40/02/04
القرآن والإتقان في المعاني والأخبار بالغيب وأسرار الخليقة
موضوع: القرآن والإتقان في المعاني والأخبار بالغيب وأسرار الخليقة
رابعا: القرآن والإتقان في المعاني
كان الكلام في جهات الإعجاز، تطرقنا إلى:
الجهة الأولى وهي معارف القرآن
والجهة الثانية وهي الاستقامة في البيان
والجهة الثالثة وهي القرآن في نظامه وتشريعه
اليوم إن شاء الله نتكلم عن النقطة الرابعة والخامسة.
النقطة الرابعة والجهة الرابعة من جهة إعجاز كتاب الله:
الإتقان في المعاني
فالقرآن الكريم قد تطرق إلى معاني كثيرة هذه المعاني متباعدة الأغراض فقد تحدث عن الإلهيات وما يرتبط بشؤون الإله وتطرق إلى بدء الخليقة والمعاد وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبليس والجن وأمور ترتبط بالفلك والأرض والتاريخ وشؤون الماضين وما جرى بينهم والأمثال والاحتجاجات والأخلاقيات وحقوق العائلة والسياسة المدنية والنظم الاجتماعية والحربية والقضاء والقدر والكسب والاختيار والعبادات والمعاملات والنكاح والطلاق والفرائض والحدود والقصاص وغير ذلك مما يسهم في هداية البشر.
فالقرآن كتاب هداية وعلى الرغم من تعدد أغراض القران الكريم وتعدد المعاني التي جاء بها كتاب الله فإننا نجدها منسجمة فيما بينها مؤلفة تأليف واحدا ولم يتسرب إليها الفساد والنقل من أي جهة من جهاتها وهذا يدل على أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والغريب العجيب أننا نجد من ألف في العلوم النظرية بل في مختلف العلوم إذا تعمق في العلم ربما يتنكر إلى أول كتاب ألفه ولم يطبعه ربما يعتبره عارا عليه أو يقول إن كل هذه الآراء قد تغيرت وتبدلت لكن القرآن الكريم نزل منجما خلال ثلاثة وعشرين سنة ولم تتغير ولم تتبدل فيه كلمة واحدة بل لم يتغير حرف واحد فضلا عن آية أو سورة واحدة وبالتالي وحدة معاني القرآن الكريم وإتقان المعاني يكشف عن إعجاز هذا الكتاب العظيم.
إذا راجعنا إلى كتب العلماء كالفلاسفة الأقدمين نجد أن الفلاسفة المتأخرين قد فندوا آراء المتقدمين وصارت نظريات الأقدمين عرضة لسهام النقد والرد والحال أن الأقدمين كانوا يعتقدون أنها براهين يقينية قطعية وأصبحت تلك البراهين اليقينية القطعية عند الأقدمين أمور وهمية وترهات عند المتأخرين وأوهاما وخيالا لكن القرآن مع طول وامتداد عمود الزمان وكثرة أغراضه نظرا لسمو معانيه لم يوجد فيه ما يكون معرضا للنقد والاعتراض إلا من المكابرين والمعاندين فهؤلاء لا حل لهم كما يقول الشيخ الرئيس ابن سينا إن السفسطائي الذي ينكر وجود حقائق كلما في الكون وهم أو خيال أو عكوس في المرايا أو ضلال علاجه أن تحرقه أو تضربه ضربة فإذا قال آخ قل له لا يوجد ألم ولا يوجد نار ولا يوجد ضرب كلما في الكون وهم أو خيال أو عكوس في المرايا أو ضلال.
هذا تمام الكلام في الجهة الرابعة.
