« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/08/18

بسم الله الرحمن الرحیم

التنبیه العاشر؛ المطلب الثاني؛ التتمة/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /التنبیه العاشر؛ المطلب الثاني؛ التتمة

 

تتمة: الاستصحاب في المقام قد یكون شخصیاً و قد یكون كلیاً

اقترب بحثنا في التنبيه العاشر من نهايته وقلنا في النهاية إن جريان الاستصحاب ممكن في جميع أقسام الاستصحاب، سواء في مجهول التاريخ أو في معلوم التاريخ. بالطبع، في بعض الحالات، يسقط الاستصحاب بسبب التعارض، وقد درسنا هذا البحث سابقًا وبيّنا أنه في مثل هذه الحالات، يعود الوجوب إلى الأصل العملي.

ولكن بقيت تتمة، وهي أن الاستصحاب هنا يكون أحيانًا شخصيًا وأحيانًا كليًا. نفس أقسام الاستصحاب الكلي التي بحثناها بالتفصيل سابقًا في المباحث الماضية وفي المجلد الحادي عشر، تُطرح هنا أيضًا. أحيانًا يجري الاستصحاب الكلي؛ كيف؟ أحيانًا يصبح الاستصحاب شخصيًا، كما نرى في مورد الاستصحاب الجاري في معلوم التاريخ. بمعنى أنه في معلوم التاريخ، يكون زمن وقوع الحادثة محددًا، مثلاً نعلم أن الحادثة وقعت في زمن معين ومعلوم وليست مترددة بين عدة أزمنة. هذا النوع من الاستصحاب شخصي. ولكن أحيانًا يصبح الاستصحاب كليًا، مثل الاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ. هنا لدينا أمر كلي، ولكننا لا نعلم في أي زمن وقع هذا الأمر أو أنه متردد بين عدة حالات. وبعبارة أخرى، هذا الأمر الكلي قابل للانطباق على حالات مختلفة. السؤال الآن هو هل يجري الاستصحاب الكلي في مثل هذه الحالات أم لا؟ الجواب هو أن الاستصحاب الكلي يكون أحيانًا من القسم الثاني وأحيانًا من القسم الرابع.

أ) الكلي من القسم الثاني:

بيّن المحقق الخوئي(قدس‌سره) مثالاً لهذا القسم[1] . لنفترض أن شخصًا استيقظ من النوم في الساعة الأولى وصدر منه حدث أصغر في الساعة الثالثة. ولكنه لا يعلم هل توضأ في الساعة الثانية أم الساعة الرابعة. هنا:

     استصحاب الحدث: بما أن زمن وقوع الحدث (الساعة الثالثة) محدد، فهذا الاستصحاب شخصي.

     استصحاب الطهارة: بما أن زمن الوضوء مجهول (متردد بين الساعة الثانية والرابعة)، سيكون هذا الاستصحاب من نوع الكلي من القسم الثاني. لأنه إذا كان قد توضأ في الساعة الثانية، فقد ارتفع قطعًا (لأن الحدث الأصغر وقع في الساعة الثالثة). أما إذا كان قد توضأ في الساعة الرابعة، فهو مقطوع البقاء. إذن هنا، الطهارة مترددة بين مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء، وهذا أحد مصاديق الاستصحاب الكلي من القسم الثاني.

ب) الكلي من القسم الرابع:

في الكلي من القسم الثاني قلنا إن الاستصحاب يجري، ولكن في الكلي من القسم الرابع أيضًا يمكن جريان الاستصحاب. بيّن المحقق الخوئي(قدس‌سره) مثالاً لهذا القسم أيضًا[2] . لنفترض أن شخصًا توضأ وعلم أن وضوءه تحقق في الساعة الثالثة. ولكنه يتردد بشأن الحدث الأصغر، هل وقع هذا الحدث في الساعة الثانية أم في الساعة الرابعة. هنا:

     استصحاب الطهارة: بما أن زمن الوضوء معلوم (الساعة الثالثة)، فهذا الاستصحاب شخصي.

     استصحاب الحدث الأصغر: هو من الكلي من القسم الرابع. لأن حدث النوم قد ارتفع بالوضوء قطعًا. أما بخصوص الحدث الأصغر، فإذا كان هذا الحدث قد وقع في الساعة الثانية، فلم يعد حدثًا جديدًا (لأنه ارتفع بوضوء الساعة الثالثة). أما إذا كان قد وقع في الساعة الرابعة، فهو حدث جديد. هنا، الحدث متردد بين ما ارتفع قطعًا وما هو مشكوك الحدوث. وعليه، يجري الاستصحاب الكلي من القسم الرابع هنا. هذه كانت تتمة البحث في التنبيه العاشر، وبهذه التوضيحات، انتهى بحثنا في هذا القسم.

و هذا تمام الكلام في التنبیه العاشر.

