40/06/24
إبطال دعوى النسخ في الآية الرابعة والعشرين إلى التاسعة والعشرين
موضوع: إبطال دعوى النسخ في الآية الرابعة والعشرين إلى التاسعة والعشرين
الآية الرابعة والعشرون[1] التي أدعي أنها منسوخة قوله تبارك وتعالى:
﴿إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما﴾[2]
فهذه الآية تدل على أن النفر والتحرك للجهاد واجب على جميع المسلمين وقد ادعي أنها منسوخة بقوله تبارك وتعالى: ﴿وما كان المؤمنين لينفروا كافة﴾[3]
أي أن النفر للجهاد ليس بواجب على جميع المسلمين فكافة المسلمين ليسوا مخاطبين بوجوب الجهاد> فذهب ابن عباس والحسن وعكرمة[4] إلى أنها منسوخة على ما نقل عنهم.
والصحيح أن هذه الآية المباركة ليست منسوخة وذلك لوجوه ثلاثة.
فهناك ثلاث مناقشات تنفي دعوى النسخ:
الوجه الأول القول بالنسخ مبني على دعوى أن آية ﴿إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما﴾ تثبت أن النفر واجب على جميع المسلمين وهذا خلاف ظاهر الآية المباركة. إذ أن الآية تدل على أن النفر والجهاد واجب على الذين يستنفرون إلى الجهاد فالفئة التي خرجت للجهاد يجب عليهم النفر وهناك آيات أخر تؤكد هذا المعنى كقوله تبارك وتعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ـ يعني خرجتم بثقل أو ركنتم إلى الأرض ولم تخرجوا ـ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل﴾[5] يعني استبدلتم الحياة الدنيا بالآخرة. ثم الآية الأخرى تقول ﴿إن لا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضره شيئا والله على كل شيء قدير﴾[6]
موطن الشاهد قوله تعالى ﴿ويستبدل قوما غيركم﴾ فإذا كان الجهاد واجبا على جميع المسلمين وليس واجبا على قوم خاصين أو فئة خاصة لا يوجد معنى لقوله "عز وجل" ﴿ويستبدل قوما غيركم﴾ الله "عز وجل" يخاطب هذه الفئة التي وجب الجهاد عليها يجب عليكم أن تنفروا في سبيل الله وإذا اثاقلتم إلى الأرض ولم تنفروا للجهاد في سبيل الله فإن الله "عز وجل" سيستبدل بكم قوما غيركم.
فهذه الآية تدل على أن الخطاب ليس لجميع المسلمين وإنما لفئة خاصة من المسلمين.
إذن خلاصة المناقشة الأولى: وخلاصة هذه الآية أن من أمر بالنفير إلى الجهاد ولم يخرج استحق العذاب بتركه الواجب ولا صلة لهذه الآية بوجوب الجهاد على جميع المسلمين حتى يدعى أن آية ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ ناسخة لهذه الآية.
وبهذا البيان وهو أن الجهاد ليس واجبا على جميع المسلمين وإنما متجه إلى فئة وقوما خاصين يتضح بطلان النسخ ودعوى النسخ[7] في قوله تعالى ﴿أنفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴾[8] فقد ادعي أنها منسوخة بقوله ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾
فإن دعوى نسخ هذه الآية مبني على أن قوله تبارك وتعالى ﴿انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴾ تثبت وجوب الجهاد على جميع المسلمين والحال إن هذه الآية ناظرة إلى خصوص الفئة التي وجب عليها الجهاد وليست ناظرة إلى وجوب الجهاد على جميع المسلمين.
هذا تمام الكلام في الوجه الأول.
الوجه الثاني اتضح مرارا وتكرارا أن حمل العام على الخاص وحمل المطلق على المقيد ليس من النسخ في شيء.