الجهة الخامس
القرآن والإخبار بالغيب
القرآن الكريم اخبر في عدة من آياته عن أمور مستقبلية وعن أمور مهمة تتعلق بما يأتي من الحوادث والأنباء وقد كان جميع ما أنبأ به صادقا ولم يخالف الواقع شيء منها ولا شك أن الأخبار بالغيب لا سبيل له إلا بالنبوة والاتصال بالوحي يذكر السيد الخوئي "رضوان الله عليه" ست آيات:
الآية الأولى ما نزل في حق أصحاب بدر وقد كان المسلمون في بدر عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان الفارس منهم واحدا فقط وهو المقداد وقيل فارسان المقداد والزبير بن العوام وكان عدد المشركين ألف بينما المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر مع وجود فارس أو فارسين وسبعين ناقة والباقي رجالة ولكن أمير المؤمنين "عليه أفضل صلاة المصلين" قتل مقتلة كبيرة من المشركين فقد قتل من المشركين سبعون رجلا قتل أمير المؤمنين نصفهم خمسة وثلاثين وشارك في قتل النصف الآخر جدّل الأبطال الآية الكريمة تقول ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين﴾[1] .
هذه الآية الكريمة تشير إلى أن الله "عز وجل" وعد أن تكون الطائفة المنتصرة هي طائفة المسلمين وتنتصر على الطائفة الكافرة وأخبر أن بعض المسلمين يود أن لا يقع في ذات الشوكة وهي الحرب ولكن الله "عز وجل" أراد أن يحق الحق بكلماته من خلال خوض غمار المعركة ذات الشوكة ويقطع دابر الكافرين فأخبر "عز من قائل" بأن المسلمين سينتصرون في غزوة بدر والحال أن الكافرين كانوا ثلاثة أضعاف المسلمين فهذه الآية نزلت في بدر ووعد الله المسلمين بالنصر على عدوهم وقطع دابر الكافرين وهذا ما تحقق على الرغم من قلة العدد والعدة.
الآية الثانية قوله "عز من قائل" ﴿فأصدع بما تعرض واعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إله آخر فسوف يعلمون﴾[2] ومن المعلوم أن دعوة النبي "صلى الله عليه وآله" وقد بعث في سن الأربعين كان ثلاثة وعشرين سنة فعاش النبي ثلاثة وستين سنة أول ثلاث سنوات من بعثته في مكة كانت الدعوة سرية ثم عشر سنوات في مكة وكانت الدعوة علنية ثم عشر سنوات في المدينة.
خلال السنوات الثلاث في مكة وكانت الدعوة سرية كان أصحاب النبي "صلى الله عليه وآله" يتخفون ويخافون أن يظهروا إيمانهم الله "عز وجل" في هذه الآية الكريمة أمر النبي أن يصدع بما يأمر وأن يجهر بما أمر به وقد جاء في الرواية عن أنس بن مالك أنها نزلت عند مرور النبي "صلى الله عليه وآله" على أناس في مكة فجعلوا يغمزون في قفاه، قفاه يعني وراء ظهره يعني من خلفه ويقولون هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبرائيل فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبي "صلى الله عليه وآله" ونصرة الله للنبي وخذلان رب العالمين للمشركين الذين ناوئوا النبي واستهزئوا بدعوته وهذا الإخبار كان في زمان لم يخطر على بال أحد أن تمتد دعوة النبي "صلى الله عليه وآله" لأنها كانت في زمن قوة قريش وضعف المسلمين.
الآية الثالثة قوله "عز من قائل" ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾[3] وقد أظهره الله "عز وجل" على مكة والمدينة ودخل مكة فاتحا حتى واجه أبا سفيان وكبار قريش وقال لهم ماذا تظنون إني فاعل بكم قالوا أخ كريم وابن أخ كريم فقال النبي "صلى الله عليه وآله" أقول لكم ما قال أخي يوسف لأخوته اذهبوا لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فانتم الطلقاء.
الآية الرابعة قوله "عز من قائل" ﴿غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين﴾[4] بضع السنين يقولون لا يتجاوز العشر سنوات وفعلا الفرس غلبة الروم فأصبحت الروم مغلوبة كما اخبر القرآن الكريم إلا أن الروم في أقل من عشر سنوات عادت مجددا وغلبت الإمبراطورية الفارسية وتمكن ملك الروم من إدخال جيشه إلى مملكة الفرس.
