« قائمة الدروس
بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/06

بسم الله الرحمن الرحیم

دراسة آیة«وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ»/مرجعیّة النساء /المرجعیّة و القضاء

 

الموضوع: المرجعیّة و القضاء/مرجعیّة النساء /دراسة آیة «وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ»

 

خلاصة الجلسة السابقة:

قلنا في الجلسة السابقة أنّ قوله- تعالی: ﴿وَ لِلرِّجَالِ عَلَیْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾[1] نزل في سياق العلاقات الأسريّة، و هي تعبّر عن المسؤولية القانونية و الاقتصادية للرجل، لا عن تفوّقه الذاتي أو العلمي. و قد رأى المفسّرون (السيّد القطب و آية الله المكارم، و السبحاني) أنّ هذه «الدرجة» ناظرة إلى الوظائف الزوجية، لا إلى نفي مرجعيّة النساء. كما أنّ آيات سورة الأحزاب لا تدلّ إلا على لزوم العفّة و الوقار، لا على المنع من النشاط العلمي. و لا توجد في آيات القرآن أيّ دلالة على نفي المرجعيّة العلمية للنساء، و المرأة المجتهدة مساوية للرجل من الناحية الفقهية.

الکلام في الفقه المعاصر و موضوعه «مرجعيّة النساء». و قد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنّ النساء لا يمكن أن يكنّ مراجع للتقليد، حتّى للنساء أنفسهنّ، و استدلّوا على ذلك ببعض الآيات و الروايات. و من الآيات التي استُدلّ بها، الآية الكريمة (۲۸۲) من سورة البقرة، التي تقول:

﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾[2]

موضع الاستدلال:

إنّ الله- تعالى- يأمر في هذه الآية بأن تكون الشهادة في حال عدم توفّر رجلين، لرجل و امرأتين؛ و يبيّن علّة هذا الحكم بقوله تعالى: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾، أي إذا ضلّت إحدى المرأتين، ذكّرتها الأخرى.

و قد استنبط الفقهاء المعارضون لمرجعية النساء من هذه الآية ما يلي:

١. إنّ المرأة في مقام الشهادة، من حيث الاعتبار و الکفاءة، تساوي نصف الرجل.

٢. بما أنّ الله قال: «أن تضلّ»، فهذا يدلّ على أنّ المرأة مصابة بنوع من الضعف الذهني أو النسيان أو الضلال.

يقولون: إذا لم تكن المرأة مساويةً للرجل في الشهادة، فمن باب الأولويّة القطعيّة لا يمكنها أن تحلّ محلّ الرجل في المرجعيّة التي هي شأن أعلى

دراسة کلمة «تضلّ» و دلالته

الآن، يجب النظر في معنى كلمة «تضلّ» في الآية. هل تعني الضلالة و الزلل، أم النسيان و السهو؟

لقد ذهب بعض المفسرين إلى تفسير «الضلال» في هذه الآية بمعنى «النسيان». و السبب في ذلك أنه لو كان المقصود «الضلال» (بمعنى الانحراف)، فإنّ لازمه هو أن يكون الله قد وصف النساء بالضلال بشكل عام، و هذا المنسوب بعيد عن شأن القرآن الكريم. أما إذا كان المقصود هو السهو و النسيان، فإن مفاد الآية هو أنّ المرأة، بسبب انشغالها بالأمور العاطفية أو تفاصيل الحياة، قد تنسى بعض جزئيات الشهادة، و لذلك جُعلت امرأتان جنباً إلى جنب حتى ﴿تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾.

وفي رأينا، فإنّ معنى النسيان تدعمه القرائن الموجودة في الآية و الروايات الواردة في ذيلها، و هو الأكثر انسجاماً مع سياق الآية.

دراسة معنی «الضلال» بحسب الروایات

في بحار الأنوار، نُقلت روايتان عن المعصومين (عليهم السلام) اعتبرتا الضلال بمعنى النسيان:

١. في الرواية الأولى جاء: «وأمّا الضلالُ الّذي هو النسيانُ فهو قوله تعالی: أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأُخری»[3] و هذا يعني أنّ الإمام (عليه السلام) صرّح بأنّ المراد من الضلال في هذه الآية هو النسيان.

٢. و كذلك نُقل عن أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) أنّه قال في قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾: «إذا ضلّت إحداهما عن الشهادة و نسيتها ذكرتها إحداهما الأخرى فاستقامتا على أداء الشهادة»[4] .

هاتان الروايتان هما تفسير من المعصومين، و تدلّان على أنّ المراد من قوله تعالى: «أَنْ تَضِلَّ» هو النسيان و ليس الضلال (بمعنى الانحراف).

نقد استدلال القائلين بعدم مرجعية النساء

حتى لو سلّمنا بأنّ الآية ناظرة إلى النسيان، فإنّ النتيجة المستخلصة هي أن المرأة قد تكون أضعف من الرجل في مقام الحفظ، و ليس في مقام الاستعداد و قوّة الاجتهاد.

