« قائمة الدروس
بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/04/12

بسم الله الرحمن الرحیم

إشکال وجود المستحقَّین إثنین/التكسب بالواجبات /المكاسب المحرمة

 

الموضوع: المكاسب المحرمة/التكسب بالواجبات /إشکال وجود المستحقَّین إثنین

 

ملخص الجلسة السابقة: النقاش الدائر في الحقل الفقهي يتمحور حول مسألة جواز أو عدم جواز تلقّي الأجرة (المال) مقابل أداء الواجبات الشرعية. و في هذا الصدد، طُرحت آراء كبار الفقهاء.

إشكال وجود مُستَحِقّين اثنين

يقول الكاشف الغطاء (رحمه الله): «ما يجب على الإنسان فعله وجوباً مطلقاً أو مشروطاً بغير العوض و قد تحقّق شرطه لتعلق ملك أو حقٍّ مخلوقيٍّ أو خالقي تحرم الأجرة و أمّا ما كان واجباً مشروطاً فليس بواجب قبل حصول الشرط فتعلق الإجارة به قبله لا مانع منه[1]

يشرح الشيخ الأنصاري (أعلى الله مقامه الشريف) كلام الكاشف الغطاء:

«إنّ الذي يقابل المال لا بدّ أن يكون كنفس المال مما يملكه المؤجر حتّى يملكه المستأجر في مقابل تمليكه المال إياه فإذا فرض العمل واجباً لله ليس للمكلّف تركه فيصير نظير العمل المملوك للغير. أ لا ترى أنّه إذا آجر نفسه لدفن الميّت لشخص لم يجز له أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل و ليس إلا لأن الفعل صار مستحقّاً للأوّل و مملوكاً له فلا معنى لتمليكه ثانياً للآخر مع فرض بقائه على ملك الأوّل و هذا المعنى موجود فيما أوجبه الله تعالى خصوصاً فيما يرجع إلى حقوق الغير حيث إن حاصل الإيجاب هنا جعل الغير مستحقّاً لذلك العمل من هذا العامل كأحكام تجهيز الميّت التي جعل الشارع الميّت مستحقّاً لها على الحيّ فلا يستحقّها غيره ثانياً هذا».[2]

الف. قاعدة المالیّة: ما يقابل المال (كالعمل في الإجارة أو المنافع) يجب أن يكون هو نفسه ذا ماليّة و قيمة. و يذكّر المرحوم الكاشف الغطاء أن هذا العمل يجب أن يكون مملوكاً و مستحقّاً لشخص.

ب. استحقاق العمل الواجب: السؤال هو: لمن يكون استحقاق العمل الواجب؟ إنّه لله تعالى. لقد أوجب الله فعلاً و هو يستحقّ أن نقوم بهذا العمل.

ج. تداخل المستحقّین: إذا دفع شخص مالاً مقابل أداء عمل واجب، و أراد أن يقوم به هذا الشخص، فإن الدافع يصبح أيضاً مستحقاً للعمل. و بالتالي، يصبح للعمل الواجب مُستحِقّان: أحدهما هو الله الذي أمر به و الآخر هو الشخص الذي دفع المال.

د. عدم جواز الاستئجار لشخصين: من وجهة نظر كاشف الغطاء، لا يمكن أن يكون الشخص أجیراً لشخصين لأداء عمل واحد. إذا استأجره شخص، فإنّ الإجارة الثانية لذلك العمل باطلة؛ لأنّ العمل أصبح متعلّقاً بالمستأجِر الأول. و يَستدلّ بأننا مُؤجَّرون لله، و إذا استُأجِرنا شخصاً آخر و أخذنا مالاً، فهذا بمثابة الاستئجار لشخصين في عمل واحد، و هو غير صحيح.

تأكيد آية الله فاضل اللنكراني على شمول الإشكال:

قال آیةالله الفاضل اللکنراني (رحمه‌الله): «هذا الوجه… لو تمّ لكان مقتضاه القول بعدم الجواز مطلقاً. نعم، ظاهره الاختصاص بالواجب العيني و يمكن تقريره في الواجب الكفائي بأن يقال: إنّ العمل قبل صدوره من العامل و إن لم يكن مملوكاً له تعالى لأنّ المفروض عدم تعيّنه عليه إلّا أنّه بعد الصدور يتّصف بكونه مملوكاً له تعالى بمعنى أنّه صدر ما يكون بعد الصدور غير مملوكاً إلّا للّٰه، فلا يمكن أن تتعلّق به الإجارة المقتضية لكون العمل صادراً مملوكاً للمستأجر.»[3]

إذا قُبِل إشكال تداخل المستحقين في الواجب العيني (كالصلاة)، فإنّ المشكلة ذاتها واردة في الواجب الكفائي؛ لأنه بمجرد أن يبدأ الفرد بأداء الواجب الكفائي، يصبح ذلك العمل واجباً عينيّاً له. لذلك، يستنتج أنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أخذ مال مقابل الواجب، لا الواجب العيني و لا الواجب الكفائي؛ لأنّ استحقاق ذلك الفعل متعلّق بالله تعالى.