الآية الخامسة قوله "عز من قائل" ﴿أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾[5] فأخبر الله "عز وجل" عن انهزام جمع الكفار وتفرق شوكتهم وقمعهم وقد وقع هذا في غزوة بدر حينما ضرب أبو جهل فرسه وتقدم نحو الصف الأول وقال نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحاب وأباده الله وجمعه وأنار الحق ورفع مناره فانهزم الكفار وظفر المسلمون ولم يتوهم أحد بأن ثلاثمائة وثلاثة عشر أصحاب بدر وأنصار الحجة بعدد أنصار بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ليس لهم عدة ولا فرس ولا عدد لكنهم قد هزموا المشركين وذهبت شوكتهم.
الآية السابعة والأخيرة قوله "عز من قائل" ﴿تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنا عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد﴾[6] هذه الآية تخبر أن أبا لهب عم النبي وامرأته أم جميل سيموتان من دون أن يؤمنا بالنبي "صلى الله عليه وآله" وهذا أبو لهب أثرت عليه زوجته أم جميل أبو لهب لما جاء غلامه وعبده وبشره بأن أمنة زوجة عبد الله قد ولدت لأخيه ولده محمد "صلى الله عليه وآله" قال أبو لهب للغلام اذهب فأنت حر لوجه الله اعتق الغلام لأنه بشره بولادة النبي "صلى الله عليه وآله" لأن عبد الله والد النبي كان متوفى والنبي يتيم لم يرى أباه ولكن زوجته أم جميل أثرت عليه كثيرا لدرجة أنها حملت الحطب للإحراق، هذا تمام الكلام في الجهة الخامسة وهي إخبار القرآن الكريم بالغيب.
الجهة السادسة والأخيرة من جهات إعجاز القرآن والجهات كثيرة إلا أن السيد الخوئي اقتصر على ست:
القرآن وأسرار الخليقة
اخبر القرآن الكريم في أكثر من آية عما يتعلق بسنن الكون ونواميس الطبيعة والأفلاك والشمس والقمر مما لا سبيل إلى العلم به في ذلك الزمان مما يكشف عن تلقي ذلك من الوحي الإلهي هذه القوانين وإن علم بها اليونانيون في ذلك الزمان لأن اليونان اثنا كان فيها الفلاسفة ما قبل الإسلام سقراط وتلميذه أفلاطون وتلميذ أفلاطون أرسطو وكانت آثار اليونان موجودة لكن الجزيرة العربية لم يكن لهم معرفة بهذه العلوم ولم تصلهم تلك العلوم آنذاك بل كانت الجزيرة العربية مجتمع بادية وليس مجتمع حضري والكثير من الأمور التي أخبر بها القرآن الكريم لم تعرف ولم تكتشف إلا بعد كثرة الاكتشافات وتقدم وتطور العلوم لذلك كان أسلوب القرآن في عرض أسرار الخليقة على نحويين:
النحو الأول التصريح
النحو الثاني التلويح
أما التصريح فكان في الأمور التي يمكن أن يتعقلها القوم في ذلك الزمان
وأما التلويح وهو الإشارة والالفات فكان في الأمور الدقيقة التي ربما لا يتعقلها القوم في ذلك الزمان كالإشارة إلى كروية الأرض إذ كانوا يعتقدون إن الأرض مسطحة فلو صرح القرآن بكروية الأرض في ذلك الزمان فلربما يكفروا بالقرآن وبالنبي "صلى الله عليه وآله".
إذن القرآن الكريم كان له أسلوبان الأول الأسلوب الصريح الثاني الأسلوب الذي يحمل الإشارة فالإشارة كانت للأمور التي ربما يستعصي فهمها على القوم في ذلك الزمان لكن هذه الإشارة قد يلتقطها من يأتي في آخر الزمان.
ثم يذكر السيد الخوئي "قدس" عدة آيات فيها إشارات ولكن هذه الآيات قد يختلف في فهمها السيد الخوئي "رضوان الله عليه" بعض الآيات يرى أنها تشير إلى كروية الأرض البعض الآخر قد لا يفهم منها كروية الأرض نحن نذكر هذه الآيات تباعا.
