46/10/15
بسم الله الرحمن الرحیم
الخاتمة؛ الشرط الأول؛ بقاء الموضوع؛ بحث الأول؛ النظریة الأولی/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /الخاتمة؛ الشرط الأول؛ بقاء الموضوع؛ بحث الأول؛ النظریة الأولی
خاتمة حول شروط جریان الاستصحاب
الشرط الأول: بقاء الموضوع
بقيت هنا بحثان:
البحث الأول: معیار بقاء الموضوع أو اتحاد القضیتین
النظریة الأولى: نظریة الشیخ الأنصاري
بعد دراسة هذه المباحث، ننتقل الآن إلى بیان نظریة الشیخ الأعظم الأنصاري في هذا المجال. فقد طرح مسائل عدیدة تُعدّ معیاراً لتشخیص اتحاد الموضوع في القضیة الیقینیة (المتیقّنة) والقضیة المشکوكة (المورد المشكوك).
قال:
«لابدّ من میزان یمیّز به القیود المأخوذة في الموضوع عن غیرها و هو أحد أمور:
الأوّل: العقل، فیقال: إنّ مقتضاه كون جمیع القیود قیوداً للموضوع مأخوذةً فیه، فیكون الحكم ثابتاً لأمر واحد لیجمعها و ذلك لأنّ كلّ قضیة و إن كثرت قیودها المأخوذة فیها راجعةٌ في الحقیقة إلى موضوع واحد و محمول واحد.
فإذا شك في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القیود، سواء علم كونه قیداً للموضوع أو للمحمول أو لمیعلم أحدهما، فلایجوز الاستصحاب، لأنّه إثبات عین الحكم السابق لعین الموضوع السابق و لایصدق هذا مع الشك في أحدهما.
نعم لو شك بسبب تغیّر الزمان المجعول ظرفاً للحكم، كالخیار، لمیقدح [في] جریان الاستصحاب، لأنّ الاستصحاب مبني على إلغاء خصوصیة الزمان الأوّل فالاستصحاب في الحكم الشرعي لایجري إلا في الشك من جهة الرافع ذاتاً أو وصفاً، و فیما كان من جهة مدخلیة الزمان. نعم یجري في الموضوعات الخارجیة بأسرها.
ثم لو لمیعلم مدخلیة القیود في الموضوع كفی في عدم جریان الاستصحاب الشك في بقاء الموضوع ... .
الثاني: أن یرجع في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلّة، و یفرّق بین قوله "الماء المتغیّر نجس" و بین قوله: "الماء یتنجس إذا تغیّر" فیجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبس بالتغیّر، فیزول الحكم بزواله و في الثاني نفس الماء فتستصحب النجاسةُ لو شك في مدخلیة التغیّر في بقائها، و هكذا.
و على هذا فلایجري الاستصحاب فیما كان الشك من غیر جهة الرافع إذا كان الدلیل غیر لفظي لایتمیّز فیه الموضوع، لاحتمال مدخلیة القید الزائل فیه.
الثالث: أن یرجع في ذلك إلى العرف فكلّ مورد یصدق عرفاً أنّ هذا كان كذا سابقاً جری فیه الاستصحاب، و إن كان المشار إلیه لایُعلم بالتدقیق أو بملاحظة الأدلّة كونه موضوعاً، بل عُلِم عدمه، مثلاً قد ثبت بالأدلّة أنّ الإنسان طاهر و الكلب نجس، فإذا ماتا و اطّلع أهلُ العرف على حكم الشارع علیهما بعد الموت فیحكمون بارتفاع طهارة الأوّل و بقاء نجاسة الثاني، مع عدم صدق الارتفاع و البقاء فیهما بحسب التدقیق، لأنّ الطهارة و النجاسة كانتا محمولتین على الحیوانین المذكورین و قد ارتفعت الحیوانیة بعد صیرورته جماداً»([1] ).
«لا بد من وجود معيار يتيح التمييز بين القيود (الشروط) التي أُخذت في الموضوع و بين القيود الأخرى، و هذا المعيار ينحصر في أحد ثلاثة أمور:
الأمر الأول: العقل.
فالعقل يقتضي أن جميع القيود تُعتبر قيوداً للموضوع و تُلحظ فيه، و في هذه الحالة يكون الحكم متعلقاً بأمر واحد يشمل جميع هذه القيود. ذلك لأن كل قضية، مهما تعددت قيودها، فإنها في النهاية تعود إلى موضوع واحد و محمول واحد.
أما إذا زالت بعض هذه القيود و شككنا في بقاء الحكم السابق - سواء علمنا أن هذا القيد كان جزءاً من الموضوع أو المحمول، أو لم نعلم إلى أيهما ينتمي - فلا يمكن إجراء الاستصحاب (استمرار الحكم). و السبب في ذلك أن الاستصحاب يعني إثبات نفس الحكم السابق لنفس الموضوع السابق، و هذا لا يتوافق مع الشك في أحد هذين العنصرين (الحكم أو الموضوع).
