40/07/03
البداء في التكوين
موضوع: البداء في التكوين
البداء في التكوين[1]
البداء في اللغة بمعنى الظهور بعد الخفاء، والبداء في الاصطلاح بمعنى الإظهار بعد الإخفاء، فلو قدر الله تبارك وتعالى أن يعيش فلان ثلاثين سنة إذا لم يتصدق ووافق أنه قد تصدق في سن الثلاثين ففي هذه الحالة قد يصبح عمره خمسة وثلاثين سنة ببركة الصدقة أو ببركة بر الوالدين.
فلو اخبر الله تبارك وتعالى ملائكته أو احد أنبيائه أن فلان سيعيش ثلاثين سنة ولم يظهر له أن فلان سيتصدق في سن الثلاثين وسيتغير عمره إلى سن 35 سنة في هذه الحالة يصدق عنوان البداء اصطلاحا وهو الإظهار بعد الإخفاء أي أن الله تبارك وتعالى أخفا على أحد أنبيائه أو على ملائكته أن مشيئته اقتضت أن يعيش فلان 35 سنة لأنه سيتصدق.
وأما لو قلنا إن الله "عز وجل" قد خفي عليه أن فلان سيتصدق وفي سن الثلاثين قد اتضح له وظهر له أن فلان قد تصدق فهذا المعنى اللغوي وهو الظهور بعد الخفاء يلزم منه نسبة الجهل إلى الله تبارك وتعالى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا إذن البداء في اللغة لا يصدق على الله تبارك وتعالى لأنه يلزم نسبة الجهل إلى الله إذا حملنا البداء عنده بمعنى الظهور بعد الخفاء وأما الإظهار بعد الإخفاء وهو المعنى الاصطلاحي فهو مما تعتقده الإمامية في قضاء الله وقدره.
إذن
أولا البداء يكون في عالم الخلق والتكوين بخلاف النسخ الذي يكون في عالم الحكم والتشريع.
ثانيا البداء عبارة عن انتهاء أمد الشيء في عالم التكوين بينما النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم في عالم التشريع.
يقول السيد الخوئي "رحمه الله": إن بحث البداء ليس من مباحث علوم القرآن وإنما هو من مبادئ ومباحث علم الكلام والعقائد ولكن بمناسبة الحديث عن النسخ في الأحكام وبمناسبة أن النسخ كالبداء.
إذ هما يلتقيان في عنوان انتهاء أمد الشيء غاية ما في الأمر انتهاء أمد الشيء في التشريع يقال له نسخ وانتهاء أمد الشيء في التكوين يقال له بداء فبمناسبة الحديث عن النسخ في عالم التشريع وأن النسخ كالبداء وهو في أفق التكوين.
وقد انتهينا من بحث النسخ شرع السيد الخوئي في بحث البداء في التكوين وتوجد مناسبة أخرى لهذا البحث وهو خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين وأنهم نسبوا إلى الشيعة الإمامية ما هم براء منه إذ حملوا عقيدة الشيعة الإمامية في البداء على البداء بالمعنى اللغوي وهو الظهور بعد الخفاء وهو يلزم منه نسبة الجهل إلى الله ولم يحسنوا الفهم ولم يحسنوا في النقد إذ لم يدركوا أن البداء في عقائد الشيعة الإمامية يراد به البداء بالمعنى الاصطلاحي وهو الإظهار بعد الإخفاء.
ثم يقول السيد الخوئي "رحمه الله" وليتهم إذ لم يعرفوا تثبتوا أو توقفوا كما تفرضه الأمانة في النقل وكما تقتضيه الحيطة في الحكم والورع في دين الله.
الفخر الرازي كما جاء في التعليقة رقم 9 للسيد الخوئي صفحة 521 من الذين لم يتثبتوا ولم يتوقفوا في تفسير قوله تعالى ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت﴾ قال قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده[2] انتهى كلامه.
وهذا واضح في أنه حمل البداء على المعنى اللغوي أي الظهور بعد الخفاء ولم يفهم أن المراد بالبداء في عقائد الشيعة الإمامية هو المعنى الاصطلاحي وهو الإظهار بعد الإخفاء.