التنبیه الحادي عشر: جریان الاستصحاب عند الشك في المانع و القاطع

جریان الاستصحاب عند الشك في المانع و القاطع

في التنبيه الحادي عشر؛ يدور البحث حول جريان الاستصحاب عند الشك في المانع والقاطع. لنرَ ما يجب فعله هنا.

في بحثنا، النقطة التي يجب أن نطرحها هي أن الحديث الآن يدور حول استصحاب صحة العمل، وذلك في حالة الشك في وجود المانع. أي جريان الاستصحاب في حالة الشك هل كان هناك مانع أم لا.

وكذلك في حالة الشك في القاطع. قال البعض إن استصحاب صحة العمل يجري في مثل هذه الحالات. ولكن قبل الدخول في البحث، يجب الانتباه إلى عدة نقاط:

     ما الفرق بين المانع والقاطع؟

     وماذا نقصد أساسًا بصحة العمل؟

تبيين الشك في صحة العمل

الشك في صحة العمل يكون أحيانًا من جهة الشبهة الموضوعية وأحيانًا من جهة الشبهة الحكمية. كما أن صحة العمل يمكن أن يكون لها معنيان:

١. صحة الأجزاء السابقة: والمقصود بها الصحة التأهلية؛ حتى تنضم إليها بقية الأجزاء.

٢. صحة كل مجموعة العمل: المقصود بها صحة العبادة كلها، كمجموعة كاملة. إذن، يجب أولاً تحديد ما نقصده بصحة العمل. هل المقصود صحة الأجزاء السابقة (على سبيل المثال، عندما نكون في منتصف العبادة) أم المقصود صحة العمل كله (الذي يُدرس بعد الانتهاء من العبادة)؟ إذا كنا في أثناء العمل، فالمقصود بالصحة هو صحة الأجزاء السابقة. بمعنى أننا نشك هل الأجزاء التي أديناها حتى الآن كانت صحيحة أم لا. على سبيل المثال:

     إذا شككت في منتصف الصلاة هل اختلت الموالاة (ارتباط وتتابع أجزاء الصلاة) أم لا، فهذا الشك يتعلق بالهيئة الاتصالية للصلاة.

     أو إذا شككت في منتصف الطواف أو السعي هل الأشواط التي أديتها حتى الآن كانت صحيحة أم لا، فهذا الشك يتعلق بالأجزاء السابقة.

أما إذا كان الشك بعد الانتهاء من العبادة، فلا يُطرح بعد ذلك بحث عن الأجزاء السابقة، بل السؤال هو هل العبادة كلها صحيحة أم لا. على سبيل المثال:

     صليت الصلاة كلها والآن تشك هل كان هناك مانع في هذه العبادة أم لا.

     أديت الطواف كله وتشك هل تسبب شيء في بطلان العمل كله أم لا. في هذه الحالة، يُطرح الشك في صحة العمل كله، لا في أجزائه. والآن يجب أن ندخل في البحث ونرى كيف يجري الاستصحاب في هذه الحالات وكيف يمكننا إثبات صحة العمل.

الشبهة الموضوعية

قيل في الشبهة الموضوعية إنه لا يوجد أي مانع لجريان الاستصحاب؛ سواء في الحالات التي يوجد فيها شك في تحقق المانع أو القاطع، أو في الحالات التي يُطرح فيها الشك في مانعية أو قاطعية الموجود. في هذه الحالات، تُستخدم طريقة “ضم الوجدان إلى الأصل”. وفيما يلي، سندرس هذا الموضوع بدقة أكبر. تنقسم أجزاء العمل العبادي إلى فئتين رئيسيتين:

١. الأجزاء الوجودية: الأجزاء التي يكون وجودها وتحققها شرطًا لصحة العمل العبادي.

٢. الأجزاء العدمية: الأجزاء التي يُعتبر عدم تحققها شرطًا لصحة العمل العبادي. تُطرح هذه الأجزاء عادة بصورة شروط عدمية في العبادات، مثل عدم وجود مانع أو قاطع.

نُحرز الأجزاء الوجودية عن طريق الوجدان. وهذا يعني أن وجود وتحقق هذه الأجزاء يثبت بشكل مباشر وبالعلم والمشاهدة. وتتم الأجزاء العدمية عن طريق الاستصحاب. في هذه الحالات، إذا كنا في الماضي على يقين من عدم وجود مانع، فإننا الآن أيضًا بالاستصحاب نقول إن المانع لا يزال غير موجود. وبالمثل، إذا لم يكن هناك قاطع في الماضي، نستصحب أن القاطع غير موجود الآن أيضًا.

الشبهة الحكمية

في الشبهة الحكمية، ينقسم البحث إلى موضعين:

١. صحة الأجزاء السابقة: يتعلق بالوقت الذي نكون فيه في منتصف العبادة وندرس صحة الأجزاء الماضية.

