46/08/23
بسم الله الرحمن الرحیم
التنبیه الرابع عشر؛ البحث حول قول الرابع و الخامس/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه الرابع عشر؛ البحث حول قول الرابع و الخامس
التنبيه الرابع عشر: التمسك بعموم العام أو استصحاب حكم المخصص
البحث في القول الرابع والخامس
في سياق مباحث الاستصحاب، ننتقل الآن إلى دراسة التنبيه الرابع عشر، والذي موضوعه هو: هل يجب في الحالات الخاصة التمسك بالعام أو بالمخصص؟
وأحيانًا يحدث أن يخرج فرد معين في زمن خاص من تحت عنوان العام. والسؤال هنا هو: هل يعود هذا الفرد بعد ذلك الزمن مشمولًا بحكم العام، أو يجب أن يستمر حكم المخصص في حقه؟
وفي هذا الشأن، طُرحت آراء مختلفة بين الأصوليين. ومن بين الآراء المهمة، رأي الشيخ الأنصاري(قدس سره)، حيث ذهب إلى التفصيل في هذه المسألة، وميّز بين فرضين:
• أن يكون الزمن مفردًا للعام.
• أن يكون الزمن ظرفًا للعام.
الفرض الأول: الزمان كمفرد عام
إذا اعتُبر الزمان كمفرد عام، فإن التمسك بالعام يصبح واجباً وفقاً لرأي الشيخ الأنصاري(قدس سره). و السبب في ذلك هو أن كل فرد من الزمان يُعتبر وحدة مستقلة. و بالتالي، إذا خرج فرد معين من الزمان عن نطاق العام، فإن هذا الخروج يقتصر على ذلك الفرد الخاص فقط، ولا يؤثر على بقية الأفراد.
بعبارة أخرى، في هذه الحالة، خروج فرد واحد من نطاق العام لا يعني خروج بقية الأفراد، و فيما يتعلق ببقية الأفراد (أي الأزمنة الأخرى)، يجب التمسك بنفس العام. و بصياغة مبسطة، كل زمان يُعتبر فرداً مستقلاً، و خروج زمان معين عن نطاق العام ليس له ارتباط بالأزمنة الأخرى.
الفرض الثاني: الزمان كظرف عام
إذا اعتُبر الزمان كظرف عام، فإن الموضوع يصبح أكثر تعقيداً. في هذا الفرض، يشمل العام جميع الأفراد في إطار ظرف زمني معين. و لهذا السبب، في هذه الحالة إذا خرج فرد من الأفراد المخصصين، فمن القاعدة أن تبقى بقية الأفراد تحت حكم العام.
مع ذلك، يقدم الشيخ الأنصاري(قدس سره) رأياً مختلفاً حول هذا الأمر. حيث يقول إنه بالرغم من أن العام يبدو أنه يشمل جميع الأفراد في ظرف زمني معين، إلا أنه عندما يخرج فرد من نطاق العام، فلا يمكن إعادته مرة أخرى إلى نطاق العام.
بعبارة أخرى، الفرد الذي كان في الماضي يقيناً تحت حكم المخصص و نحن الآن نشك في حالته، يبقى تحت حكم المخصص. و هذه النتيجة تُستخلص بالتمسك بأصل الاستصحاب، لأننا على يقين بأنه سابقاً كان هذا الفرد تحت حكم المخصص، و الآن حيث نشك في استمرار هذا الحكم، فإننا نُجري عليه نفس حكم المخصص وفقاً لأصل الاستصحاب.
توضيح إضافي حول “ظرفية” الزمان
لفهم الفرض الثاني بصورة أفضل، أي عندما يُعتبر الزمان كظرف عام، يجب توضيح مفهوم “الظرفية” بشكل أكثر دقة. في هذه الحالة، يُنظر إلى الزمان على أنه إطار أو سياق شامل يحتوي جميع الأفراد المشمولين بالعام. و لهذا السبب، خروج فرد من نطاق العام يعني خروجه من هذا الإطار الزمني.