فيعلق السيد الخوئي يقول سبحانك اللهم إن هذا إلا اختلاق وقد حكا الرازي في خاتمة كتاب المحصل عن سليمان بن جرير كلاما يقبح منه ذكره ولا يحسن مني سطره، انتهى كلام السيد الخوئي زيد في علو مقامه.
تمهيد
خلاصة هذا التمهيد في نقطتين:
النقطة الأولى العالم باجمعه تحت سلطان الله "عز وجل".
النقطة الثانية كيف يكون هذا العالم تحت سلطان الله؟ الجواب من خلال هيمنته بعلمه فجميع الأشياء لها تعين علمي في علم الله "عز وجل" وهذا التعين العلمي يقال له تقدير الله، قضاء الله.
وهنا نقطتان:
النقطة الأولى تقدير الله "عز وجل" بالأشياء منذ الأزل لا يزاحم ولا ينافي قدرة الله على الأشياء حين إيجادها.
النقطة الثانية علم الله "عز وجل" يتعلق بالأشياء المعلقة على مشيئته فهذا الرجل الثلاثيني إذا شاء الله أن يتصدق يكون قد شاء أن يعيش 35 سنة وإذا لم يشأ أن يتصدق يكون لم يشأ أن يعيش أكثر من 30 سنة.
وهناك بحث فلسفي كلامي
خلاصته: إن الممكن في وجوده وبقائه يحتاج إلى العلة التامة وهي إرادة الله تبارك وتعالى.
توضيح ذلك
إن الممكن هو ما تساوى فيه طرفا الوجود والعدم فيحتاج إلى علة تخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود يحتاج إلى علة ترجح كفة الوجود على كفة العدم هذا الممكن الذي يحتاج إلى علة.
ترجح كفة الوجود على كفة العدم يحتاجها من خلال حيثيتين:
الحيثية الأولى حيثية الحدوث والابتداء.
الحيثية الثانية حيثية البقاء والاستمرار، فكما أن النار علة للاحتراق وهذه العلة النار للمعلول الاحتراق يحتاجها الاحتراق أولا في حدوث الاحتراق وثانيا في بقاء واستمرار الاحتراق فإذا عدمت النار فإن الاحتراق ينعدم لا محاله.
كذلك وجود الممكنات الممكن يحتاج إلى العلة المحدثة والعلة المبقية، سائر الممكنات والمخلوقات تحتاج إلى الله أولا في إيجادها وإحداثها وثانيا في بقائها واستمرارها هذا الاستمرار هذا البقاء معلق ومتوقف على مشيئة الله تبارك وتعالى وهذا ما ندرسه في بحث القضاء والقدر فالله "عز وجل" أوجد الإنسان وخلقه فهو العلة المحدثة للإنسان لكن الإنسان يحتاج في بقائه ثلاثين سنة أو خمسة وثلاثين سنة أو ستين سنة إلى الله تبارك وتعالى أيضا وإلى مشيئة الله تبارك وتعالى أيضا وهذا ما يبحث في بحث القضاء والقدر ويقال شاء الله أن يبقى فلان وأن يعيش سبعين سنة أو تعلقت إرادة الله بأن يعيش فلان ثمانين سنة، إذن التمهيد هكذا كما يقول السيد الخوئي لا ريب في أن العالم باجمعه تحت سلطان الله وقدرته وأن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى فإن شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده هذا الكلام ناظر إلى العلة المحدثة يعني الممكنات في إحداثها وفي ابتداء وجودها تحتاج إلى الله لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك، لبيك ذا المعارج لبيك، لبيك تستغني ويفتقر إليك لبيك.