٢. صحة مجموع الأعمال: يتعلق بالوقت الذي انتهت فيه العبادة وتُقيّم صحة العمل العبادي كله. نبدأ هنا بالموضع الأول، أي صحة الأجزاء السابقة.

الموضع الأول: صحة الأجزاء السابقة

لنفترض أنك في منتصف الصلاة وتشعر بالشك فيما إذا كان هناك مانع أو قاطع يؤثر على صحة الأجزاء الماضية أم لا. السؤال هو: هل يمكننا إحراز صحة الأجزاء الماضية بالاستصحاب وإكمال بقية العبادة أم لا؟ حول جريان استصحاب صحة الأجزاء السابقة، توجد ثلاث وجهات نظر رئيسية:

القول الأول: القول بجريان استصحاب الصحة

ترى مجموعة من الفقهاء جريان استصحاب الصحة في هذه الحالات. طُرح هذا الرأي من قبل أعلام مثل الشيخ الطوسي، وابن إدريس الحلي، والمحقق الحلي، والعلامة الحلي(قدس‌سرهم). تعتقد هذه الفئة أن استصحاب الصحة يمكن أن يكون كافيًا لإثبات صحة الأجزاء الماضية، وأن إكمال العبادة بالاعتماد عليه ممكن.[3]

القول الثاني: القول بعدم جريان استصحاب الصحة

ترى مجموعة أخرى من الأصوليين عدم جريان استصحاب الصحة في هذه الحالات. من بين هؤلاء الأعلام يمكن الإشارة إلى صاحب الفصول، والمرحوم النائيني[4] ، والمرحوم الأصفهاني، والمرحوم الخوئي(قدس‌سرهم)[5] . تعتقد هذه المجموعة أن استصحاب الصحة لا يجري في مثل هذه الحالات ولا يمكن استخدامه لإحراز صحة الأجزاء الماضية.

القول الثالث: القول بالتفصيل

فصّل بعض الفقهاء الآخرين بين حالات الشك في القاطعية والشك في المانعية. من بين هؤلاء الأعلام يمكن الإشارة إلى الشيخ الأنصاري(قدس‌سره)[6] . بناءً على وجهة النظر هذه:

     في حالات الشك في القاطعية (أي الشك فيما إذا كان شيء ما قاطعًا للعبادة أم لا)، يجري استصحاب الصحة.

     أما في حالات الشك في المانعية (أي الشك فيما إذا كان شيء ما مانعًا لصحة العبادة أم لا)، فلا يجري استصحاب الصحة. وجهة النظر هذه، التي طرحها الشيخ الأنصاري(قدس‌سره)، قد عززها العديد من المحققين، وهي في رأينا أيضًا أقوى الأقوال في هذه المسألة.

تقرير الشيخ الأنصاري(قدس‌سره) لقول عدم جريان استصحاب صحة الأجزاء السابقة

في شرح وجهة نظر القائلين بعدم جريان استصحاب الصحة، يتناول المرحوم الشيخ الأنصاري(قدس‌سره)، في تقرير هذا القول، المسألة بتحليل دقيق ويبيّن أن الإشكال الرئيسي يكمن في عدم ارتباط المشكلة بصحة الأجزاء السابقة. يبدأ بحثه بتبيين معنى “الصحة” ثم يصل إلى نتيجة مفادها أن استصحاب صحة الأجزاء السابقة، لعدم ارتباطه بمنشأ المشكلة، لا تأثير له في حل المسألة.

يقول سماحته:

«أمّا صحّة الأجزاء السابقة فالمراد بها إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها و إمّا ترتیب الأثر علیها.

أمّا موافقتها للأمر([7] ) المتعلّق بها فالمفروض أنّها متیقّنة، سواء فسد العمل أم لا، لأنّ فساد العمل لایوجب خروج الأجزاء المأتي بها على طبق الأمر المتعلّق بها عن كونها كذلك؛ ضرورة عدم انقلاب الشيء عمّا وجد علیه.

و أمّا ترتیب الأثر([8] )، فلیس الثابت منه للجزء من حیث إنّه جزء إلا كونه بحیث لو ضمّ إلیه الأجزاء الباقیة مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ في مقابل الجزء الفاسد و هو الذي لایلزم من ضمّ باقي الأجزاء و الشرائط إلیه وجود الكلّ.

و من المعلوم أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائماً، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقیة أم قطع بعدمه، أم شك في ذلك فإذا شك في حصول الفساد من غیر جهة تلك الأجزاء فالقطع ببقاء صحّة تلك الأجزاء لاینفع في تحقّق الكلّ مع وصف هذا الشك فضلاً عن استصحاب الصحّة.

مع ما عرفت من أنّه لیس الشك في بقاء صحّة تلك الأجزاء بأي معنی اعتبر من معاني الصحّة»[9] .

يشير المرحوم الشيخ الأنصاري(قدس‌سره) إلى أن الصحة يمكن تفسيرها بأحد المعنيين التاليين:

١. الموافقة لأمر الشارع: العمل الصحيح يعني أنه أُدي وفقًا لأمر الشارع.