مع ذلك، يرى الشيخ الأنصاري(قدس سره) أن خروج الفرد من نطاق العام يكون دائماً، و حتى بعد انتهاء زمن المخصص لا يمكن إعادة حكم العام إليه. لأن أصل الاستصحاب يدل على أن الفرد الذي كان سابقاً تحت حكم المخصص يبقى مشمولاً بنفس الحكم، ما لم يوجد دليل قطعي يثبت تغيير الحكم.
بيان القول الرابع من الشيخ الأنصاري(قدس سره)
يقول الشيخ الأنصاري(قدس سره):
«الحقّ هو التفصيل في المقام بأن يُقال: إن أُخذ فيه عموم الأزمان أفرادياً، بأن أُخذ كلّ زمانٍ موضوعاً مستقلاً لحكم مستقلّ، لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان، كقوله: “أكرم العلماء كلّ يوم”، فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة، و مثله ما لو قال: “أكرم العلماء”، ثم قال: “لا تكرم زيداً يوم الجمعة”، إذا فُرض الاستثناء قرينةً على أخذ كلّ زمان فرداً مستقلاً، فحينئذٍ يُعمَل عند الشك بالعموم و لا يجري الاستصحاب، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الأصول، لعدم قابلية المورد للاستصحاب.
و إن أُخذ لبيان الاستمرار…»[1]
الشرح:
حقاً، يرى الشيخ الأنصاري(قدس سره) أن في هذا المقام يجب التفصيل. فإذا اعتُبر عموم الأزمان عموماً أفرادياً، بحيث يُنظر إلى كل زمان كموضوع مستقل لحكم مستقل، فإن العموم ينحلّ إلى أحكام متعددة بتعدّد الأزمان. على سبيل المثال: إذا قيل “أكرم العلماء كل يوم”، ثم أُقيم الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة، أو قيل “أكرم العلماء”، ثم أُضيف “لا تكرم زيداً يوم الجمعة”، فإن هذا الاستثناء قد يُعتبر قرينةً على أن كل زمان يُعتبر فرداً مستقلاً للحكم.
في هذه الحالة، عند حصول الشك يُعمل بالعموم، و لا يُجري أصل الاستصحاب. و إذا لم يوجد عموم، فإنه يجب الرجوع إلى الأصول الأخرى لأن المورد لا يكون قابلاً لتطبيق الاستصحاب. و السبب هو أن الحكم المتعلق بيوم الجمعة مستقل عن الحكم المتعلق بيوم السبت، تماماً كما لو أردنا تطبيق حكم خاص بعمرو على زيد، و هذا غير ممكن.
إذا اعتُبر الزمان ظرفاً للاستمرار و لم يُنشئ عموماً أفرادياً للعام، كما لو قيل: «أكرم العلماء دائماً»، ثم استُثني فرد معين (مثل زيد) في وقت خاص من هذا العام، و شككنا بعد ذلك في حكم هذا الفرد بعد ذلك الوقت، ففي هذه الحالة الظاهر أن الاستصحاب يجب أن يجري.
و السبب في ذلك هو أن إثبات الحكم لهذا الفرد بعد الوقت الخاص لا يؤدي إلى تخصيص زائد على التخصيص المعلوم. بمعنى: عندما يُستثنى زيد من العام، فإن إجراء الاستصحاب له لا يؤدي إلى إخراج فرد جديد من العام. بعبارة أخرى، زيد قد خرج من العام سابقاً، و نحن الآن نشك هل لا يزال خارجاً أم لا؛ و هنا نقول إن الاستصحاب يجري بأن زيد لا يزال خارجاً، لأن ذلك لا يؤدي إلى إخراج فرد جديد من العام.
بعبارة أخرى، لا يلزم من هذا الحكم لهذا الفرد بعد الوقت أن يُنشئ تخصيصاً زائداً. فهنا زيد هو الموضوع، و الأزمنة ليست أفراداً مستقلة. لذلك، فإننا نشك في هذا الفرد هل لا يزال داخل المخصص أم لا، و لهذا يجري الاستصحاب. و على خلاف القسم الأول، حيث خروج زيد في اليوم التالي يُعتبر فرداً جديداً للعام، فإن هنا زيد هو الفرد الأصلي، و الأزمنة ليست أفراداً مستقلة.