فلو سلمنا وتنزلنا وقلنا إن الآية الأولى تدل على وجوب الجهاد على جميع المسلمين فقوله "عز وجل" ﴿إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما﴾ يدل على وجوب الجهاد على جميع المسلمين وقوله تبارك وتعالى ﴿وانفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله﴾ أيضا تدل على وجوب الجهاد لجميع المسلمين هذا عام طرأ عليه التخصيص بقوله "عز وجل" ﴿وما كان المؤمنين لينفروا كافة﴾ ما المانع من دعوى التخصيص فإذا وردنا عام وخاص حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد والتخصيص والتقييد ليس من النسخ في شيء. إذ أن النسخ هو عبارة عن انتهاء أمد الحكم وأما التخصيص والتقييد فهو عبارة عن تخصيص الحكم ببعض أفراده دون الأفراد الأخرى.
هذا تمام الكلام في المناقشة الثانية أو الوجه الثاني.
الوجه الثالث إن قوله تبارك وتعالى ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ بنفسه دليل على عدم النسخ فإن قوله "عز وجل" ﴿وما كان المؤمنين لينفروا كافة﴾ يدل على أن النفر لم يكن واجبا على جميع المسلمين من أول الأمر لاحظ الآية ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ يعني لم يكن وجوب النفر على جميع المسلمين من أول الأمر ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾ يعني من قال إن كافة المؤمنين يجب عليهم أن ينفروا جميعا فالآية التي ادعي أنها ناسخة هي بنفسها تدل على عدم وجوب الجهاد على جميع المسلمين من أول الأمر. فكيف تكون هذه الآية ناسخة لمفاد الآية الأولى التي حملت على وجوب الجهاد على جميع المسلمين.
وبتمامية هذا الوجه الثالث وهذه الوجوه الثلاثة يتضح أن دعوى النسخ في الآية الرابعة والعشرين ليست تامة.
الآية الخامسة والعشرون[9] التي ادعي نسخها قوله "عز وجل" مخاطبا نبيه الكريم ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله﴾[10] .
فعن ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة[11] إن هذه الآيات الثلاث منسوخة بقوله تعالى:
﴿فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فإذن لمن شئت منهم﴾[12]
والصحيح أن دعوى النسخ ليست تامة لأن الحكم تابع لموضوعه وفعليه الحكم فرع فعلية موضوعه فإذا اختلف الموضوعان اختلف الحكمان.
فما هو موضوع ثبوت الإذن وما هو موضوع عدم ثبوت الإذن؟
أما موضوع المنع من الإذن لم أذنت لهم موضوعه إذا لم يشخص الصادق من الكاذب الله "عز وجل" يخاطب نبيه لم أذنت لهم ولم تشخص الصادق من الكاذب منهم لا تأذن لهم إذا لم تشخص الصادق من الكاذب منهم هذا موضوع المنع من الإذن.
وأما جواز الإذن فموضوعه إذا شخصت الصادق من الكاذب فإذا عرفت أنهم صادقون فأذن لهم.
إذن الموضوع مختلف إذا أنت تشخص أن هؤلاء صادقين إذن لهم إذا لم تشخص أنهم صادقون أو كاذبون فلا تأذن لهم الموضوعان مختلفان.
إذن الآيات الثلاث الأولى التي تمنع عن الإذن موضوعها عدم تشخيص الصادق من الكاذب.
والآية الرابعة التي ادعي أنها ناسخة ﴿فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم﴾ فيما إذا شخصت يا رسول الله أنهم صادقون فأنت مخير إما أن تأذن لهم وإما لا.
إذن، الحق إن الآيات الثلاث الأولى لا نسخ فيها لأن صريحها أن المنع من الاستئذان وعتاب النبي "صلى الله عليه وآله" على إذنه إنما هو في مورد عدم تمييز الصادق من الكاذب وقد بين الله تبارك وتعالى أن غير المؤمنين كانوا يستأذنون النبي "صلى الله عليه وآله" في البقاء فرارا من الجهاد بين يديه يريدون أن يبقوا في المدينة حتى لا يخرجوا إلى القتال والجهاد. فأمر الله تبارك وتعالى نبيه أن لا يأذن لأحد منهم إذا لم يعرف حاله ولم يتبين الحال وأنه صادق أو كاذب.