٢. ترتب الأثر الشرعي: العمل الصحيح يترتب عليه أثر شرعي؛ بمعنى أنه في حال انضمام بقية الأجزاء والشروط، يكتمل العمل العبادي ويترتب عليه الأثر.

يدرس الشيخ(قدس‌سره) في تقرير قول القائلين بعدم جريان استصحاب الصحة، المسألة في حالتين:

١. إذا كانت الصحة بمعنى الموافقة لأمر الشارع: في هذه الحالة، تكون الأجزاء السابقة التي أُديت حتى الآن موافقة لأمر الشارع وهذه الموافقة قطعية. بتعبير المرحوم الشيخ الأنصاري(قدس‌سره): «ضرورة عدم انقلاب الشیء عمّا وُجد علیه» أي أن الشيء لا يتغير عما تحقق عليه.

وعليه، فإن الأجزاء السابقة التي أُديت وفقًا لأمر الشارع تبقى موافقة للأمر. الشبهة الموجودة هنا تتعلق باحتمال وجود مانع أو قاطع، لا بصحة الأجزاء السابقة. لذا، في هذه الحالة، يوجد يقين بصحة الأجزاء السابقة وينتفي استصحاب الصحة موضوعًا، لأن الاستصحاب يجري حيث يوجد شك في البقاء، بينما هنا لدينا يقين بصحة الأجزاء السابقة.

٢. إذا كانت الصحة بمعنى ترتب الأثر: في هذه الحالة أيضًا، تتمتع الأجزاء السابقة، كأجزاء صحيحة، بالقدرة على إكمال العمل العبادي إذا انضمت إليها بقية الأجزاء والشروط. وعليه، فإن ترتب الأثر على الأجزاء السابقة محفوظ ولا توجد مشكلة من هذه الناحية. بتعبير الشيخ(قدس‌سره): «إذا انضمت إليها بقية الأجزاء والشروط، يتشكل الكل». وعليه، فإن شكنا ليس في صحة الأجزاء السابقة، بل في وجود مانع أو قاطع قد يمنع من تحقق العمل العبادي الصحيح بشكل كلي.

سبب عدم جريان استصحاب الصحة

يقول الشيخ الأنصاري(قدس‌سره) في شرح سبب عدم جريان استصحاب الصحة: «فالقطع ببقاء صحة تلك الاجزاء لاینفع في تحقق الکل، مع وصف هذا الشك.» بمعنى أنه حتى لو كان لدينا قطع بصحة الأجزاء السابقة، فإن هذا القطع لا تأثير له في تحقق العمل العبادي كله، لأن المشكلة الرئيسية ليست من ناحية الأجزاء السابقة، بل من ناحية الشك في وجود مانع أو قاطع. وعليه، فلن يكون لاستصحاب الصحة فائدة أيضًا، لأن حتى اليقين بصحة الأجزاء السابقة لا يمكنه حل المشكلة. يقول سماحته: «الشك في وجود مانع أو قاطع لا يضر بصحة الأجزاء السابقة، لأن صحة الأجزاء السابقة باقية كصحة تأهلية وهذه الصحة قطعية.» وبعبارة أخرى، أُديت الأجزاء السابقة بشكل صحيح وصحتها التأهلية محفوظة، ولكن شكنا يكمن في هل يوجد مانع يمنع من تحقق العمل كله أم لا.

تقرير المرحوم الخوئي(قدس‌سره)

على الرغم من أن المرحوم الخوئي(قدس‌سره) يرى عدم جريان استصحاب صحة الأجزاء السابقة، إلا أنه قدم تقريرًا جميلاً ودقيقًا للاستصحاب يسمى الاستصحاب التعليقي. ورغم أنه هو نفسه لا يقبل هذا النوع من الاستصحاب، إلا أن تقريره جدير بالاهتمام. الاستصحاب التعليقي يعني أن «كان الأمر سابقًا بحيث لو انضمت بقية الأجزاء لكان ذا أثر؛ والآن أيضًا نقول لو انضمت بقية الأجزاء فسيكون ذا أثر».

يقول سماحته:

١. الأجزاء السابقة (مثلاً الأجزاء الخمسة الأولى من الصلاة) التي أديتها حتى الآن، لا شك في صحتها ولها تأهل للتأثير.

٢. لو انضمت في الماضي بقية الأجزاء (الأجزاء الخمسة المتبقية) إلى هذه الأجزاء ولم يكن هناك مانع أو قاطع، لحصل امتثال أمر الشارع.

٣. الآن نستصحب ذلك نفسه: أي نقول لو انضمت بقية الأجزاء ولم يتحقق مانع، فالعمل صحيح ويتحقق الامتثال. حتى قبل الشك في المانع وظهور المانع كان هذا الوضع موجودًا؛ أي قبل حدوث المانع، لو انضمت بقية الأجزاء، لكان العمل ذا أثر. والآن نقول أيضًا لو انضمت الأجزاء ولم يتحقق المانع، فسيظل العمل ذا أثر.