الآية الأولى قوله "عز من قائل" ﴿وانبتنا فيها من كل شيء موزون﴾[7] فقد دلت الآية الكريمة على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص وقد ثبت مؤخرا في الأحياء والتاريخ الطبيعي أن كل نوع من أنواع النبات له وزن خاص فهو مركب من أجزاء خاصة على وزن مخصوص بحيث لو زيد أو نقص في هذا الوزن لأصبح النبات نابتا آخرا وأن نسبة بعض الأجزاء إلى الأجزاء الأخر بالغة الدقة.
الآية الثانية ﴿وأرسلنا الرياح لواقح﴾[8] فإن المفسرين الأقدمين حملوا اللقاح في الآية الكريمة على معنى الحمل باعتبار أنه أحد معانيه وفسّر الآية بحمل الرياح للسحاب أو المطر الذي يحمله السحاب ولكن التنبيه على هذا المعنى ليس له اهتمام كبير خصوصا إذا لاحظنا أن الرياح لا تحمل السحاب الرياح تدفع السحاب من مكان إلى مكان آخر والنظرة الصحيحة هي ما اكتشفه علماء النبات من الإشارة إلى أن بعض النباتات يعني كل النباتات فيها ذكر وأنثى فالذكر عنده اللقاح والأنثى عندها الميسم فلما يتفتق الطلع في الذكر وهناك خلايا ذكرية فتأتي الرياح وتطير هذه اللقاحات وتصل إلى ميسم النبات الذي يشكل أنثى فيحصل التلقيح ﴿وأرسلنا الرياح لواقح﴾ يعني الرياح لها دور في نقل الخلية الذكرية إلى الخلية الأنثوية بحيث تكمل المشيجة هذا بالتعبير العلمي والاصطلاحي هذا الأمر بالنسبة إلى تلقيح الرياح موجود في فاكهة المشمش والصنوبر والرمان والبرتقال والقطن ونباتات الحبوب الباقلاء واللوبيا إلى آخره فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس وانتثرت خارجها هذه الأكياس الذكرية فتأتي الرياح وتحمل هذه الخلايا الذكرية فتسقط على مياسم الأزهار التي هي أنثى النبات فيحصل الزواج ويحصل التلاقح وتظهر الثمرة.
الآية الثالثة قوله "عز من قائل" ﴿ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين﴾[9] ﴿سبحان الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون﴾[10] هاتان الاياتان تشيران إلى حقيقة كما أن الإنسان ذكر وأنثى كذلك النبات ذكر وأنثى.
الآية الرابعة قوله "عز من قائل" ﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا﴾[11] والمهد للطفل هو ما ينام فيه ويحركونه فمرقد الطفل الذي يهتز يقال له المهد سرير الطفل الذي يهتز ومن الملاحظ أنه في عين حركته يشكل هدوء واطمئنان واستقرار للطفل الله "عز وجل" يقول جعلنا لكم الأرض مهدا فهذا يعني أن الأرض تطلي عليكم مزيدا من السكون والهدوء والاطمئنان والاستقرار وفي نفس الوقت هي تتحرك كما يتحرك المهد فيفهم من هذه الآية حركة الأرض وأن هذه الأرض كروية، من أين نفهم أنها كروية؟ من غير معلوم أنها كروية، القدر المتيقن هنا أن المهد كما يسهم في هدوء واطمئنان وسكون الرضيع كذلك الأرض لأن الآية في مقام الامتنان تمون على البشر الله "عز وجل" يقول ﴿الذي جعل لكم الأرض مهدا﴾ يعني جعل الأرض سالكة لكم فيها سكونكم واطمئنانكم فكما أن الرضيع يهتز بنعومة المهد لينام فيه مستريحا هادئا كذلك الأرض مهد للبشر وهو ملائم لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية والأرض كما تعلمون لها حركتان حركة حول نفسها وحركة حول الشمس الأرض تدور حول نفسها خلال أربعة وعشرين ساعة يعني في اليوم تدور حول نفسها دورة كاملة نتيجة دوران الأرض حول نفسها تنشأ ظاهرة الليل والنهار ونتيجة دوران الأرض حول الشمس تنشأ ظاهرة الفصول الأربعة الشتاء والخريف والصيف والربيع.