أما إذا تبين الحال وعرفه النبي "صلى الله عليه وآله" ففي هذه الحالة أجاز الله "عز وجل" للنبي أن يجيز لهم وأجاز الله للمؤمنين أن يستأذنوا النبي في بعض شأنهم وأجاز النبي لمن شاء منهم. بالتالي لا منافاة بين الآيتين نظرا لاختلاف الموضوعين فكيف تكون إحداهما ناسخة للأخرى.
إذن دعوى النسخ في الآية 25 ليست تامة.
الآية السادسة والعشرون[13] التي ادعي نسخها قوله تعالى
﴿ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه﴾[14]
والمراد بالأعراب العرب الساكنون في البادية الذين أثرت البداوة فيهم.
فعن ابن زيد[15] أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾[16]
إذن الآية الأولى ناظرة إلى وجوب الجهاد على الجميع ما كان لأهل المدينة يعني جميع أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب الذي يسكنون في البداية حول المدينة أن يتخلفوا عن رسول الله يعني لابد أن يلتحقوا به في جيشه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه لا يقدموا أنفسهم على رسول الله "صلى الله عليه وآله" وادعي أن هذه الآية منسوخة بقوله ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة﴾[17] .
والصحيح أن دعوى النسخ ليست تامة بل إن الآية الثانية قرينة متصلة بالآية الأولى ومن قال إن الجهاد واجب على الجميع بلا استثناء هذا أول الكلام.
بل مفاد الآية إن وجوب النفر للجهاد إنما يجب على بعض المسلمين على نحو الكفاية.
نعم قد يجب الجهاد على الجميع لسبب خاص.
ومن الأسباب الخاصة ما يلي:
السبب الأول إذا اقتضت الضرورة الوقتية وجوب الجهاد على الجميع كما إذا لم يمكن دفع العدو إلا بخروج جميع أهل المدينة للجهاد ففي هذه الحالة يجب الجهاد على جميع أهل المدينة.
السبب الثاني لو طلب الولي الشرعي الجهاد من الجميع كما لو حكم الولي الفقيه بوجوب الجهاد على جميع المسلمين ففي هذه الحالة يجب.
السبب الثالث قد تطرأ أمور توجب أن يخرج الجميع للجهاد كما لو توقف حفظ بيضة الإسلام على خروج الجميع.
هنا الوجوب على الجميع في هذه الصور الثلاث غير الوجوب الكفائي.
من قال إن الجهاد دائما واجب على الجميع، الجهاد هو قتال العدو ودفعه عن المسلمين هذا واجب كفائي والمراد بالواجب الكفائي هو الواجب الذي إذا قام به من به الكفاية سقط عن البعض الآخر وإذا لم يقم به من به الكفاية استحق الجميع العقاب. هذا هو الواجب الكفائي. فيجب أن ينهض ثلة من المسلمين بحيث يدفع العدو عن حياض الإسلام والمسلمين.
إذن هناك وجوب كفائي للجهاد وهناك وجوب النفير العام للجهاد وكل منهما موضوعه مختلف:
النفير العام للجهاد يجب بأسبابه كما لو أمر الولي الفقيه أو اقتضته الضرورة الوقتية.
وأما الوجوب الكفائي فله أيضا أسبابه كما لو هجم العدو على المسلمين فإنه يجب على من به الكفاية أن يتصدى لقتاله.
النتيجة النهائية: ثبت بوجوب الشرع الجهاد الكفائي وقد يثبت النفير العام لوجود أسباب خاصة وبالتالي الآية رقم 26 لم تثبت دعوى النسخ فيها.
الآية السابعة والعشرون[18] قوله "عز وجل" مخاطبا نبيه الكريم:
﴿واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين﴾
فعن ابن زيد[19] أن هذه الآية منسوخة بالأمر بالجهاد والغلظة على الكفار
﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم﴾[20]
إلا أن هذا القول باطل عاطل لوجهين:
الوجه الأول قد تقدم في إبطال دعوى النسخ في الآية الأولى هناك بحث طويل بحثه السيد الخوئي "رحمه الله" حول دعوى النسخ ولا نعيد هنا.
الوجه الثاني لا دلالة على أن المراد بالصبر في الآية هو الصبر على القتال ومن قال إن المراد بالصبر هنا هو خصوص الصبر على القتال أو على الكفار.
