46/08/19
بسم الله الرحمن الرحیم
لزوم تدارك انخفاض القیمة/التضخّم و انخفاض قیمة النقد /فقه النقد
الموضوع: فقه النقد/التضخّم و انخفاض قیمة النقد /لزوم تدارك انخفاض القیمة
خلاصة الجلسة السابقة: کان الکلام في فقه المعاصر حول تدارك انخفاض قیمة النقد. و من الضروريّ دراسة الروایات المستند إلیها في هذا الصدد. و قد أصبح هذا البحث بحثاً تفصیلیّاً؛ لأنّ بعض العلماء قد اعتبر هذه الروایات متعارضةً بعضها مع بعض. کما أنّ الشیخ الطوسيّ و الشیخ الصدوق و آیةالله الفاضل اللنکرانيّ و الإمام الخمینيّ (رحمهم الله) و فریق من العلماء قد قدّموا في هذه الأرضیّة آراءَ جدیرةً بالبحث و الدراسة.
ما هو بیان الإمام الخمینيّ و آیة الله الخوئيّ و الشیخ الصدوق و الشیخ الطوسيّ في هذه الأرضیّة؟ هناك مطالب مختلفة قد طُرحت و هي بحاجة إلی التحلیل و الدراسة. بما أنّکم أیّها الأعزّاء قد بلغتم مستوی عالیاً من العلم فإذن تقدرون فهم آراء کبار العلماء و علیکم بعد مطالعة هذه الآراء بالمقارنة و التطبیق لهذه الآراء و تحدید أنّ أيّ رأي من هذه الآراء أکثر طباقاً مع المباني الفقهیّة و الأصولیّة؟
من الأصول المؤکّدة في هذا البحث، قاعدة «الجمع مهما أمکن أولی من الطرح»؛ أي في تعارض الروایات علینا أن نبدأ بمحاولة الجمع بینها ثمّ نقوم بتطبیق قواعد التعارض و الترجیح في حال عدم إمکان الجمع. بناءاً علی ذلك یجب علینا تدقیق الدراسة في الروایتین أو الروایات الثلاث المطروحة في هذا الصدد ثمّ نذکر أسالیب الجمع بینها حتّی یتبیّن لکم الرأي الذي تأخذونه و ما دلائلکم في قبول الآراء المختلفة و رفضها؟
و لنقم بدراسة الروایات مرّةً أخری لزیادة وضوح البحث أکثر، رغم أن قد قمنا بقراءة الروایات و دراستها في البحث السابق و بما أننّا قصدنا التأمّل في الجزئیّات أکثر فلا بدّ لنا من طرحها من جدید.
الروایة الأولی: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ[1] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى[2] عَنْ يُونُسَ[3] قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا علیه السلام أَنَّ لِي عَلَى رَجُلٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَ كَانَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ تَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ تِلْكَ الْأَيَّامَ وَ لَيْسَتْ تَنْفُقُ الْيَوْمَ فَلِي عَلَيْهِ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ بِأَعْيَانِهَا أَوْ مَا يَنْفُقُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيَّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا أَعْطَيْتَهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ».[4]
هنا یطرح هذا السؤال و هو: ما هو مفهوم هذه العبارة «عَلَى رَجُلٍ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ»؟ هل یکون المراد أنّي قد أقرضت هذا المبلغ و أنا دائن الآن؟ أو أنّ هذا المبلغ هو ثمن شيء في ذمّة المدین نتیجة معاملة مثل بیع البیت أو السلع الأخری؟ ظاهر هذه العبارة یشمل کلا الاحتمالین.
قال بعض العلماء إنّ هناك فرقاً بين القرض و ثمن المعاملة؛ فإذا افترضنا أنّ هذا الطلب ناتج عن قرض، فإنّه في حالة زيادة المبلغ المدفوع، يُثار احتمال الربا. أمّا إذا كان هذا المبلغ ثمناً للمعاملة، فلن تنشأ مثل هذه المشكلة. لذلك، فإنّ ظاهر العبارة يشير إلى أنّ الشخص المذكور مدين بهذا المبلغ لأيّ سبب كان.
ثمّ في استمرار الرواية، يذكر يونس أنّه كان هناك في وقت وقوع المعاملة أو القرض، نوع خاصّ من الدراهم المتداولة و المستخدمة و لكن تلك الدراهم قد خرجت عن التداول في وقت المطالبة،. و لذلك يسأل قائلاً: «هل يجب أن أطالب بنفس الدراهم السابقة أم الدراهم التي هي متداولة اليوم بين الناس؟» فیجب الإمام الرضا (عليه السلام) قائلاً: «لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَنْفُقُ بَيْنَ النَّاسِ»، أي أنّ لك الحقّ في مطالبة الدراهم التي هي متداولة بين الناس الآن. تقول هذه الرواية بالصراحة: يجب دفع الدين بالدراهم المتداولة في وقت أداء الدين، لا بتلك التي كانت مستخدمةً في الماضي و لكنّها الآن قد سقطت قيمتها عن الاعتبار.
