« قائمة الدروس
بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/20

بسم الله الرحمن الرحیم

مرأی التفصیل بین الغرض الدنیوي و الأخروي/التکسب بالواجبات /المکاسب المحرّمة

 

الموضوع: المکاسب المحرّمة/التکسب بالواجبات /مرأی التفصیل بین الغرض الدنیوي و الأخروي

 

ملخّص الجلسة السابقة: دار النقاش في علم الفقه حول جواز أخذ الأجرة على أداء الواجبات الشرعية، حيث توجد آراء مختلفة في هذا الصدد.

رأي التفريق بين الغرض الأخروي و الغرض الدنيوي:

أحد الآراء المطروحة هو أنّه إذا كان الغرض الأساسي من أداء الواجب هو الآخرة، فلا يصحّ الاستئجار (أخذ الأجرة) عليه؛ أمّا إذا كان الغرض دنيوياً، فيجوز أخذ الأجرة. هذا الرأي نقله الميرزا محمد جواد العاملي في كتابه «مفتاح الكرامة»، حیث قال: «كلّ ما كان الغرض الأهمّ منه الآخرة إمّا بجلب نفع فيها أو دفع ضرر لا يجوز أخذ الاجرة عليه و لا ينتقض بالجهاد و كلّما كان الغرض الأهمّ منه الدنيا سواء كان بجلب النفع أو دفع الضرر فإنّه يجوز أخذ الاجرة عليه و إن كان قد يرجع بالأخرة إلى المهمّات الدينيّة باعتبار كونه وسيلةً إليها[1]

فكلّ عمل كان الغرض الأهمّ منه الآخرة، سواء بجلب نفع أخروي أو دفع ضرر أخروي، لا يجوز أخذ الأجرة عليه، و في المقابل، إذا كان الغرض دنيوياً، فيجوز أخذ الأجرة.

هذا التفصيل يُفسَّر أحياناً بالتفريق بين الواجب التعبدي و الواجب التوصلي. الواجب التعبدي هو العمل الذي يجب أن يُؤدّى لله تعالى و بقصد القربة، لذا لا معنى للأجرة عليه؛ أمّا الواجب التوصّلي الذي لا يُشترط فيه قصد القربة، فيُعدّ أخذ الأجرة عليه جائزاً.

نقد الرأي الأول و إمكانيّة الجمع بين قصد القربة و الأجرة

هذا التفصيل (الدنيا/الآخرة أو التعبّدي/التوصّلي) ليس تفسيراً صحيحاً؛ لأنّ جميع الواجبات لها غرض أخروي قطعاً. من ناحية أخرى، حتى في الموضع الذي يُشترط فيه قصد القربة، فمن الممكن أن يقصد الإنسان القربة و في الوقت ذاته يتلقّى أجرةً.

القصد و النية و القربة أمر قلبي و نفساني يقع تحت اختيار الإنسان، و بإمكان الفرد أن يُخلِص نيّته لله- تعالى- و في الوقت نفسه يستلم الأجرة.

إمكانية قصد القربة مع استلام الأجرة (مثال: التشجيع)

لا إشكال في أن يقوم الإنسان بعمل واجب لله تعالى، بينما تترتّب عليه منافع دنيويّة أيضاً. فمن الممكن أن يقصد شخص ما القربةَ لعملٍ قد استلم مقابله مالاً.

على سبيل المثال، في مسألة تشجيع الأطفال أو الشباب الکسلان في صلاتهم، بدفع مبلغ من المال لهم، فإنّ هذا يُعدّ حركةً معنويةً جيّدةً و مميّزةً للغاية. هذا التشجيع يُحرّك الشابّ أو الطفل للنهوض إلى الصلاة. و قد أدّى هذا الأمر إلى أن يصبح الكثير من الأطفال مصلّين في بداية سنّ التكليف.

الرأي المتعلّق بالواجب التخییري مقابل الواجب التعییني

هناك تفصيل آخر يقول: إنّ الواجب التخییري يجوز الاستئجار عليه، أما الواجب المُعيَّن فلا يجوز. و هذا الحكم يشمل الواجب العيني أو الكفائي أيضاً؛ بمعنى أنه لا يجوز أخذ المال حتى على الواجبات الكفائية أو العينية المعيَّنة.

و لكن في الواجب المُخيَّر، مثل الكفارات التي يُخيَّر فيها الفرد بين ثلاثة أمور (إطعام ستّين مسكيناً، أو صيام شهرين متتابعين، أو عتق رقبة)، إذا أعطاك شخص ما مالاً لإنجاز أحد هذه الواجبات، كإطعام ستّين مسكيناً، فلا إشكال في أخذ الأجرة و الاستئجار.

«إن كان واجباً مطلقاً على الأجير و وجوبه عيناً أم كفايةً لا يجوز أخذ الأجرة عليه مطلقاً في الواجب المعيّن و إن كان الواجب المخيّر فلا حرمة في أخذ الأجرة على أحد أفراده المعيّن إذا كان في التعيين نفع للمستأجر و إن كان واجباً على المستأجر، فإن كان واجباً توقيفياً أخذ الأجرة عليه حرام[2]

المحقّق النراقي (رحمه‌الله) في «مستند الشيعة» يرى أنّه لا إشكال في الأجرة في الواجب المـُخيَّر، لكن الاستئجار باطل في الواجب الكفائي (مثل إنقاذ الغريق)؛ لأنّه يجب إنقاذ الغريق على الفرد و لا وجه لأخذ المال في مقابل ذلك.