نعم الآية الكريمة تشمل بإطلاقها الصبر على الكفار ﴿واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين﴾ يعني إتباع النبي لما يوحى إليه يحتاج إلى صبر لأن تبليغ الدعوى يعترضه مشكلات كثيرة تحتاج إلى صبر ومن مصاديق الصبر، الصبر على الكفار.
إذن هذه الآية ليست خاصة بالقتال وليست خاصة بالصبر على الكفار، إذن دعوى النسخ في هذه الآية غير تامة.
الآية الثامنة والعشرون[21] التي ادعي نسخها قوله "عز وجل":
﴿وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل﴾[22]
فعن ابن عباس وسعيد وقتادة[23] أنها منسوخة بآية السيف:
﴿قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾[24]
إلا أن دعوى النسخ ليست تامة لأن الصفح المأمور به في الآية المباركة إنما هو الصفح عن الأذى الذي كان يصل من المشركين إلى النبي "صلى الله عليه وآله" فالنبي في تبليغه للرسالة كان المشركون يؤذونه ولا علاقة لهذا الصبر بالقتال والقرينة على أن المراد بالصبر هنا الصبر على الأذى والشاهد على ذلك قوله تبارك وتعالى ﴿فأصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين﴾[25] فقد كان المشركون يستهزئون برسول الله "صلى الله عليه وآله" .
حاصل الآية
الله "عز وجل" يحرض النبي على الصبر في تبليغ أوامره ونشر أحكامه وأن لا يلتفت إلى أذى المشركين واستهزائهم ولا علاقة لهذا الأمر بحكم القتال في سبيل الله "عز وجل" خصوصا أن هذا كان في مكة، مكة أوائل الدعوة كان المسلمون ضعفاء فلم يجب عليهم الجهاد لم يكن النبي "صلى الله عليه وآله" في بداية الدعوة في مكة أول ثلاث سنوات كان الدعوة سرية لم يكن قادرا على الجهاد ومواجهة المشركين إلا عن طريق الإعجاز وخرق نواميس الطبيعة نعم لما ذهب إلى المدينة واشتدت قدرتهم وقويت شوكتهم أمر الله "عز وجل" بالجهاد وقد اتضح فيما سبق أن الأحكام الشرعية شرعت بنحو التدريج والتدريج في الأحكام ليس من النسخ في شيء إذن الآية الثامنة والعشرون التي ادعي نسخها نجد أن دعوى النسخ فيها ليست تامة.
الآية التاسعة والعشرون[26] قوله تعالى:
﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا﴾[27]
فعن قتادة وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد وإبراهيم وأبي رزين[28] أن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر
﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه﴾[29]
والصحيح أن هذه الآية محكمة لأن دعوى النسخ تتوقف على أمرين غير تامين خصوصا الثاني منهما.
الأمر الأول أن يكون المراد بلفظ السكر هو الخمر والشراب المسكر.
الأمر الثاني أن تدل الآية على إباحة المسكر.
أما الأمر الأول وهو أن المراد بقوله "عز وجل" ﴿تتخذون منه سكرا﴾ هو المسكر والخمر ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات أن المراد بالسكر هنا هو الخمر والشراب المسكر لأن السكر له عدة معاني أحداها في اللغة الخل وقد فسر علي بن إبراهيم لفظ سكر بالخل[30] وبناء على هذا المعنى إذا فسرنا السكر بالخل يكون المراد بالرزق الحسن الطعام اللذيذ من الدبس وغيره.
إذن النقطة الأولى لم يثبت أن المراد بالسكر هو الخمر.
الأمر الثاني لو سلمنا أن المراد بالسكر هو الخمر فلا دلالة في الآية الكريمة على أن الخمر حلال ومباح ولا يستطيع القائل بالنسخ أيضا إثبات أن الآية تدل على أباحة وحلية شرب المسكر فإن الآية الكريمة في مقام بيان أمر خارجي ولا دلالة فيها على إمضاء ذلك الأمر الخارجي الذي يفعله الناس ﴿تتخذون منه سكرا﴾.