روایت دوم: «محمد بن الحسن الصفار[5] عن محمد بن عيسى[6] عن يونس[7] قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليهالسلام إنه كان لي على رجل دراهم وإن السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أغلى من تلك الدراهم الأولى ولها اليوم وضيعة فأي شئ لي عليه الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: الدراهم الأولى».[8]
قد سأل یونس نفسُه في هذه الروایة عن الإمام الرضا (علیه السلام) و قال إنّ لي علی الآخر مبلغاً. لکن في هذه الروایة هناك فرق مهمّ: في هذه الحالة قام السلطان بإسقاط نوع معیّن من الدراهم و أحلّ محلّه نوعاً جديداً يعاني من نقص.
ثمّ سأل یونس: «أيّ شيء لي عليه الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟» أجاب الإمام (علیهالسلام): «الدَّرَاهِمِ الْأُولَى»؛ أي علی المدین أن یدفع الدارهم التي في ذمّته من قبل.
یبدو أنّ هاتین الروایتین متعارضتان في الظاهر؛ لأنّ الإمام الرضا (علیه السلام) قد أوصی بدفع الدین بالنقد الرائج عند أداءه في الروایة الأولی، بینما قد أمر في الروایة الثانیة بدفع نفس المبلغ الذي تمّ تسجیل الدین به بدایةً.
قد حاول علماؤنا هنا لرفع التعارض بین هاتین الروایتین و الجمع بینهما.
الجمع الأوّل:
قد قدّم بعض العلماء منهم الشیخ الطوسيّ طریقاً للحلّ و هو عبارة عن تقدیر کلمة «قیمة» في الروایة الثانیة؛ بمعنی أنّ مقصود الإمام (علیه السلام) من «الدراهم الأولی» دفع قیمتها بالسعر المتداول الرائج عند أداء الدین.
قال الشیخ الطوسي (رحمه الله): «فلا ينافي الخبرين الأوّلين لأنّه إنّما قال لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس يعني بقيمة الدراهم الأولى ما ينفق بين الناس لأنّه يجوز أن تسقط الدراهم الأولى حتّى لا يكاد تؤخذ أصلاً فلا يلزمه أخذها و هو لا ينتفع بها، و إنمّا له قيمة دراهمه الأوّلة و ليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال».[9]
بناءاً علی هذا الرأي یقول الشیخ الطوسيّ (رحمه الله): «فَکَتَبَ علَیْهِ السَّلَامُ: قِیمَةُ الدَّرَاهِمِ الْأُولَى»؛ أي قصد الإمام (علیه السلام) هو أنّه یجب دفع قیمة الدراهم السابقة بالدراهم الجدیدة.
قد أخذ المحقّق النائينيّ أيضاً في «منية الطالب» بهذا الرأي و اعتقد بأنّ دفع الدين يجب أن يکون بالنقد الرائج عند الأداء و لکن بقيمة نفس المبلغ من النقد السابق.
قال المحقّق النائینيّ (رحمه الله): «فالصّواب أن يجعل الطّائفتين من قبيل الإطلاق و التّقييد فإنّ قوله علیه السلام الدّراهم الأولى مطلق من حيث ضمّ تفاوت السكّة و عدمه إليها و قوله علیه السلام لك أن تأخذ منه ما ينفق بين النّاس مقيّد له أي تأخذ الدّراهم الأولى بقيمة ما ينفق».[10]
في المقابل، لم يقبل صاحب الحدائق هذا التأويل و ذكر أنّه لا يوجد أيّ دليل على تقدير كلمة «قيمة» في الحديث الثاني. لذلك فلا يمكن من وجهة نظره الجمع بین هذين الحديثين معاً و يجب تفضيل أحدهما على الآخر.
قال صاحب الحدائق: «و لا يخلو من بعد، لعدم قرينة يونسه بهذا المضاف الذي قدّره في الكلام، بل السياق ظاهر في أنّ الجواب وقع على حسب السؤال المتعلّق بعين كلّ من النقد الأوّل أو الثاني، و إن أجيب في الخبر الأوّل بالنقد الثاني، و في الأخيرين بالنقد الأوّل».[11]
برأینا إنّ هذا الإشکال وارد؛ نعم إنّ مرأی دفع القیمة صحیح و لکنّ التقدیر لا قرینة علیه.