النتيجة: هنا يكون مجرى الاستصحاب فقط و لا مجال للرجوع إلى العام، لأنّه لا يوجد فرد جديد؛ بل الموضوع هو نفس الفرد الذي خرج فقط.
كما لا يوجد فرق بين أن يُفهم استمرار الحكم من اللفظ، كما في المثال السابق، أو يُفهم من إطلاق جملة مثل: «تواضع مع الناس»، بشرط أن يُفهم منه الاستمرار. ففي مثل هذه الحالة، إذا خرج التواضع في بعض الأزمنة، بحيث لا يُفهم من التخصيص أنّ المتكلم اعتبر كلّ زمان فرداً مستقلاً للحكم، فإنّ الحكم بعد الخروج يُستصحب. و هذا ليس من باب تخصيص العام بواسطة الاستصحاب.
تحليل كلام الشيخ(قدس سره):
ما ذكره الشيخ(قدس سره) يعتمد على فرضين:
الفرض الأول: فردية الزمان
أي أن يُعتبر الزمان قيداً بحيث يكون عموم الأزمنة عموماً أفرادياً استغراقياً، و كلّ زمان يُعتبر موضوعاً مستقلاً لحكم مستقل. في هذه الحالة، يُتمسّك بعموم الحكم.
الفرض الثاني: ظرفية الزمان
في هذا الفرض، يُعتبر الزمان ظرفاً و لا يلعب دوراً في كثرة أو تمييز الحكم، بل يُؤخذ فقط لبيان استمرار الحكم. و هنا يُشار إلى العموم الزمني باعتباره عموماً مجموعياً، بمعنى أن الحكم هو تكليف واحد يشمل جميع اللحظات و الأزمنة دفعةً واحدة.
النتيجة: إذا جاء دليل مخصّص و أخرج فرداً من الأفراد المشمولة بالحكم في جزء من الزمان، فإن الحكم في ذلك الجزء الخاص من الزمان يسقط. و لكن عندما ينتهي ذلك الجزء الزمني، فلا يمكن التمسّك بعموم الحكم لتحديد التكليف في الأزمنة اللاحقة. و في هذه الحالة، المرجع هو استصحاب حكم المخصّص، أي الحكم الذي ثبت بالتخصيص في الفترة الزمنية المعيّنة.
بعبارةٍ أبسط في هذا الفرض، إذا خرج فرد من شمول الحكم في جزء من الزمان بسبب ورود دليل مخصّص، فلا يمكن الرجوع إلى عموم الحكم العام في الأزمنة اللاحقة، بل يجب تحديد وضع الفرد في الأزمنة المستقبلية بالاستناد إلى الاستصحاب.
تفسير المحقق النائيني(قدس سره) لكلام الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره):
ما يبدو من ظاهر عبارة الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) هو التفريق بين كون الزمان قيداً و كونه ظرفاً. و لكن المحقق النائيني(قدس سره)، خلافاً لظاهر عبارة الشيخ، فسّر كلامه بطريقة مختلفة.
استند المحقق النائيني(قدس سره) في هذا التفسير إلى عبارةٍ للشيخ(قدس سره) في بحث خيار الغبن في كتاب المكاسب، و استخدمها كقرينة لفهمه المختلف لكلام الشيخ.
يرى المحقق النائيني(قدس سره) أن ظاهر كلام الشيخ(قدس سره) هنا (في هذا البحث) يُشير إلى أنّه قد فرّق بين كون الزمان قيداً و كونه ظرفاً. و لكن بناءً على العبارة التي ذكرها الشيخ(قدس سره) في بحث خيار الغبن، يستنتج المحقق النائيني(قدس سره) أن التفصيل الذي قصده الشيخ(قدس سره) هو في الواقع بين الحالتين التاليتين:
1. إذا اعتُبر الزمان في ناحية متعلّق الحكم:
في هذه الحالة، يمكن التمسّك بالعموم. و عندما يكون الزمان قيداً لمتعلّق الحكم، فإن الزمان سيكون، من حيث الرتبة، مقدّماً على الحكم. و السبب في هذا التقدّم هو أنّ متعلّق الحكم، من حيث الرتبة، يسبق نفس الحكم. و بناءً على ذلك، عندما يُعتبر الزمان قيداً للمتعلّق، فإنه يتقدّم أيضاً رتبةً على الحكم تبعاً لتقدّم المتعلّق.