لا تقل الآية اتخذوا منه سكرا أنتم تتخذون منه سكرا والآية ساكتة عن جواز اتخاذ السكر منه بل إن الآية الكريمة ذكرت السكر في سياق إثبات الصانع الحكيم بآياته الآفاقية. يعني هناك آيات تثبت وجود الصانع الحكيم عن طريق التأمل في الآفاق يسمونها الآيات الآفاقية ﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الأرض كيف سطحت﴾[31] إذا نراجع الآيات هكذا تقول كلها بسياق نعم الله "عز وجل" أنعم عليكم ماء من السماء أنعم عليكم بخروج النبات انعم عليكم بالدوام لاحظ الآية ﴿والله انزل من السماء ماء فأحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون﴾[32] ﴿وإن لكم في الإنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين﴾[33] ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾[34] .
﴿وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون﴾[35]
فذكر سبحانه وتعالى نعمه وهي أن الماء ينزل من السماء ويحي الأرض بعد موتها ثم ذكر تدبيره في صنع الحيوان وخلقه وأنه يخرج اللبن الخالص من بين فرث ودم ثم ذكر ما أودعه في ثمرات النخيل والأعناب من الاستعداد لاتخاذ السكر منها والرزق الحسن وقد امتازت النخيل والأعناب بذلك. ثم أتكلم رب العالمين عن النحل وما يصنعه من عسل فذكر الأمور التي يحار بها العقلاء.
الخلاصة بعد بيان ذلك
هناك ثلاث نقاط مهمة:
النقطة الأولى لا دلالة في الآية على إباحة المسكر أصلا هذا ما ذكرناه.
النقطة الثانية بل قد يدعى أن في الآية إشعار بعدم جواز شرب المسكر لأن الآية جعلت السكر في مقابل الرزق الحسن فلو سلمنا أن المراد بالسكر هو المسكر فإن الآية قد جعلت السكر في مقابل الرزق الحسن ومعنى ذلك أن السكر والمسكر ليس من الرزق الحسن فلا يكون السكر مباحا هذا يقال إشعار وليس استظهار قد تشعر وتؤذن بذلك.
النقطة الثالثة الروايات الشريفة دلت على أن الخمر محرم من أول الأمر لا أن الخمر في بداية الشريعة كان حلال ثم حرم.
في علم الأخلاق تذكر المبادئ العامة التي سار عليها جميع العقلاء والأنبياء هناك أمور كل الأنبياء جاءوا بها وكل العقلاء ساروا عليها:
منها حرمة الزنا كل الأنبياء من آدم "عليه السلام" إلى نبينا محمد "صلى الله عليه وآله" بل تطابق عليها كل العقلاء في العالم تطابقوا على حرمة الزنا من الأمور حسن الصدق وقبح الكذب من الأمور حسن الأمانة وقبح الخيانة يعني لا يوجد عاقل أو نبي أو شريعة قالت الخيانة جائزة والأمانة حرام ما موجود كلهم قالوا.
من الأمور شرب الخمر كل الأنبياء جاءوا بحرمة شرب الخمر.
روى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم قال سئل أبو عبد الله "عليه السلام" عن الخمر فقال قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" إن أول ما نهاني عنه ربي "عز وجل" عبادة الأوثان وشرب الخمر[36]
وروي عن الريان عن الرضا "عليه السلام" قال (ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر)[37] وقد تقدم في بحث الإعجاز تحريم الخمر في التوراة.
نعم الشريعة الإسلامية لم تجهر بحرمة الخمر في بداية الدعوة برهة من الزمن لم تجهر بحرمة شرب الخمر وهذا فرق بين أن الخمر كان حلال في بداية الشريعة وبين أن الخمر كان في بداية الشريعة حرام لكن لم يعلن عنه ولم يجهر به ومن البيّن أن عدم الجهر بحرمة الخمر لا يعني أن الخمر كان في بداية الشريعة حلال ثم نسخ.
إذن الآية تسعة وعشرين التي ادعي نسخها ليست تامة.
الآية الثلاثون يأتي عليها الكلام.