الممكنات عنوانها الفقر الذاتي يعني ذاتا هي فقيرة لذلك يقول السيد الشهداء في دعاء عرفة:
(إلهي، أنَا الفَقيرُ في غِنايَ، فَكَيفَ لا أكونُ فَقيرا في فَقري؟ إلهي، أنَا الجاهِلُ في عِلمي، فَكَيفَ لا أكونُ جَهولًا في جَهلي؟إلهي، مِنّي ما يَليقُ بِلُؤمي، و مِنكَ ما يَليقُ بِكَرَمِكَ)[3]
ولا ريب أيضا في أن علم الله "عز وجل" قد تعلق بالأشياء كلها منذ الأزل والقدم وأن الأشياء باجمعها لها تعين وثبوت علمي في علم الله الأزلي وهذا التعين يعبر عنه بتقدير الله تارة وبقضاء الله تارة أخرى ولكن تقدير الله وعلمه سبحانه بالأشياء منذ الأزل لا ينافي ولا يزاحم قدرته تعالى على الأشياء حين إيجادها فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة الله لا يزال هنا ناظرة إلى العلة المبقية إلى حيثية الاستمرار، العبارة في بداية التمهيد وإن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى هذا ناظر إلى حيثية الابتداء والحدوث، قول السيد الخوئي "رحمه الله" فإن الممكن لا يزال منوطا بتعلق مشيئة الله بوجوده التي قد يعبر عنها بالاختيار وقد يعبر عنها بالإرادة هنا يشير إلى حيثية الاستمرار والبقاء فبقاء الممكن واستمراره منوط بمشيئة الله أيضا.
والعلم الإلهي يتعلق بالأشياء من ناحية حدوثها ومن ناحية بقائها واستمرارها فالعلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها الذي أنيط بمشيئة الله تعالى لأن انكشاف الشيء لا يزيد عن واقع الشيء فإذا كان واقع الشيء منوطا ومعلقا على إرادة الله ومشيئة الله كان العلم بالشيء متعلقا بالشيء على هذه الحالة يعني الشيء المتوقف على مشيئة الله والمنوط بمشيئة الله "عز وجل" وإلا لم يكن العلم به بالشيء على وجهه وواقعه وهو تعلق الشيء بمشيئة الله "عز وجل" وانكشافا له أي للشيء على واقعه فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها أن الأشياء جميعها كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي يعني فلان إن تصدق يزاد في عمره 35 سنة إن زنا والعياذ بالله ينقص من عمره 3 سنوات.
موقف اليهود من قدرة الله
ذهبت اليهود إلى أن قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحالة أن تتعلق المشيئة بخلافه يعني يوجد قضاء واحد ثابت لا يتغير ولأن القضاء لا يتغير قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والعطاء يعني تقدير الله لا يتغير فقد جرى على الأشياء قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير ومن الغريب أنهم ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾[4] التزموا عن سلب القدرة عن الله ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد مع إن الملاك في كلتا القدرتين واحد فإن العلم الأزلي كما تعلق بأفعال الله تعالى أيضا تعلق بأفعال العبيد على حد سواء.
موقع البداء عند الشيعة
يوجد لوحان كما في الروايات والآيات:
اللوح الأول هو اللوح المحفوظ وهو يشير إلى القضاء المحتوم الذي لا يتغير
اللوح الثاني لوح المحو والإثبات وهو يشير إلى القضاء المخروم أي القضاء الموقوف على مشيئة الله تبارك وتعالى، إن شاء تحقق وإن لم يشأ لم يتحقق.
والبداء إنما يحصل في القضاء المخروم فالقضاء الموقوف على مشيئة الله ولا يحصل البداء في القضاء المحتوم.
إذن البداء التي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم يعني القضاء المخروم أو القضاء الموقوف أو لوح المحو والإثبات المستفاد من قوله "عز وجل" ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾[5] .
وأما اللوح المحفوظ يشير إلى أم الكتاب أو الآية التي تقول في لوح محفوظ فالقضاء المحتوم لا يتخلف ولابد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء، توضيح ذلك في بيان أقسام القضاء الإلهي توجد أقسام ثلاثة دلت عليها الروايات:
قضاء الالهي ثلاثة:
القسم الأول القضاء المخزون.
القسم الثاني القضاء المحتوم.
القسم الثالث القضاء المخروم.
قضاء إما مخزون وإما محتوم وإما مخروم.