2. إذا اعتُبر الزمان في ناحية نفس الحكم:
في هذه الحالة، لا يمكن التمسّك بالعموم. فإذا كان الزمان قيداً لنفس الحكم، فإن الحكم سيكون مقدّماً على الزمان. و ذلك لأن المتعلّق يُحدَّد أولاً، ثم يُصدر الحكم، و بعد ذلك يُطرح الزمان كقيد للحكم لتحديد مدى استمرار هذا الحكم.
لذلك، المحقق النائيني(قدس سره)، من خلال استناده إلى كلام الشيخ(قدس سره) في بحث خيار الغبن، قدّم تفسيراً مختلفاً، و اعتبر أنّ التفصيل الذي قصده الشيخ(قدس سره) هو في الواقع الفرق بين كيفية اعتبار الزمان في متعلّق الحكم و كيفية اعتباره في نفس الحكم، و ليس مجرد التفريق بين كون الزمان قيداً أو ظرفاً.
بیان مقدمات المحقق النائيني(قدس سره):
لتوضيح المرام، قدّم المحقق النائيني(قدس سره) ثلاث مقدمات، و قال:
«لابد لتوضيح المرام من تقديم [ثلاث] مقدمات…»[2]
المقدمة الأولى:
كل شيء موجود في عالم الكون و الفساد يرتبط بالزمان و المكان. من حيث ارتباطه بالزمان، يقع ضمن مقولة “متى” (متى؟)، و من حيث ارتباطه بالمكان، يقع ضمن مقولة “أين” (أين؟). و بناءً على ذلك، فإن الزمان و المكان هما ظرف وقوع الموجودات في هذا العالم.
لكن طبيعة الزمان لا تقتضي أكثر من ذلك. فإذا أُريد اعتبار الزمان كقيد مكثر (أي قيد يسبب الكثرة و التمايز)، فإن ذلك يحتاج إلى عناية إضافية و دليل خاص.
بعبارة أبسط:
كل عالم يُعتبر فرداً واحداً لعنوان «العلماء»، و هذا الفرد هو نفسه في جميع الأزمنة. فإذا أُريد القول بأن هذا الشخص في أزمنة مختلفة (مثل زيد يوم الجمعة و زيد يوم السبت) هم أفراد مختلفون، فإن ذلك يحتاج إلى دليل أو قرينة إضافية تُثبت هذا التمايز. و إلا، فإن زيد يوم السبت هو نفسه زيد يوم الجمعة، و لا يوجد فرق بينهما.
علاقة ذلك بجريان الاستصحاب:
جريان الاستصحاب يقوم على هذا الأساس؛ لأنه إذا اعتُبر الزمان قيداً مكثرًا للوجوب أو متعلق الوجوب، فإن ما نعلمه يقيناً سيكون مغايراً لما نشك فيه، و بذلك لا يجري الاستصحاب. و السبب هو أنّ شرط جريان الاستصحاب هو اتحاد القضية المتيقنة و القضية المشكوكة.
مقدمه ثانية:
بما أنّ الزمان هو المحدّد للحركات، فلا بدّ من اعتبار الزمان في ناحية الحكم أو متعلّق الحكم. أما بالنسبة لموضوع الحكم، الذي يكون من قبيل الجواهر، فلا معنى لاعتبار الزمان في ناحيته.
وعندما يُعتبر الزمان في الحكم أو المتعلّق، فإن ذلك يكون إما على نحو الظرفية (كون الزمان ظرفاً للحكم أو المتعلّق)، أو على نحو القيد. وفي كلا الحالتين، قد تكون عمومية الزمان على أحد شكلين:
عمومية استغراقية: بمعنى أنّ كلّ زمان يكون مستقلاً موضوعاً لحكم مستقل.