على الرغم من هذا التقرير، لا يقبل المرحوم الخوئي(قدس‌سره) الاستصحاب التعليقي ويقول: إن الاستصحاب يجري حيث يكون الحكم أو الموضوع موجودًا في الماضي بشكل فعلي ومتحقق. أما في الاستصحاب التعليقي، فالموضوع (انضمام بقية الأجزاء) كان موجودًا في الماضي بشكل فرضي فقط، لا فعلي. وعليه، فإن الاستصحاب لا يجري أساسًا في مثل هذه الحالات.[10]

تفصيل الشيخ الأنصاري(قدس‌سره)[11]

فصّل المرحوم الشيخ الأنصاري(قدس‌سره) في بحث الشك في المانع والشك في القاطع.

يقول سماحته:

     «إنّه قد یكون الشك في الفساد من جهة احتمال فقد أمر معتبر أو وجود أمر مانع و هذا هو الذي لایعتنی في نفیه باستصحاب الصحّة؛ لما عرفت من أنّ فقد بعض ما یعتبر من الأمور اللاحقة لایقدح في صحّة الأجزاء السابقة.

     و قد یكون من جهة عروض ما ینقطع معه الهیأة الاتصالیة المعتبرة في الصلاة، فإنّا استكشفنا من تعبیر الشارع عن بعض ما یعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع أنّ للصلاة هیأة اتصالیة ینافیها توسّط بعض الأشیاء في خلال أجزائها الموجب لخروج الأجزاء اللاحقة عن قابلیة الانضمام و الأجزاء السابقة عن قابلیة الانضمام إلیها فإذا شك في شيء من ذلك وجوداً أو صفةً جری استصحاب صحّة الأجزاء بمعنی بقائها على القابلیة المذكورة فیتفرّع على ذلك عدم وجوب استینافها أو استصحاب الاتّصال الملحوظ بین الأجزاء السابقة و ما یلحقها من الأجزاء الباقیة فیتفرّع علیه بقاء الأمر بالإتمام.

     و هذا الكلام و إن كان قابلاً للنقض و الإبرام إلا أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفیة في كثیر من الاستصحابات جریان الاستصحاب في المقام»[12] .

     في الشك في المانع: لا يجري الاستصحاب.

     في الشك في القاطع: يجري الاستصحاب.

لتوضيح هذا التفصيل، يجب أولاً شرح الفرق بين المانع والقاطع.

الفرق بين المانع والقاطع

     المانع: المانع هو شيء اعتبر الشارع عدمه كشرط أو قيد في العبادة؛ بمعنى أن وجوده يُسقط العبادة من الاعتبار. على سبيل المثال، إذا قال الشارع إن «الشيء الفلاني لا يجب أن يكون أثناء الصلاة»، فإن وجود ذلك الشيء يوجب بطلان العبادة. هنا، شكنا يتعلق بما إذا كان الشارع قد جعل شيئًا مانعًا أم لا.

     القاطع: القاطع هو شيء يخل بالهيئة الاتصالية بين أجزاء العبادة؛ بمعنى أن الأجزاء السابقة واللاحقة لم تعد تستطيع تشكيل عمل واحد. على سبيل المثال، في الطواف أو الصلاة، إذا حدث فاصل طويل (مثلاً تأمل لمدة عشر دقائق في منتصف الطواف أو الصلاة)، فقد يقطع هذا الفاصل الهيئة الاتصالية ويوجب بطلان العبادة.

يقول الشيخ الأنصاري(قدس‌سره): إذا كان شكنا في وجود مانع شرعي أم لا، فلا فائدة من استصحاب صحة الأجزاء السابقة. والسبب هو أن احتمال وجود المانع يتعلق بأمر اعتبره الشارع كشرط أو قيد في العبادة، وحتى لو كان لدينا يقين بصحة الأجزاء السابقة، فإن هذا اليقين لا يمكنه نفي المانع الشرعي. بتعبيره: «فقدان ما هو معتبر من الأمور اللاحقة لا يضر بصحة الأجزاء السابقة، ولكن العبادة لن تكون صحيحة مع ذلك بسبب احتمال وجود المانع.» وعليه، لا يجري استصحاب صحة الأجزاء السابقة هنا؛ لأنه حتى لو استصحبنا صحة الأجزاء السابقة، تبقى مشكلة الشك في وجود المانع قائمة.