القضاء المخروم يشير إلى لوح المحو والإثبات
القضاء المحتوم يشير إلى لوح المحفوظ
القضاء المخزون يشير إلى القضاء المكنون المخزون في علم الله الذي لم يطلع عليه أحدا غيره لا من ملائكته ولا من رسله.
إذن الأقسام الثلاثة كما يلي:
القسم الأول القضاء المخزون وهو القضاء الذي لم يطلع رب العالمين عليه أحدا من خلقه والعلم المخزون قد استأثر به لنفسه ولم يطلع عليه أحدا من ملائكته أو رسله والبداء ينشأ من هذا العلم يعني في علم الله المخزون معلوم أن هذا الشاب سيتصدق ويعيش خمس سنوات أكثر أو يزني ويعيش ثلاث سنوات أنقص، هذا موجود في العلم المخزون في القضاء المكنون فيكون القضاء المكنون هو سبب البداء يعني موجود في علم الله منذ الأزل هذا ماذا سيختار هذا العبد ولكن لم يطلع عليه أحدا من ملائكته ورسله وبالتالي لا ريب في أن البداء لا يطال القضاء الأول.
القسم الثاني القضاء المحتوم المعبر عنه باللوح المحفوظ وهو قضاء الله "عز وجل" الذي اخبر به أنبيائه وملائكته بأنه سيقع حتما ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا تناله يد البداء لكنه ليس سببا للبداء إذن يوجد شيء مشترك بين الأول والثاني ويوجد افتراق، الشيء المشترك القسم الأول والقسم الثاني ليس فيهما بداء الفارق القضاء الأول هو سبب البداء والقضاء الثاني ليس سببا للبداء.
قسم الثالث القضاء الموقوف أو القضاء المخروم المعبر عنه بلوح المحو والإثبات وهو قضاء الله "عز وجل" الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج لكن لا على نحو الحتم إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء.
الخلاصة
عندنا ثلاثة أقسام للبداء
القسم الأول والثاني لا يقع فيهما البداء وهما القضاء المخزون والقضاء المحتوم بخلاف قسم الثالث
القسم الثالث فإنه يقع فيه البداء وهو القضاء المخروم.
والفارق بين الأول والثاني أن القضاء الأول وهو المخزون سبب للبداء بينما القضاء الثاني وهو القضاء المحتوم ليس سببا للبداء.
أقسام القضاء الإلهي
القسم الأول القضاء المخزون يشير إلى علم الله المكنون قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت أن البداء إنما ينشأ من هذا العلم يعني الإظهار بعد الإخفاء يعني إظهار ما أخفي من علم الله المكنون والمخزون.
روى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا بإسناده عن الحسن بن محمد النوفلي أن الرضا "عليه السلام" قال لسليمان المروزي رويت عن أبي الإمام الكاظم عن أبي عبد الله الصادق "عليه السلام" (إن لله "عز وجل" علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء وعلما علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه)[6] .
وروى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في كتاب بصائر الدرجات بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله "عليه السلام" قال (إن لله علمين علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء وعلم علمه ملائكته ورسوله وأنبيائه ونحن نعلمه)[7] .
القسم الثاني القضاء المحتوم الذي يشير إلى اللوح المحفوظ وهو قضاء الله الذي اخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما يعني على نحو الحتم والقطع ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء وإن افترق عن القسم الأول قضاء المخزون بأن البداء لا ينشأ منه من القسم الثاني القضاء المحتوم وإنما ينشأ من القسم الأول القضاء المكنون.
قال الرضا "عليه السلام" لسليمان المروزي في الرواية المتقدمة عن الصدوق مروية في عيون أخبار الرضا إن علي "عليه السلام" كان يقول العلم علمان فعلم علمه الله ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء[8] إذن في العلم المخزون موجود أن الله شاء كذا ولم يشأ كذا فمرجع المحو والإثبات إلى ما هو مكنون ومخزون في علم الله "عز وجل".