عمومية مجموعية: بمعنى أنّ مجموع الأزمنة تكون تحت حكم واحد. وفي هذه الحالة، إذا حدث عصيان في لحظة معينة، فإن الحكم بأكمله يسقط، كما هو الحال في العمومية المجموعية في غير الزمان أيضاً.
إذا اعتُبر الزمان في متعلّق الحكم على نحو الظرف أو القيد، سواء كان ذلك استغراقياً أو مجموعياً، فإن دلالة العمومية الزمانية قد تُستفاد من نفس دليل الحكم الأصلي (على نحو المطابقة). وذلك لأن الحكم كما يرد على المتعلّق، يرد أيضاً على جميع القيود المعتبرة فيه.
كما قد يكون هناك دليل آخر، متصل أو منفصل عن دليل الحكم الأصلي، يدلّ على هذه العمومية. وفي كلتا الحالتين، تكون العمومية الزمانية في مرتبة متقدّمة على نفس الحكم.
أما إذا اعتُبر الزمان في ناحية نفس الحكم، فلا يمكن اعتبار دليل جعل الحكم متكفّلاً ببيان استمرار الحكم. وذلك لأن العمومية الزمانية التي تدخل على الحكم هي من قبيل الأحكام الثابتة لموضوعاتها. وبالتالي، يجب أن يكون الحكم في مرتبة متقدّمة على العمومية الزمانية له. ولهذا السبب، لا يمكن أن تُجعل هذه العمومية الزمانية في نفس الوقت الذي يُجعل فيه الحكم.
الدليل الذي يدلّ على العمومية الزمانية يجب أن يكون متميّزاً عن الدليل الذي يدلّ على أصل الحكم؛ سواء كان هذا الدليل من مقدمات الحكمة، أو إجماعاً، أو دليلاً منفصلاً.
مقدمه ثالثة:
قد سبق بيان أنّ اعتبار الزمان كقيد للحكم أو المتعلّق يختلف عن اعتباره ظرفاً للحكم أو المتعلّق؛ وهذا الفرق يتجلّى في إمكان أو عدم إمكان التمسّك بالاستصحاب عند الشك. أمّا إذا اعتُبر الزمان في ناحية متعلّق الحكم، فإن الفرق بينه وبين اعتباره في ناحية نفس الحكم هو أنه إذا كان التخصيص في وقت معيّن معلوماً، وكان هناك شك بالنسبة للأوقات اللاحقة، ففي الحالة الأولى (اعتبار الزمان كقيد للمتعلّق) يمكن التمسّك بالعموم، أمّا في الحالة الثانية (اعتبار الزمان كقيد للحكم) فلا يمكن التمسّك بالعموم.
توضيح المسألة: إذا اعتُبر الزمان في ناحية المتعلّق، سواء كان ظرفاً أو قيداً، وسواء كان استغراقياً أو مجموعياً، كما سبق بيانه، فإن الحكم يرد عليه، ويكون العموم الزماني، مثل العموم الأفرادي، في مرتبة سابقة على الحكم. ولذلك، كما أنّ خروج بعض الأفراد من العموم لا يمنع التمسّك بالعموم في الحالات الأخرى، فإن خروج بعض الأزمنة أيضاً لا يمنع التمسّك بالعموم في الأزمنة الأخرى.
وذلك لأن الفرض هو أنّ كلّ زمان، مثل كلّ فرد، مشمول بالحكم. ولهذا السبب، إذا خرجت بعض الأزمنة من العموم (كما في مسألة خيار الغبن)، فلا يوجد مانع من التمسّك بالعموم في الأزمنة الأخرى.
أما إذا افترضنا وجود مانع من التمسّك بالعموم، ففي هذه الحالة لا يجري الاستصحاب في الزمان الثاني أيضاً، خصوصاً إذا اعتُبر الزمان قيداً. وذلك لأن الشك هنا لا يتعلق ببقاء الحكم، وإنما يتعلق بوجود حكم جديد للزمان الآخر. وهذا الأمر واضح وجلي.