في المقابل، فإنّ المرجعية و استنباط الأحكام لا يتوقّف على قوّة الذاكرة، بل يتطلّب الاستعداد الفكري، و الدقة، و القدرة على التحليل، و العمق العلمي.

و في رأينا، إنّ معيار الاجتهاد و المرجعيّة هو قوّة الاستنباط و الاستعداد و ليس الذاكرة. فالعديد من الفقهاء العظام كانت ذاكرتهم متوسطةً، و لكنّهم كانوا يتمتعون باستعداد فكري فائق. الإمام الخميني (قدس سره) هو من جملة أولئك الذين امتلكوا استعداداً فائقاً، على الرغم من أنّ ذاكرته لم تكن بقوّة ذاكرة بعض العلماء الآخرين.

لذلك، فإنّ ضعف الذاكرة، حتّى لو قُبِلَ، لا يشكّل مانعاً من الاجتهاد و المرجعية، لا سيّما في الوقت الحاضر حيث أصبحت الأدوات العلمية و البرمجية مساعدة و متاحة، و حيث أعطَت الذاكرة الفيزيائية مکانه لقوّة التحليل و الاستنباط.

دراسة عقلیّة و تجربیّة

مضافاً إلی أنّه لا يمكن القول إطلاقاً في الواقع الخارجي بأنّ ذاكرة النساء أضعف من ذاكرة الرجال؛ بل النساء يتمتّعن في بعض الأمور بذاكرة أدقّ و أكثر تفصيلاً، لا سيما في الأمور الجزئية و الدقيقة، فإنّ العديد من النساء أدق من الرجال. و عليه إنّ الاستدلال بهذه الآية لنفي مرجعيّة النساء ليس استدلالاً تامّاً.

التلازم أو عدم التلازم بين الشهادة و المرجعية

هنا يُطرح هذا السؤال: هل يوجد تلازم بين النقص في مسألة شهادة النساء و عدم جواز مرجعيّتهنّ أم لا؟

بعبارة أخرى: إذا كانت النساء ينقصهن بشيء في باب الشهادة، فهل يمكن القول بطريق الأولى بأنّ مثل هذا النقصان یوجد في مقام المرجعية، و بالتالي لا يمكن أن يكنّ مراجع تقليد؟ سلك العديد من الفقهاء المعارضين لمرجعية النساء هذا المسار و قالوا: «حين لا تستطيع المرأة أن تكون شاهدةً أو كانت شهادتها نصف شهادة الرجل، فبالأولى لا يمكن أن تكون قاضيةً أو مرجع تقليد». غير أن هذا القياس، كما سنرى، غير صحيح في نظر بعض الأعلام و منهم الشهيد مطهري.

رأي الشهيد المطهري حول عدم تلازم الشهادة و المرجعية

يصرح الشهيد مطهري (رحمه‌الله) بأنّه لا يوجد أيّ تلازم بين الشهادة و المرجعية. و يقول: إنّ فلسفة الآيات المتعلّقة بشهادة النساء و قضائهن ليست بياناً لنقص ذاتي أو قصور عقلي فيهن، بل هي بيان لدورهن و موقعهنّ الاجتماعي و الأسري. و القرآن الكريم يسعى لإبعاد النساء عن ميدان النزاع و الجدال و المشاحنات الاجتماعية؛ لأنّ شأن المرأة و وقارها يقتضي ألا تحضر مثل هذه المعارك.

توضیح الکلام

في الدعاوى المالية و النزاعات الجسدية و المشاجرات، تكون الأجواء عادةً متوتّرةً. و قد يصل الاشتباك أحياناً إلى الشتم أو الضرب و الجرح أو السلوكيات غير اللائقة. و بتعبير الشهيد مطهري، لا يريد القرآن أن تحضر المرأة في مثل هذه الأجواء و تشاهد السلوكيات العنيفة و غير الملائمة لتتمكن لاحقاً من الشهادة.

و يضرب (الشهید المطهري) مثالاً لتقريب المعنى، فيقول: كما تُربّي النساء في البيئات الهادئة و المنزلية و ينفرن من مشاهد العنف أو الأصوات العالية، فإنّ حضورهن في ساحة النزاع لا يتناسب مع شأنهن. و حتى لو كانت المرأة من عائلة قرویّة تعيش حياةً شاقّةً و لا تخشى هذه الأمور، فإنّ شأن المرأة يقتضي ألا تحضر في هذه الميادين. لذا، فالمقصود من الآية ليس أنّ النساء يعانين من نقص عقلي، بل هو ألّا يتعرضن لمثل هذه الأجواء. و عندما نصّ القرآن على أنّ شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، فهو في الحقيقة يريد أن يحفظ المرأة من الصراعات الاجتماعية، لا أن ينفي مكانتها العلمية أو الإدراكية.

