يوجب سقوطه عنها. نعم إذا كان تعبديا فقد يتبادر الى الذهن منافاة أخذ الأجرة عليه للإخلاص المعتبر فيه و لكن قد مر دفعه‌ و أن مع كون الغرض هو استحقاق الأجرة شرعا يحصل التقرب المعتبر في العبادة[2]

 

«مجرد استحقاق الغير الفعل لا يقتضي المجانية، حتى لا يجوز أخذ العوض على المعالجة و الإنقاذ و نحوهما و إلا لم يجز أخذ العوض لمن يطعم الناس في المخمصة، بل يجب عليه بذله مجانا و ذلك لان البذل واجب تعييني لا يقبل أخذ العوض عليه و الطعام مورد حق للمضطرين و لذا يجوز لهم بل يجب وضع اليد عليه في صورة امتناع مالكه عن بذله[3]

١. عدم منافاة الوجوب للمالِيّة

قال البعض: بما أنّ الشارع أوجب فعلاً، فيجب أن يكون مجّانياً، و بالتالي فإنّ أخذ الأجرة عليه يعدّ أكلاً للمال بالباطل.

يرد آية الله التبريزي على هذا التصور، مؤكداً أنه لا يوجد دليل على أنّ كل أمر واجب شرعاً يسلب المالِيّة عنه. فمثلاً، في وقت المجاعة، يجب على الأغنياء توفير المواد الغذائية كالحنطة و الشعير للناس، لكن هذا الإلزام الشرعي لا يمنع من أخذ ثمنه. إذن، الوجوب الشرعي لا يعارض المالِيّة.

٢. عدم منافاة الأمر بالمعروف للمالِيّة

يرى سماحته أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يخرج العمل عن دائرة المالِيّة. قد يكون العمل واجباً (كالغسل أو تكفين الميت)، و لكن إذا طالب الفاعل بأجرة مقابل إتمامه، فإن هذا الطلب لا يتعارض مع وجوب العمل، لأنّ الإجارة عنوان مستقل و لا تتصادم مع الوجوب التكليفي من حيث الحكم الوضعي.

٣. عدم منافاة قصد القربة للأجرة

قد تصوّر بعض أنّ أخذ الأجرة في العبادات التعبدية ينافي مع الإخلاص و قصد القربة. يرى آية الله التبريزي هذا التصور خاطئاً، و يؤكّد أنّ قصد القربة أمر قلبي و لا يتعارض مع تلقي الأجرة. فإذا استأجر شخص لأداء الحجّ الاستئجاري أو صلاة القضاء و أخذ أجرة، فإنه يصحّ عمله و تحل أجرته، بشرط أن يؤدّي العمل بنية التقرب و دون رياء. و بالتالي، يمكن الجمع بين أخذ الأجرة و التقرب إلى الله.

خلاصة كلامه: إنّ الوجوب الشرعي، أو الأمر بالمعروف، أو لزوم قصد القربة، لا يُعدّ أيّ منها مانعاً لصحّة الإجارة على الواجبات. كمثال، في حالات كمعالجة المريض أو إنقاذ الغريق، بالرغم من كون الفعل واجباً، إلا أن أخذ الأجرة عليه لا إشكال فيه.

«مجرد استحقاق الغير الفعل لا يقتضي المجانية، حتى لا يجوز أخذ العوض على المعالجة و الإنقاذ و نحوهما و إلا لم يجز أخذ العوض لمن يطعم الناس في المخمصة، بل يجب عليه بذله مجانا و ذلك لان البذل واجب تعييني لا يقبل أخذ العوض عليه و الطعام مورد حق للمضطرين و لذا يجوز لهم بل يجب وضع اليد عليه في صورة امتناع مالكه عن بذله[4]

تحديد و تبيين آية الله المكارم الشيرازي

يقبل آية الله مكارم الشيرازي أصل الرأي من أنّ الوجوب لا ينافي الإجارة، و لكنّه يقيّده بالعرف. يقول سماحته:

«إنّ مجرّد المقهورية غير كافية، بل العمدة كون الشي‌ء من وظائف الإنسان شرعا أو عرفا ينافي أخذ الاجرة عليه بحيث يعدّ أكل المال بازائه أكلا بالباطل[5]

إذا كان الفعل يُعدّ من الوظائف الطبيعية و اليومية للإنسان، بحيث يصبح أخذ المال مقابله قبیحاً في العرف و الشرع و موجباً للسخرية (كأخذ أجرة على الأكل أو الشرب أو قضاء الحاجة)، فإنّ الإجارة على هذا الفعل تكون أكلاً للمال بالباطل.

الإجارة في الواجبات التخییریّة

یری أیضاً آیةالله المکارم في الواجبات التخییریّة أنّ الإجارة صحیحةً إذا تضمن الفعل المستأجر عليه مشقّةً أو كلفةً إضافيّةً.

«إنّ الواجب التخييري بعد أن كان موظّفا أو مقهورا- بتعبيره قدّس سرّه- على أحدهما لا يجوز له أخذ الاجرة عليه إلّا أن يكون فيه مزيد كلفة، مثل نقل الميّت للدفن إلى مكان أبعد، يكون فيه بعض المزايا الشرعية أو العرفية، مثل ما إذا كانت الأرض صلبة، أو يسهل وصول الزوار إلى محلّه أو غير ذلك و لعلّ مراده أيضاً ذلك و إلّا فمجرّد التخيير مانع قطعاً[6]

على سبيل المثال، في تجهيز الميّت، إذا اشترط دفنه في مكان أبعد (نقل الميّت إلى مكان أبعد)، تكون الأجرة جائزةً لتحمّل الزحمة الإضافية.

الجمع بين قصد القربة و الأجرة

يحلّ سماحته إشكال تعارض الأجرة مع قصد القربة باستخدام قاعدة «الداعي علی الداعي»، بمعنى أنّ الدافع المالي يمكن أن يكون داعياً للداعي القربي، و ليس مانعاً له. وب التالي، إذا حافظ المؤجَر على قصد القربة، تكون العبادة الاستئجارية صحيحةً.

«إنّ التقرّب بالقدر المشترك غير ممكن بعد ما كان متّحدا مع الخصوصية خارجا غير منفكّ عنها.هذا و لكن قد عرفت تصحيح قصد القربة في هذه المقامات من طريق الداعي إلى الداعي[7]


logo