وأما إذا اعتُبر الزمان في ناحية نفس الحكم، فمن حيث إن العموم يرد على نفس الحكم، فإن الدليل المتكفّل لهذا العموم لا يمكن أن يتكفّل أصل وجود الحكم. بل يجب افتراض أنّ أصل وجود الحكم قد ثبت مسبقاً، لكي يتمكّن دليل العموم من بيان استمراره.
لذلك، عندما يكون أصل وجود الحكم مشكوكاً في زمان معين بعد التخصيص، فلا يمكن التمسّك بدليل العموم لإثبات استمراره.
بعبارة أخرى، النقطة الأساسية هنا هي أنه إذا اعتُبر الاستمرار بعد أصل الحكم، فلا يمكن التمسّك بالعموم. لأن الشك في أصل وجود الحكم يُفقد الاستمرار أيضاً. وفي مثل هذه الحالة، نحن لا نعلم حتى ما إذا كان الحكم، بعد التخصيص، باقياً بالنسبة لهذا الفرد أو هذا الزمان أم لا. وبالتالي، لا يمكن التمسّك باستمراره.
لذلك، الشك في أصل وجود الحكم يؤدي إلى انهيار عموم الاستمرار.
بعبارة أبسط: العموم الثابت للحكم يُشبه عرضاً يُثبت لموضوع. والدليل الذي يثبت هذا العرض للموضوع لا يمكنه أن يتحدث عن وجود أو عدم وجود الموضوع نفسه. أقصى ما يمكن أن يثبته هذا الدليل هو أن العرض ثابت للموضوع عند تحقّقه ووجوده.
محقق النائيني(قدس سره) قدّم تفسيراً مختلفاً لكلام الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره). نحن نقول إن الشيخ(قدس سره) يرى أنه إذا اعتُبر الزمان مفرداً أو ظرفاً، يمكن التمسّك بالعام. ولكن المحقق النائيني(قدس سره) يقول إن المقصود من كون الزمان مفرداً ليس أن يُعتبر الزمان وحده، بل أن يكون الزمان تحت الحكم ويُنتج أفراداً للحكم.
بعبارة أخرى:
1. إذا كان الزمان قيداً للمتعلّق، فإنه يجزّئ المتعلّق إلى أفراد، ويُثبت الحكم لكلّ هذه الأفراد. وبالتالي، إذا خرج فرد من الحكم (مثل يوم الجمعة)، فإن فرداً آخر (مثل يوم السبت) يبقى تحت العام. وحتى إذا اعتُبر الزمان ظرفاً للمتعلّق، فإن النتيجة تبقى كما هي، لأن الزمان يجزّئ المتعلّق إلى أفراد قبل ورود الحكم عليه.
2. أما إذا كان الزمان قيداً لنفس الحكم، ففي هذه الحالة يُعتبر الزمان في رتبة لاحقة للحكم؛ بمعنى أن الحكم يُثبت أولاً، ثم يُوضَّح أنّ هذا الحكم يستمرّ إلى وقت معيّن. وفي هذا الوضع، يكون العموم عموماً مجموعياً. ولهذا، إذا خرج فرد واحد من تحت هذا الحكم (مثل يوم معيّن)، فإن الحكم العام بأكمله يزول، ولا يمكن التمسّك بالعموم بعد ذلك.
على سبيل المثال، جملة «حلال محمد(صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة»[3] تعبّر فقط عن استمرار الحلّية في حال ثبوتها. وبالتالي، كما أن هذه الجملة لا يمكنها إثبات الحلّية في حال الشك في أصل الحلّية لشيء ما، فهي أيضاً لا تستطيع إثبات الحلّية في حال الشك فيها بعد تخصيصها في وقت معيّن. وفي مثل هذه الحالات، لا يوجد سبيل سوى التمسّك بالاستصحاب.
ومن هنا يتضح أنه إذا كان التمسّك بالاستصحاب غير ممكن (كما في الحالات التي يُعتبر فيها الزمان قيداً)، فإن التمسّك بالعموم أيضاً لن يكون ممكناً. ولذلك، تكون النتيجة أن موارد التمسّك بالعموم تختلف جوهرياً عن موارد التمسّك بالاستصحاب.