ويتابع الشهيد مطهري قوله:

نعم، في باب القضاء أيضاً لا يمكن للنساء تولي هذا المنصب، لكن السبب هو لزوم المعاشرة المباشرة مع الرجال و الحضور في المجامع العامة، و ليس ضعفاً علمياً أو عقلياً. فالقاضي يجب أن يجلس في محضر الناس، و يحاور المدعي و المدعى عليه، و يستمع لشهادة الشهود و يسألهم، و قد ينظر إلى وجوههم لتقييم صدق أقوالهم. مثل هذا العمل يقتضي معاشرة مباشرة و حواراً مستمراً مع الرجال، و لهذا وضع الشارع المقدس هذه المسؤولية على عاتق الرجال للحفاظ على حريم العفة و شخصيّة المرأة.

ببیان آخر: منع المرأة من القضاء هو من باب حفظ حريم العفة، و ليس من باب نقص الفهم أو ضعف العقل. أمّا فيما يخصّ المرجعية و الاجتهاد، فإنّه لا يلزم أي من هذين الأمرين. تستطيع المرأة أن تجلس في بيتها، و تتفرغ للدراسة و البحث في الآيات و الروايات و تستنبط الأحكام و تكتب رسالتها الفقهية. هذا العمل لا يحتاج إلى معاشرة الرجال و لا إلى الحضور في المجامع العامّة.

النموذج التاريخي: السيدة المجتهدة أمين الأصفهاني

إن السيدة المجتهدة أمين الأصفهاني هي مثال واضح لهذه الحقيقة. كانت هي مشغولةً في بيتها بالتدريس و البحث و التأليف، و أنتجت أعمالاً علميّةً عديدةً منها تفسير «مخزن العرفان»، دون أن تتعرّض للاختلاط أو لتولّي مناصب اجتماعية خاصّة بالرجال. و هذا بحد ذاته دليل على أنّ الاجتهاد و المرجعية الكامنة لدى النساء لا تستلزم بالضرورة القيام بالأمور الرجالية.

ردّ قياس «الشهادة ← القضاء ← المرجعية»

لا يصح في نظرنا القياس المشهور لبعض الفقهاء الذي يقول: «المرأة لمـّا كانت ناقصةً في الشهادة، فهي ناقصة في القضاء، و لما كانت ناقصةً في القضاء، فهي كذلك في المرجعيّة؛ لأنّ كل من هذه المناصب له موضوع و معيار مختلف:

    1. الشهادة تتعلق بالحضور في ساحة النزاع ومشاهدة الوقائع.

    2. القضاء يتوقف على المعاشرة والمحاورة مع أطراف الدعوى.

    3. المرجعية تختص باستنباط الأحكام الشرعية في البيئة العلمية و الفكرية.

لذا، لا يوجد تلازم بينها. و قد صرّح الشهيد مطهري بأن آية الشهادة لا تدل بأي شكل على منع مرجعية النساء.

المواضع التي تقبل فیها شهادة المرأة:

نقطة أخرى هي أنّه في العديد من الحالات، لا تكون شهادة النساء معتبرةً فحسب، بل تُعدل بشهادة الرجال أيضاً. منها:

    1. الشهادة على الولادة: في حالات مثل کون المرأة قابلةً و إثبات ولادة الطفل، تُقبل شهادة النساء.

    2. الشهادة في أحكام العدّة و الحيض: في هذه الأمور أيضاً، يكون القول و شهادة النساء معتبراً؛ لأنهن أعلم بهذه الأمور بأنفسهن.

بناءً على ذلك، فإنّ شهادة النساء قد قیّدت فقط في الدعاوى العنيفة و المنازعات، و هذا القيد ليس بسبب نقصان في العقل، بل حفاظاً لهنّ من المعارك الاجتماعية القبیحة.

حاصل النقاش:

خلاصةُ كلامِ الشهيدِ المطهري و بعضِ العلماءِ الآخرين هي ما يلي:

• لا دليلَ قرآنيّاً و لا عقليّاً على نفيِ مرجعيّةِ النساء.

• النقصانُ في الشهادةِ أو القضاءِ لا يستلزمُ نفيَ المرجعيّة.

• الاجتهادُ و المرجعيّةُ أمرانِ علميّان، لا اجتماعيّانِ و لا جنسيّان.

• إذا بلغتِ المرأةُ مرتبةَ الاجتهاد، جازَ لها شرعاً أن تعملَ بفتاواها، بل إنّ إجماعَ الفقهاءِ قائمٌ على أنّ المجتهدَ يجبُ أن يعملَ برأيه، سواءٌ أكانَ رجلاً أم امرأةً.

قال الشهيدُ المطهري:

«إذا كانتِ المرأةُ أعلمَ، وجبَ التقلیدُ منها، لأنّ الملاكَ في التقلید هو الأعلميّة، لا الجنس، ولا فرقَ بينَ الرجلِ والمرأةِ في مقامِ العلمِ والاستدلال.»

برأینا أیضاً إنّ هذا القولَ صحيحٌ تماماً؛ لأنّ المرجعيّةَ شأنٌ علميّ، و مناطُها الاجتهادُ و الأعلميّة، لا الذكورةُ أو الأنوثة.


logo