الجمع الثاني:
من الطرق الأخرى لجمع هذين الحديثين، الرأي الذي قدّمه الشيخ الصدوق (رحمه الله). فهو يرى أنّه يجب أن نلاحظ هل كان معيار الحساب عند إجراء المعاملة هو العملات المتداولة أم القيمة الجوهريّة للذهب و الفضة؟ بمعنى أنّه إذا كان الدرهم الرائج هو المعیار، فيجب دفع نفس ذاك الدرهم الرائج عند أداء الدین. أمّا إذا كان المعيار هو القيمة الجوهريّة للذهب و الفضّة، فيجب أن یحاسب وفقاً لوزنهما.
«وَ الْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فَمَتَى كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمُ بِنَقْدٍ مَعْرُوفٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِكَ النَّقْدُ وَ مَتَى كَانَ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمُ بِوَزْنٍ مَعْلُومٍ بِغَيْرِ نَقْدٍ مَعْرُوفٍ فَإِنَّمَا لَهُ الدَّرَاهِمُ الَّتِي تَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ».[12]
علی هذا الأساس، یقول الشیخ الصدوق (رحمه الله): قد یکون المعیار في المعاملات، النقد الرائج و یُدفع الدیون طبقاً له. في هذه الحالة یدفع هذا النوع من النقد الرائج. لکن في بعض الموارد، المعیار هو القیمة الذاتیّة للذهب و الفضّة؛ أي طرفا المعاملة قد جعلا المناطَ هي الأوزان الدقیقة للمعادنِ الثمینة. في هذه الحالة یجب أن یحاسب الدفع وفقاً لنفس الوزن و القیمة.
ثمّ إنّ الشیخ الصدوق (رحمه الله) یقول في نتیجة البحث: لا تعارض بین هاتین الروایتین بل کلّ منهما یشیر إلی ظروف مختلفة:
• في الروایة التي أمر الإمام الرضا (علیه السلام) بدفع الدرهم الرائج، کان الترکیز علی النقد الرائج في ذلك الوقت.
• في الروایة التي قد أُمر فیها بدفع «الدراهم الأولی»، کان الترکیز علی الوزن و القیمة الذاتیّة للدراهم.
إشکال صاحب الحدائق علی هذا المرأی:
أمّا صاحب الحدائق فلم يقبل تفسير الشيخ الصدوق و أشار إلى اعتراضين أساسيّين عليه:
۱. مخالفة تفسیره للظاهر.
يرى صاحب الحدائق أنّه لا يوجد أيّ قرينة في نصوص هذه الروايات تدلّ على التفريق بين رأي قائم على النقد المتداول و آخر قائم على الوزن. بعبارة أخری یری أنّ هذا التفريق و التصنيف من قبل الشيخ الصدوق غير مُستند إلى دليل قطعيّ و لا يوجد مثل هذا التفريق في نصّ الرواية. و لذلك فاستخدام هذا المعيار یعدّ تأويلاً غير معتبر للرواية.
۲. إثارة شبهة الربا في حالة اختلاف الوزن.
الاعتراض الآخر لصاحب الحدائق هو أنّه إذا حدث اختلاف في الوزن عند أداء الدين، قد يُثار الشكّ في حدوث الربا. لأنّه في الحالات التي يكون المعيار فيها هو وزن الذهب و الفضّة، فإنّ التغيير في مقدارها عند الوفاء بالدين قد يؤدّي إلى زيادة أو نقص في القيمة المدفوعة، ممّا يثير إشكالاً فقهيّاً.
«و أمّا ما جمع به الصدوق فأبعد، لعدم القرينة المونسة بهذا التفصيل في شيء من اخبار المسألة، مع أنّه يرد عليه لزوم الربا في صورة ما إن كان له عليه بوزن معلوم و نقد غير معروف، فإنّه حكم بأخذ الدراهم التي تجوز بين الناس. و ربّما أمكن التفاوت بالزيادة و النقصان بينها و بين ما في ذمّته، فإنّه متى كان له في ذمّته ألف درهم بوزن معلوم من تلك الدراهم الأوّلة و أخذ عوضها ألف درهم من هذه الأخيرة فربما حصل الزيادة و النقصان بين الأولى و الثانية، فيلزم الربا إلّا أن يحمل كلامه على أخذ الثانية وزناً أيضاً، لكنّه خلاف ظاهر كلامه».[13]
برأینا إنّ اعتراض صاحب الحدائق هنا وارد أیضاً.