يرى الشيخ الأنصاري(قدس‌سره) رأيًا مختلفًا بشأن الشك في القاطع. يقول سماحته: القاطع هو شيء يخل بالهيئة الاتصالية بين الأجزاء السابقة واللاحقة؛ مثل التوقف الطويل أو الفاصل الكبير بين الأجزاء. إذا كان شكنا في وقوع القاطعية أم لا، يجري الاستصحاب. هناك طريقتان لحل هذه المشكلة:

الطريقة الأولى: استصحاب صحة الأجزاء السابقة

في هذه الحالة، يعني الاستصحاب أن الأجزاء السابقة لا تزال لديها قابلية الانضمام مع الأجزاء اللاحقة. بتعبير الشيخ(قدس‌سره): «نجري استصحاب صحة الأجزاء السابقة ونقول إن هذه الأجزاء لا تزال لديها قابلية الانضمام مع الأجزاء اللاحقة، فلا يلزم إعادة العبادة من البداية». مثال: في الطواف، إذا توقفت بعد أداء ثلاثة أشواط لفترة طويلة (مثلاً ١٥ دقيقة) وشككت هل أخل هذا التوقف بالهيئة الاتصالية أم لا، يقول الاستصحاب إن الأجزاء السابقة (الأشواط المنجزة) لا تزال صحيحة ولها قابلية الانضمام. بمعنى أنه يمكنك إكمال الأشواط المتبقية ولا حاجة لبدء الطواف من جديد.

الطريقة الثانية: استصحاب الاتصال أو الموالاة

في هذه الحالة، نستصحب الاتصال أو الموالاة نفسها بدلاً من استصحاب صحة الأجزاء. أي: «كان الاتصال والموالاة بين الأجزاء موجودين سابقًا؛ والآن نشك هل زال هذا الاتصال أم لا، فنستصحب أن الاتصال لا يزال قائمًا». مثال: في الصلاة، إذا توقفت بعد ركعتين لفترة طويلة (مثلاً ١٠ دقائق) وشككت هل أوجب هذا التوقف قطع الاتصال أم لا، يقول الاستصحاب إن الاتصال قائم والصلاة صحيحة.

ثلاث مناقشات على هذا التفصيل

المناقشة الأولى: رأي المرحوم النائيني والمرحوم الخوئي(قدس‌سرهما)

المرحوم النائيني والخوئي(قدس‌سرهما) من بين الذين ناقشوا قول الشيخ الأنصاري(قدس‌سره). يمكن تلخيص هذه المناقشة في عدة نقاط أساسية:

١. عدم وجود فرق بين المانع والقاطع

يقول المرحوم النائيني(قدس‌سره):

«إنّه لم‌یظهر لنا بَعدُ أنّ اعتبار المانعیة یغایر اعتبار القاطعیة، بل الظاهر من الأدلّة هو اعتبار نفس الأعدام في الصلاة مطلقاً من جهة مانعیة الوجودات. غایة الأمر أنّ بعض الأعدام معتبر في خصوص الأفعال و الأذكار، و بعضها معتبر فیها مطلقاً و لو في حال السكنات و عدم الاشتغال بشيء منها. و مجرّد تسمیة القسم الثاني بالقاطع لایكشف عن اعتبار الهیأة الاتصالیة حتّی لایكون العدم معتبراً إلا من جهة الإخلال بها»[13] .

يعتقد سماحته أن الشارع اعتبر نفس الأعدام (عدم وجود بعض الأمور) في العبادات. تظهر هذه الأعدام أحيانًا في صورة مانعية (أي لا يجب وجود شيء ما)، وأحيانًا في صورة قاطعية (أي لا يجب أن تختل الهيئة الاتصالية). ولكن حسب رأيه، لا يوجد أي فرق جوهري بين المانع والقاطع؛ لأن كلاهما يعود بطريقة ما إلى الإخلال بالعبادة.

٢. تقسيم الأعدام إلى فئتين

يقسم المرحوم النائيني(قدس‌سره) الأعدام إلى فئتين:

     أعدام تتعلق بالأفعال والأذكار: مثل أنه لا يجوز أثناء الصلاة القيام بعمل مثل الأكل أو التحدث.

     أعدام مطلقة: أي حالة يجب مراعاتها حتى في السكون وعدم الانشغال بشيء؛ مثل الموالاة في الصلاة أو الطواف.

ويؤكد أن القسم الثاني (الأعدام المطلقة المتعلقة بالهيئة الاتصالية) نسميه «قاطعًا»، ولكن هذه التسمية لا تبرر فصله جوهريًا عن المانع. وبعبارة أخرى، القاطعية مجرد اسم، واعتبار الهيئة الاتصالية هو أيضًا بحيث لو اختلت هذه الهيئة، فإنها تؤدي نفس دور المانع.

٣. عدم الكشف عن فرق من الأدلة الشرعية

يقول المرحوم النائيني(قدس‌سره) إنه لا يمكن الكشف عن مثل هذا الفرق من الأدلة الشرعية بحيث يكون المانع والقاطع شيئين منفصلين لهما آثار مختلفة. حسب رأيه، اعتبر الشارع الأعدام بشكل عام، سواء كانت في صورة مانعية أو قاطعية، وهذان لا يختلفان اختلافًا أساسيًا.