الواجبات هي أحكام شرعيّة و ليست مِلكاً أو حقّاً

يطرح الإمام الخميني (قدس سره) في هذا الصدد، مسألةً جوهريّةً، و هي أنّ الأمر الذي صار واجباً، ليس مِلكاً و لا مالاً و لا حقّاً، بل هو مجرّد حكم شرعي. قال:

«بعد الغضّ عن التنافي بين صدر كلامه و ذيله كما يظهر بالتأمّل و بعد الغضّ عن أنّ دليله الأوّل أخصّ من المدّعى، لعدم كون جميع الواجبات التي فيها نفع للمستأجر مثل إنقاذ ولده الذي ربّما يتوهّم تمليك المنفعة له، ضرورة أنّ مثل الحجّ واجب إلهي لا يتوهّم أن يكون إيجابه على المكلّف تمليكا لمن له نفع فيه- أنّ إيجاب اللّه ليس تمليكا بوجه حتّى في مثل إنقاذ الغريق و لا جعل حقّ حتى في مثل تجهيز الميت، بل وجوبهما حكم شرعيّ محض و لهذا لا يترتّب عليهما شي‌ء من أحكام الملك و الحقّ، فلا يجوز الإعراض و الإسقاط و لا النقل و لا سائر التصرّفات المربوطة بالملك و الحقّ و يجوز بل يجب الإنقاذ بلا إذن الغريق و والده و مع نهيهما.و دعوى أنّ منافع العبد مملوكة للّه لا للعبد و إن أجاز التصرّف فيها، الملازمة لدعوى أنّ جميع الأعيان الخارجيّة أيضاً كذلك، غريبة منه و مخالفة لضرورة الفقه من مملوكيّة الأعيان و المنافع للناس[3]

الملك قابل للانتقال

الحقّ قابل للإسقاط (مثل إسقاط الزوجة لحقّها على زوجها).

أمّا الحكم الشرعي، فإنّه لا يقبل الانتقال و لا يقبل الإسقاط.

آثار الحکم الشرعي

على سبيل المثال، فيما يتعلّق بإنقاذ الغريق، فإنّ وجوب الإنقاذ هذا ليس ملكاً للفرد و لا هو حق له، بل هو حكم شرعي يجب تنفيذه. حتى لو نهى والد الطفل الغريق و قال: «لا أريدكم أن تنقذوا ابني» فيجب عليكم إنقاذه.

و كذلك الشأن في دفن الميّت (وهو واجب كفائي)؛ فإذا أوصى شخص بعدم دفنه أو قال والده: «لا تدفنوه»، فإنّ هذا الأمر یکون حكماً شرعيّاً يجب إتمامه.

بناءً على ذلك، يؤكّد الإمام الخميني (قدس سره) أنّ الحكم الشرعي يختلف عن الملك و الحق، و لا تترتّب عليه أيٌّ من أحكام الملك أو الحق. و نتيجة لذلك، فإنّ إنقاذ الغريق واجب حتّى بوجود نهي من الغريق نفسه أو والده.

مرأي النصّ الشرعي

هناك رأي آخر طرحه صاحب الجواهر[4] ، و الكاظم اليزدي و آية الله التبريزي (رحمهم الله) و هو يُعتبر رأياً سديداً، هو أن تلقي الأجرة على الواجبات و المستحبّات لا إشكال فيه إطلاقاً، إلّا في الحالات التي يوجد فيها نصّ خاصّ يفيد بوجوب أداء ذلك العمل مجّاناً.

«لا مانع من أخذ الأجرة على الواجبات و المستحبات إلّا إذا كانت منصوصة بالخصوص كالأذان و الصّلاة بالنّاس أو علم من أدلّتها وجوب أو استحباب الإتيان بها مجّانا كما في الصلوات اليومية و النوافل و أحكام الأموات و أداء الشهادة و تحمّلها و الإفتاء و تعليم الأحكام و نحو ذلك».[5]

في الحالات التي يوجد فيها نص و رواية واردة بوجوب أدائه مجاناً، فإنّ أخذ الأجرة لا يكون صحيحاً. و من بين هذه الموارد المنصوص عليها يمكن الإشارة إلى ما يلي:

     الأذان.

     صلاة الجماعة.

     أحكام الموتى.

     أداء الشهادة أو تحملها (أن يقول الشخص: سآخذ مالاً لكي آتي وأشهد).

     إصدار الفتوى (أن يأخذ الشخص مالاً مقابل فتوائه).

     تعليم وتدريس الأحكام.

إذا لم يوجد نصّ خاص، سواء كان ذلك العمل واجباً أو مستحباً، فلا إشكال في أخذ الأجرة عليه.

الفرق بين الأجرة و الهدية:

يجب الانتباه إلى أنّ الأجرة هي بمثابة عقد واجب؛ أي يمكن للشخص الذي استُؤجر (الأجير) أن يشتكي إلى المحكمة للمطالبة بالمبلغ المتفق عليه في العقد. أمّا الهدية فهي مسألة منفصلة و تعتبر اختياريّةً؛ أي أنّ الواهب لا يعطيها إن لم يشأ ذلك، و لا يوجد إشكال شرعي في هذا الجانب (الهدية).

 


logo