وروى العياشي عن الفضيل قال سمعت أبا جعفر "عليه السلام" يقول من الأمور أمور محتومة جائية لا محاله ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة يعني القضاء الموقوف أحيانا رب العالمين لا يطلع عليه أحدا فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته[9] يعني من القضاء المحتوم.
القسم الثالث القضاء الموقوف أو المخروم يشير إلى لوح المحو والإثبات قضاء الله الذي اخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾[10] ، ﴿لله الأمر من قبل ومن بعد﴾[11] وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه الروايات، أذكر خمس روايات:
الرواية الأولى ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله "عليه السلام" قال إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتب إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثم أثبت الذي أراده قلت وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب قال نعم فأي شيء يكون بعده قال سبحان الله ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى[12] .
الرواية الثانية ما في تفسير علي بن إبراهيم أيضا عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن "عليهم السلام" يعني الإمام الباقر والصادق والكاظم في تفسير قوله تعالى (﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنة وله فيه البداء والمشيئة يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء[13] ).
الرواية الثالثة ما في كتاب الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين "عليه السلام" أن قال (لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية ﴿يمحو الله﴾)[14] يعني أنا مطلع على التقدير لكن التقدير الذي هو في لوح المحو والإثبات أخشى أن أخبركم فيتغير لأنها في علم الله المكنون ستتغير ولم اطلع عليه فتقولون قد كذب علينا هذه هي المشكلة، وروى الصدوق في الآمالي والتوحيد بإسناده عن الاصبغ عن أمير المؤمنين مثل هذا الحديث.
الرواية الرابعة ما في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر "عليه السلام" قال (كان علي بن الحسين يقول لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة فقلت أية آية قال قول الله يمحو الله[15] ).
الرواية الخامسة ما في قرب الإسناد عن البزنطي عن الرضا "عليه السلام" قال (قال أبو عبد الله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب كلهم هذا نفس المضمون لو لا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة ﴿يمحو الله﴾[16] ) إلى غير ذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.
خلاصة القول إن القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب والعلم المخزون عند الله يستحيل أن يقع فيه البداء وهو القسم الثاني من القضاء الإلهي وكيف يتصور فيه البداء وأن الله سبحانه عالم بالأشياء منذ الأزل لا يعذب من علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء هذا بالرجوع إلى سبب البداء وهو القسم الأول القضاء المخزون المكنون.
روى الصدوق في أكمال الدين بإسناده عن أبي بصير وسماعة عن أبي عبد الله "عليه السلام" قال (من زعم أن الله عزوجل يبدوله في شئ لم يعلمه أمس فابرؤوا منه) [17] هنا ما المراد بالبداء المعنى اللغوي الظهور بعد الخفاء هذا يلزم منه نسبة الجهل إلى الله.
وروى العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله "عليه السلام" (إن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب وقال فكل أمر يريد الله وهو في علمه قبل أن يصنعه وليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه يعني في علمه المكنون المخزون إن الله لا يبدو له من جهل[18] ) يعني البداء بمعنى الإظهار بعد الإخفاء لا بمعنى الظهور بعد الخفاء.
وروى أيضا العياشي عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله "عليه السلام" سأل عن قول الله ﴿يمحو الله﴾ قال إن ذلك الكتاب، كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يرد به القضاء حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغني الدعاء فيه شيئا[19] لأن ام الكتاب القضاء المحتوم يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
وروى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بإسناده عن البزنطي عن أبي الحسن الرضا "عليه السلام" قال (علي بن الحسين وعلي بن أبي طالب قبله ومحمد بن علي وجعفر بن محمد "عليهم السلام" كيف لنا بالحديث مع هذه الآية يمحو الله فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد)[20] هذا يلزم منه نسبة الجهل إلى الله "عز وجل".
والروايات المأثورة عن أهل البيت "عليهم السلام" إن الله لم يزل عالما قبل أن يخلق الخلق وهذه الروايات فوق حد الإحصاء يعني متواترة وقد اتفق على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طبقا لكتاب الله وسنة رسول الله جريا على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح.
ثمرة الاعتقاد بالبداء يأتي عليها الكلام.