ولكي يجري الاستصحاب، لا بد من إحراز أن الموضوع لم يتغير. فإذا شككنا في أن هذا الموضوع هو نفسه الموضوع السابق أم لا، فلا يمكن إجراء الاستصحاب.
و مع ذلك، إذا كان الشك بسبب تغيّر الزمان - كما في حالات مثل خيار الفسخ - فإن هذا التغير الزماني لا يمنع من جريان الاستصحاب. لأن الاستصحاب يعتمد على إلغاء خصوصية الزمان الأول. ففي الاستصحاب يُقال إن الحكم كان يقينياً في الزمان الأول، ثم طرأ الشك في الزمان اللاحق. و الأدلة على الاستصحاب تدل بنفسها على إلغاء خصوصية الزمان.»
بناءً على ذلك، فإن الاستصحاب في الأحكام الشرعية يجري فقط في الحالات التي يكون فيها الشك من جهة الرافع (المانع) الذاتي أو الوصفي، و لا يشمل الشك في مدخلية الزمان (بالطبع بشرط أن يُعتبر الزمان ظرفاً، أما إذا كان الزمان قيداً، فالمسألة تختلف). أما في الموضوعات الخارجية، فإن الاستصحاب يجري في جميع الحالات.
موارد جريان الاستصحاب:
1. الشك في الرافع.
2. الشك في الزمان كظرف.
3. الشك في الموضوعات الخارجية.
وفي النهاية، إذا لم تكن مدخلية القيود في الموضوع محددة، فإن مجرد الشك في بقاء الموضوع يكفي لمنع جريان الاستصحاب.
المورد الثاني: الرجوع إلى الأدلة
للتعرف على موضوع الأحكام، يمكن الرجوع إلى الأدلة الشرعية. و في هذه الطريقة، يظهر الفرق بين الجملتين التاليتين:
«الماء المتغيّر نجس» و «الماء يتنجس إذا تغيّر».
في الجملة الأولى، موضوع الحكم هو «الماء المتلبس بالتغيّر»، و بناءً على ذلك، بزوال التغيّر يزول الحكم أيضاً. أما في الجملة الثانية، فإن موضوع الحكم هو «الماء نفسه». وفي هذه الحالة، إذا شككنا في مدخلية التغيّر في بقاء الحكم، نقوم باستصحاب النجاسة.
الأستاذ:
إن قلت: يمكن الإشكال بأنه بناءً على هذا المبنى، يكون الشرط بأكمله هو الموضوع، وبناءً على ذلك، فإن هذين المثالين متساويان عملياً.
قلت: نعم، صحيح أن الشرط بأكمله هو الموضوع، ولكن لسان الشارع في الدليلين مختلف. ففي أحد الدليلين، ذُكر الشرط إلى جانب الموضوع، وفي الدليل الآخر، جاء الشرط في جملة لاحقة. هذا الاختلاف في بيان الشارع يؤدي إلى اختلاف في كيفية تشخيص الموضوع.
وبناءً على ذلك، فإن الاستصحاب في موارد الشك التي تكون من غير جهة الرافع (المانع) و لا يوجد دليل لفظي يحدد الموضوع، لا يجري. لأن القيد الذي زال قد يكون له دور في تحديد الموضوع.
أي إنه إذا كان الشك من جهة الرافع، فإن الاستصحاب يجري. أما إذا كان الشك من جهة غير الرافع، و كان الدليل غير لفظي، فلا يمكن تشخيص الموضوع بدقة. وفي هذه الحالة، مع احتمال تغيُّر الموضوع، لا يجري الاستصحاب.
المورد الثالث: الرجوع إلى العرف
في هذه الطريقة، يُرجَع إلى تشخيص العرف. فكلّ ما يصدق عليه عرفًا أنّه “نفس الشيء الذي كان موجودًا سابقًا”، يُطبّق عليه الاستصحاب. حتى لو لم يكن الموضوع محدّدًا بدقة (أي بناءً على المعايير العقلية) أو عند مراجعة الأدلة (أي بالنظر إلى لسان الدليل)، أو حتى إذا تبيّن أنّ ذلك القيد لم يكن جزءًا من الموضوع. بمعنى آخر، بناءً على الدقة العقلية، قد نقول إنّ هذا ليس نفس الموضوع السابق.
على سبيل المثال، ثبت من الأدلة الشرعية أنّ الإنسان الحيّ طاهر، وأنّ الكلب نجس. فإذا مات الإنسان والكلب، وكان العرف على علم بالحكم الشرعي المتعلّق بهما بعد الموت، فإنّ العرف يحكم بزوال طهارة الإنسان وبقاء نجاسة الكلب. وهذا على الرغم من أنّه بناءً على الدقة العقلية، لا يصدق زوال أو بقاء هذه الأحكام. لأنّ الطهارة والنجاسة كانت متعلّقة بحيوانية كلٍّ منهما، وبزوال الحيوانية وتحولهما إلى جماد، تزول هذه الأوصاف أيضًا.