الردّ علی إشکال المستحقّین إثنین

یردّ آیةالله السبحانيّ الإشکال فیفصّل: «هذا الوجه تامّ على وجه و غير تامّ على وجه آخر. أمّا الأوّل: و هو أن يقال: إنّ الظاهر من أدلّة تجهيز الميّت أنّ الشارع يطلب تحقّق هذه الأُمور في الخارج على وجه المجّان و أنّ الميت يستحقّها على المجهّز بهذا الشكل و هذا وجه تام يختصّ بالموارد التي علم من الأدلّة أنّ الشارع طلبها مجّاناً و لم يرضَ بأخذ الأُجرة و هذا المعنى صحيح و لكنّه بعيد عن عبارة الشيخ. أمّا الثاني: فبأن يقال: إنّ لازم أخذ الأُجرة على العمل الواجب لزوم اجتماع مستحقّين على عمل واحد، أعني: الميّت و المستأجر و هذا الوجه يرجع إلى الوجه المتقدّم بتفاوت يسير في تفسير المالكين أو المستحقّين، فهما على الأوّل: اللّه تعالى و نفس المستأجر و على الثاني هما: الميّت مع المستأجر.»[4]

صورة صحة الإشكال: كلام كاشف الغطاء يكون صحيحاً في ما إذا علمنا بأنّ الله تعالى طلب ذلك الواجب «على وجه المجّان» (بلا عوض). إذا أراد الشارع أن يُؤدَّى عملٌ ما (كالصلاة أو دفن الميت) مجّاناً، فإنّ أخذ المال ينافي الوجوب.

صورة عدم صحة الإشكال: أما إذا كان الوجوب منصبّاً فقط على وقوع ذلك العمل و تحقّق مصداقه الخارجي و لم تكن «المجانية» مقصودةً، ففي هذه الحالة لا مانع من أن يأخذ الشخص مالاً و يُنجز العمل؛ لأنّ الهدف الشرعي و هو تحقق العمل خارجاً قد تحقّق. و هذه المسألة صادقة بشكل خاص في كثير من الواجبات الكفائيّة كدفن الميّت أو الطبابة؛ فالمطلوب هو عدم تعرّض الميّت للإهانة و دفنه، بصرف النظر عما إذا كان من قام بالعمل قد طلب أجراً أم لا.

إذا لم نعلم بكون الواجب «على وجه المجّان» فلا إشكال في أخذ المال.

ردّ السيّد اليزدي: الاستحقاق «على نحو الطوليّة»

قد أجاب السيّد محمد كاظم اليزدي (صاحب العروة) في حاشية المكاسب عن كلام كاشف الغطاء و يُوضّحه:

«إنّ السرّ في عدم المنافاة إنّما هو كون ملكيّة المستأجر في طول طلب الشارع و استحقاقه فإنّه إنّما استأجره للعمل الواجب عليه من اللّٰه بأن يأتي به للّه و إلّا فلو فرض كونهما في عرض واحد لا يجوز الاستيجار و إذا كان الواجب تعبّديّاً و كان العمل ممّا يعود نفعه إلى المستأجر فلو أمر الشارع بإتيان الصّلاة بداعي أمره و استأجره شخص على أن يأتي بها له لا للّه لم يصحّ ذلك و إن كان استحقاق اللّٰه تعالى من باب الطّلب و استحقاق ذلك الشخص من باب الملكيّة لعدم إمكان إتيان الواحد بداعيين في عرض واحد و كونه عائداً إليهما».[5]

التنافي في «العَرْضِيّة»: إنّ التعارض يقع إذا كانت الاستحقاقات «على نحو العَرْضِيّة» (أي: هذا أو ذاك)، كما لو استؤجر لشخص (زيد) و استؤجر لشخص آخر (عمرو) للقيام بعمل واحد محدّد حيث يكون الاستحقاقان متعارضين عرضاً و لا يمكن أن يتحقّقا معاً لكلاهما.

الاستحقاق «على نحو الطوليّة»: في الواجبات يكون استحقاقُ الله تعالى و استحقاقُ الشخص الدافع للمال «على نحو الطوليّة». أي أنّ هذا الشخص (الأجير) لا يقول: «إفعل العمل لي بدلاً عن الله»، بل يقول: «افعل العمل إطاعةً لله، و أنا أدفع لك أجراً في مقابله».

التقوية و التأیید: إنّ دفع المال من قِبَل الشخص هو في الحقيقة تقويةٌ و تأییدٌ و تأکیدٌ على إنجاز العمل الواجب طاعةً لله. و في هذه الحالة، لا يوجد أيّ تداخل أو تعارض. و لهذا السبب، يعتقد السيّد اليزدي أنّه لا إشكال حتى لو كان العمل تعبّديّاً (كالصلاة).

ردّ إشكال كاشف الغطاء:

يستنتج السيّد اليزدي أنّ إشكال كاشف الغطاء القائل بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات، غير وارد؛ و ذلك لأنّ الاستحقاقات متعاقبة بالطوليّة و ليست متعارضةً بالعَرْضِيّة.

الخلاصة و الاستنتاج:

على الرغم من أنّ العمل يتمّ في مقابل أخذ المال، إلا أنّ نيّة العمل (قصد القربة) تظلّ خالصةً لله تعالى. يمكن اعتبار هذا المال بمثابة تشجيع أو مساعدة (كتشجیع الأطفال على الصلاة و الصوم) لأجل إنجاز التكليف الإلهي. فإذا كان الشخص ضعيفاً في أداء الواجب، و كان المال عوناً له على إنجازه، فإنّ هذا العمل يظلّ صادراً لله.

هذا البحث يدور حول جواز (إمكان) أخذ الأجرة على الواجبات الشرعيّة، و ليس حول وجوب ذلك.

سيستمرّ البحث في الجلسة القادمة حول آراء الإمام الخميني (قدس سره).


logo