الآية الخامسة قوله "عز من قائل" ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾[12] هذه الآية قد شغلت أذهان المفسرين لأننا نرى مشرقا واحدا ومغربا واحدا فقال بعضهم المراد بالمشرقين مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرب الشمس ومغرب القمر وقال بعضهم مشرق الصيف والشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء ولكن السيد الخوئي يقول إن المراد بها وجود قارة أخرى تقع على السطح الآخر للأرض كاستراليا حاليا يعني إن شروق الأرض عندنا شروق الشمس عندنا في قارتنا آسيا وأوروبا وأفريقيا وهو العالم القديم معناه بداية الغروب عند القارة الأخرى استراليا ونيوزلندا وأن شروق الشمس في القارة الأخرى استراليا ونيوزلندا معناه شروق الشمس عندنا وهذا الفهم ليس ببعيد ومن هذا الفهم نستكشف الإشارة إلى كروية الأرض فهذه الآية يمكن أن تشير إلى كروية الأرض التي لم تكتشف إلا بعد مئات السنين وقد قتل كاليليو في أوروبا حينما قال إن الأرض كروية ودعوه للاستتابة ولم يتب فقتلوه.
الآية السادسة قوله "عز من قائل" ﴿يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبأس القرين﴾[13] هنا السيد الخوئي يستظهر أيضا أن هذه تشير إلى وجود قارة أخرى وإلى كروية الأرض لأنها ناظرة إلى ضرب مثل لبعد المسافة ﴿يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبأس القرين﴾ وفعلا إذا كان بداية شروق الشمس عندنا هو غروب الشمس في قارة أخرى فهذا يعني أن المسافة بعيدة جدا ولكن بعضهم حمل على مشرق الصيف ومشرق الشتاء وهذا لا يشير إلى مسافة مكانية حتى يضرب بها المثل وإنما يشير إلى مسافة زمانية.
وهكذا الاية الأخرى ﴿ولله المشرق والمغرب فأين ما تولوا فثم وجه الله﴾[14] هنا لماذا ذكرت الآية مشرق واحد ومغرب واحد؟ هنا إشارة إلى الجنس وليس الإشارة إلى الوحدة أن المشرق واحد والمغرب واحد وإنما إشارة إلى جنس الشروق وجنس الغروب بينما الآيات التي جاءت بلفظ التثنية أو بلفظ الجمع المشارق والمغارب إشارة إلى كروية الأرض لأن الأرض كرة فما يكون في طرف الشمس يكونوا عندهم شروق والجهة المقابلة في الكرة إلى ما يقابل الشمس يكون عندها غروب تكون مظلمة لا يصلها الضوء.
قال "عز من قائل" ﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون﴾[15] هذه الآية تشير إلى تعدد المشارق وتعدد المغارب وفيها إشارة إلى كروية الأرض فإن طلوع الشمس على أي جزء من الكرة الأرضية يسبب الشروق وهذا يلازم غروب الشمس على الجهة المقابلة للجهة التي أطلت على الشمس فبما أن الأرض كرة فطرف الكرة المقابل للشمس فيه شروق وطرف الكرة المقابل لطرف الأرض الذي مقابل الشمس فيه غروب.
هذه الآية الآن تفهم بسهولة من دون أي عناء أو تكلف ولكن في ذلك الزمان الأمر صعب ثم يشير إلى روايات هذه الروايات إذا قرأناها لا يفهم منها بشكل جلي كروية الأرض لذلك حتى بعض فقهائنا المتأخرين لم يفهموا كروية الأرض كالشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق الناظرة المتوفى سنة 1186 هجرية يعني في القرن الحادي عشر يرى أن الأرض مسطحة ولا يرى أن الأرض كروية ولذلك إذا ثبت الهلال في أي طرف من أطراف الأرض يثبت في كل الإطراف عند الشيخ يوسف الأرض مسطحة فهذه الروايات كانت بمرأى الشيخ يوسف البحراني "رحمة الله عليه".