باختصار، يعتقد المرحوم النائيني(قدس‌سره) أن:

     المانع والقاطع لا يختلفان: كلاهما يعتبر عدم وجود شيء ما في العبادة.

     تسمية القاطع لا تخلق فرقًا جوهريًا: مجرد ارتباط القاطع بالهيئة الاتصالية لا يجعله منفصلاً عن المانع.

     الهيئة الاتصالية هي أيضًا جزء من اعتبار الشارع: وعليه، فإن أي إخلال بالهيئة الاتصالية يضر باعتبار العبادة تمامًا مثل وجود المانع.

للمرحوم الخوئي(قدس‌سره) أيضًا توضيحات في هذه المناقشة سيتم تناولها في الجلسة التالية نظرًا لتفصيلها وأهميتها.

 


[1] مصباح الأصول (ط.ج): ج‌3، ص247: «إن كان معلوم التاريخ موافقاً للحالة السابقة على الحالتين، كما إذا قام أحد من النوم في الساعة الأولى من النهار، ثم صدر منه وضوء و بول مثلاً و شك في المتقدم منهما مع العلم بأن البول صدر منه في الساعة الثالثة من النهار، و لكنه لايدري أن الوضوء هل صدر في الساعة الثانية أو الرابعة ... و هو المورد للقسم الثاني من استصحاب الكلي».
[2] مصباح الأصول (ط.ج): ج‌3، ص247: «و أما إن كان معلوم التاريخ مخالفاً للحالة السابقة، كما إذا علم بتحقق الوضوء في الساعة الثالثة في المثال السابق، و لم‌يعلم بأن البول صدر في الساعة الثانية أو الرابعة ... و هذا هو المورد للقسم الرابع من استصحاب الكلي».
[3] الشيخ الطوسي في الخلاف، ج3، ص150 و المبسوط، ج2، ص146؛ و ابن إدريس في السرائر، ج1، ص220؛ المحقق الحلي في المعتبر، ج1، ص54؛ و العلامة في نهاية الإحكام، ج1، ص538 و تذكرة الفقهاء، ج1، ص24.اختار هذا القول المحقق الهمداني و المحقق العراقي - قد تقدم ضمن عبارته التي نقلناها في الهامش ص115 - و السید الگلپایگاني. مصباح الفقيه، ج3، ص424 – 425: «وأمّا كفاية إتمام غسله وعدم وجوب استئنافه من رأس: فلاستصحاب صحّة الأجزاء المأتيّ بها، الحاكم على استصحاب أثر الجنابة و أصالة الاشتغال، فإنّ معنى استصحاب صحّة الأجزاء السابقة ترتيب آثارها الشرعيّة الثابتة لها قبل عروض ما يشكّ في ناقضيّته، و هي كونها مؤثّرة في حصول الطهارة بشرط لحوق سائر الأجزاء بها ... و ليس استصحاب صحّة الأجزاء عند الشكّ في ناقضيّة الحدث الصادر في الأثناء كاستصحاب صحّة الأجزاء عند الشكّ في مانعيّة الموجود، كما لو شكّ في اشتراط صحّة الصلاة بعدم تخلّل الفصل الطويل أو عدم وقوع الكلام في أثنائها، فإنّه ربما يناقش في استصحاب الصحّة في مثل هذه الموارد، نظراً إلى أنّ وجود ما يشكّ في مانعيّته يورث الشكّ في بطلان الأجزاء اللاحقة بمعنى عدم قابليّتها للانضمام إلى الأجزاء السابقة ... هذا، مع أنّا قد وجّهنا فيما علَّقناه على رسائل شيخنا المرتضى رحمه الله التمسّك بأصالة الصحّة في سائر الموارد أيضاً، من أراده فليراجع».كتاب الطهارة، السيد الگلپايگاني.، ص138: «القول الثالث أنه يتمّ الغسل و يتوضأ للصلاة، و هذا القول هو الأقوى. أما وجوب الاتمام و عدم بطلان الغسل بوقوع الحدث في أثنائه فلاقتضاء استصحاب صحة الأجزاء المأتي بها - ذلك و ليس لنا دليل دالّ على بطلان الغسل بتخلل الحدث في أثنائه»
[4] فوائد الأصول، ج4، ص530: «التنبيه العاشر: ربما قيل: بجريان استصحاب صحة الأجزاء السابقة في باب العبادات عند الشك في عروض المانع أو القاطع. و قد تقدم في مباحث الأقل و الأكثر أنه لا مجال للاستصحاب في ذلك فراجع».