ثم أشار الشيخ الأنصاري إلى مراتب التغيير وقسّمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: جريان الدليل مع تغيّر اسم الموضوع
في هذه الحالات، يحكم العرف بأنّ الدليل الشرعي الوارد على الموضوع يبقى جاريًا، رغم تغيّر اسم الموضوع. بمعنى آخر، لا يعتبر العرف تغيّر الاسم دليلًا على تغيّر ماهية الموضوع، ويطبّق الحكم الشرعي الأولي على الموضوع الجديد أيضًا.
مثال: تحوّل العنب إلى الزبيب
إذا كان الدليل الشرعي ينصّ على طهارة أو حلّية أو نجاسة العنب، فإنّ العرف يعتبر العنب والزبيب من جنسٍ واحدٍ ومن ماهيّة واحدة، ويُطبّق الحكم الشرعي للعنب على الزبيب أيضًا.
على سبيل المثال، إذا كان العنب نجسًا، يقول العرف إنّ الزبيب الناتج عنه أيضًا نجس؛ وإذا كان العنب حلالًا، يحكم العرف بأنّ الزبيب أيضًا حلال. وهذا يعود إلى تقارب ماهيّة العنب والزبيب، حيث لا يوجد سوى تغيّر ظاهري في الشكل.
القسم الثاني: الحاجة إلى الاستصحاب عند تغيّر الموضوع
في هذه الحالات، لا يستطيع العرف أن يحكم مباشرةً بأنّ الدليل الوارد على الموضوع الأصلي ينطبق على الموضوع الجديد، بل يتطلّب الأمر الرجوع إلى الاستصحاب. هنا، يكون تغيّر ماهيّة الموضوع أكثر وضوحًا، ولكن العرف لا يزال يحتمل بقاء الحكم الأصلي، ما لم يرد دليل شرعي ينصّ على خلاف ذلك.
مثال: تحوّل الخمر إلى الخلّ
الخمر محرّم بسبب الإسكار، ولكن إذا تحوّلت إلى خلّ، لا يستطيع العرف أن يستنتج مباشرةً أنّ الحكم الشرعي للخمر (التحريم) ينطبق على الخلّ. في هذه الحالة، ورد دليل شرعي يثبت حلّية الخلّ الناتج عن هذا التحوّل، وبالتالي يُلغى الاحتياج إلى الاستصحاب.
مثال: تحوّل الكلب إلى جماد بسبب الموت
الكلب الحيّ نجس، ولكن بعد موته وتحوله إلى جماد، لا يستطيع العرف مباشرةً أن يحكم ببقاء نجاسة الكلب على الجماد. في هذه الحالة، عادةً ما يُطبّق العرف استصحاب النجاسة، ما لم يرد دليل شرعي ينافي ذلك (وفي حالة الكلب، لا يوجد دليل شرعي ينفي النجاسة).
القسم الثالث: عدم جريان الدليل وعدم جريان الاستصحاب
في هذه الحالات، لا يحكم العرف بجريان الدليل الذي ورد على الموضوع الأصلي، ولا يُطبّق الاستصحاب. لأنّه يحتمل أن يكون الموضوع قد تغيّر تمامًا في ماهيّته، بحيث لم يعد يصدق عليه الموضوع الأصلي ولو عرفًا.
مثال: تحوّل الزيت النجس إلى دخان
إذا كان الزيت نجسًا واحترق وتحول إلى دخان، فإنّ العرف لا يحكم بجريان نجاسة الزيت على الدخان (لأنّ ماهيّته قد تغيّرت تمامًا)، ولا يُطبّق استصحاب نجاسة الزيت على الدخان. السبب هو أنّ العرف لا يعتبر الدخان امتدادًا للزيت بأيّ شكل، بل يراه موضوعًا جديدًا مختلفًا في ماهيّته. ([2] )
هذه التقسيمات توضّح حالات تغيّر الموضوع:
1. التغيّر الجزئي (مثل تحوّل العنب إلى الزبيب)، حيث يحكم العرف بجريان الحكم الأولي.
2. التغيّر الملحوظ (مثل تحوّل الخمر إلى الخلّ أو الكلب إلى جماد)، حيث يحتاج العرف إلى الاستصحاب، ما لم يرد دليل شرعي ينافي ذلك.
3. التغيّر الكامل (مثل تحوّل الزيت إلى دخان)، حيث لا يحكم العرف بجريان الحكم الأولي ولا يُطبّق الاستصحاب، لأنّ ماهيّة الموضوع تغيّرت تمامًا.
ثمّ قال الشيخ:
«إن المقصود مراعاة العرف في تشخیص الموضوع و عدم الاقتصار في ذلك على ما یقتضیه العقل على وجه الدقّة و لا على ما یقتضیه الدلیل اللفظي إذا كان العرف بالنسبة إلى القضیة الخاصّة على خلافه و حینئذٍ فیستقیم أن یراد من قولهم: "إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء" أنّ مقتضى ظاهر دلیل الحكم تبعیة ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق علیه الحكم في ظاهر الدلیل، فیراد من هذه القضیة تأسیس أصل قد یعدل عنه بقرینة فهم العرف أو غیره فافهم»([3] ).