روي عن الإمام الصادق "عليه السلام" قال (صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت إنما علينا أن نصلي وإذا وجبت الشمس عندنا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت الشمس عنهم)[16] ، السيد الخوئي "رحمه الله" يقول صفحة 76 يستدل الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الأرض ويقره الإمام "عليه السلام" على ذلك ولكن ينبهه على وظيفته الدينية .
ومثل قول الإمام "عليه السلام" في خبر آخر (إنما عليك مشرقك ومغربك)[17] ومن ذلك ما ورد عن الإمام زين العابدين في دعائه عند الصباح والمساء (وجعل لكل واحد منهما حدا محدودا، وأمدا ممدودا، يولج كل واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد)[18] السيد الخوئي يقول هذه الروايات تشير إلى كروية الأرض والصحيح أنها قد لا يفهم منها كروية الأرض القدر المتيقن أن يفهم منها تعدد المشارق والمغارب أما أن فيها إشارة إلى كروية الأرض فمن أين هذا، هذا يحتاج إلى تكلف، إذن هذا بقرينة خارجية لا بالرواية نحن عرفنا كروية الأرض بقرينة خارجية الآية جاءت باللازم وهو تعدد المشارق والملزوم هو كروية الأرض.
السيد الخوئي يقول أراد "صلوات الله عليه" بهذا البيان البديع التعريف بما لم تدركه العقول في تلك العصور وهو كروية الأرض، في ذلك الزمان لو الإمام قال لهم الأرض كروية لكفروا بالإمام ما كان يتصور، وحيث أن هذا المعنى كان بعيدا عن أفهام الناس لانصراف العقول عن إدراك ذلك تلطف وهو الإمام العالم بأساليب البيان بالإشارة إلى ذلك على وجه بليغ فإنه "عليه السلام" لو كان بصدد بيان ما يشاهده عامة الناس من أن الليل ينقص تارة فتضاف من ساعاته إلى النهار، وينقص النهار تارة أخرى فتضاف من ساعاته إلى الليل، لاقتصر على الجملة الأولى (يولج كل واحد منهما في صاحبه) ولما احتاج إلى ذكر الجملة الثانية (ويولج صاحبه فيه)
إذن فذكر الجملة الثانية إنما هو للدلالة على أن إيلاج كل من الليل والنهار في صاحبه يكون في حال إيلاج صاحبه فيه، لان ظاهر الكلام أن الجملة الثانية حالية، ففي هذا دلالة على كروية الأرض، وإن إيلاج الليل في النهار مثلا عندنا يلازم إيلاج النهار في الليل عند قوم آخرين ولو لم تكن مهمة الإمام "عليه السلام" الإشارة إلى هذه النكتة العظيمة لم تكن لهذه الجملة الأخيرة فائدة، ولكانت تكرارا معنويا للجملة الأولى.
هذا الكلام قد لا يقبل وأنه أحيانا بالنسبة إلى مخاطبة عوام الناس التفنن في التعبير قد يرسخ المعنى، عموما هذه آيات تدل على عظمة الخالق وعلى إخباره عن دقائق الأمور ويكفي وصف أمير المؤمنين "عليه السلام" حينما يتكلم عن كتاب الله "عز وجل" وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج واصفا نهج البلاغة أنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين.
في الختام السيد الخوئي يذكر نكتة مهمة جدا يقول كلام أمير المؤمنين "عليه أفضل صلوات المصلين" في نهج البلاغة الذي عبّر عنه ابن أبي الحديد أنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين يقول أمير المؤمنين تصديقه بالقرآن على الرغم ما عليه أمير المؤمنين من البراعة والبلاغة هذا بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهي يعني كما قلنا إن من معاجز النبي صناعة علي بن أبي طالب بعد من دلائل إعجاز القرآن تصديق علي بن أبي طالب "صلوات الله وسلامه عليه".
هذا تمام الكلام في بيان جهات إعجاز القرآن، أوهام حول إعجاز القرآن يأتي عليه الكلام.