[5] مصباح الأصول (ط.ج): ج‌2، ص251: «أما ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المانعية، فمتينٌ جداً، و لايمكن جريان استصحاب الصحة إلا على نحو التعليق، و قد تقدم‌ عدم حجية الاستصحاب التعليقي و لاسيما في الموضوعات كما في المقام، و أما ما ذكره من جريان الاستصحاب عند الشك في القاطع، فغير تامٍّ لوجوه»‌.و سلك مسلكهما شرح العروة الوثقى، الشيخ مرتضى الحائري.، ج4، ص403 – 404: «و أمّا استصحاب صحّة الأجزاء السابقة كما في مصباح الفقيه و المستمسك فلايخلو عن الإشكال فإنّ الصحّة الفعليّة غير متيقّنة، بل المتيقّن عدمها، و أمّا الصحّة الحيثيّة بمعنى تماميّة المركّب من حيث الأجزاء السابقة و أنّه لو تعقّبت بالأجزاء اللاحقة بما لها من الشرائط الوجوديّة و العدميّة لأثّرت في حصول الطهارة عن الحدث الأكبر فمتيقّنة البقاء».منتقى الأصول، ج6، ص340: «المتحصل من جمیع ما ذكرنا عدم صحة جریان استصحاب الصحة عند الشك في طروّ المانع أو القاطع أو الناقض»
[6] و هو جریان الاستصحاب عند الشك في القاطعیة و سيأتي بيان الشيخ و تبعه السید صادق الروحاني في فقه الصادق، ج5، ص128: «لو قطع العرف بكون فعل ماحیاً للصلاة فلا إشكال، أما لو شك في ذلك فیرجع إلى الاستصحاب بناء على ما هو الحقّ من أن للصلاة هیأة اتصالیة یعبر عنها بالصورة الصلاتیة ... و دعوی عدم معقولیة الهیأة الاتصالیة للمركب ... مندفعة ...».فقه الصادق.، ج8، ص98: «السادسة: لو نوى القطع أو القاطع، فإما أن يكون قبل عقد نية الصوم أو بعده، و الأول مضى حكمه بأقسامه، و إن كان بعده فلا شك في كونه حراماً لو كان الصوم واجباً معيناً لكونه عزماً على الحرام و اتباعاً للهوى. و إنما وقع الخلاف في إفساده للصوم و عدمه ... و استدل للصحة بوجوه: الأول: استصحاب الصحة السابقة، و فيه: أن جريانه يبتني على أن يكون للصوم هيئة اتصالية يعبر عنها بالصورة الصومية كما تقدم في كتاب الصلاة، و حيث لا دليل عليه فالأقوى عدم جريانه»
[7] المعنی الأول: موافقة الأمرالاستدلال على عدم جریان استصحاب الصحة بالمعنی الأول:فرائد الأصول، ج2، ص488: «أن المستصحب ... إن كان صحة الأجزاء السابقة منها فهي غير مجدية؛ لأن صحة تلك الأجزاء إما عبارة عن مطابقتها للأمر المتعلق بها، و إما ... و لايخفى أن الصحة بكلا المعنيين باقية للأجزاء السابقة؛ لأنها بعد وقوعها مطابقة للأمر بها لاتنقلب عما وقعت عليه...».مناقشة في هذا الاستدلال:نهایة الأفكار: «و من هذا البيان ظهر الحال في الصحة بمعنى موافقة الأمر، فإنه على ما ذكرنا لا قصور في استصحابها أيضاً من دون فرق بين القول بإمكان المعلق و فعلية التكليف الجزء الأخير من المركب في ظرف الإتيان بالجزء الأول منه و لو بالتفكيك بين فعلية الأمر المتعلق بالأجزاء و فاعليته، و بين القول بعدم إمكانه و المصير إلى تدريجية فعلية التكليف المتعلق بأجزاء المركب بجعل فعلية التكليف بكلّ جزء في ظرف فاعليته الذي هو ظرف الإتيان به و هذا على الأول ظاهر و كذلك على الثاني فإنه بتبع تدريجية التكليف المتعلق بالإجزاء يتدرج الموافقة الفعلية أيضاً و بإيجاد مشكوك المانعية مثلاً في الأثناء يشك في بقاء الموافقة الفعلية التدريجية، فيجري فيها الاستصحاب على نحو جريانه في سائر الأمور التدريجية، و أما توهم عدم شرعية المستصحب حينئذ لكونه أمراً عقلياً يدفعه كونه مما أمر وضعه و رفعه بيد الشارع و لو بتوسيط منشئه الذي هو أمره و تكليفه، و يكفي هذا المقدار من شرعية الأثر في باب الاستصحاب».
[8] المعنی الثاني: ترتب الأثر بمعنی قابلیة الأجزاء السابقة للحوق باقي الأجزاء.الاستدلال على عدم جریان استصحاب الصحة بالمعنی الثاني:فرائد الأصول: «إن المستصحب ... إن كان صحة الأجزاء السابقة منها فهي غير مجدية؛ لأن صحة تلك الأجزاء إما ... و إما ترتب الأثر عليها، و المراد بالأثر المترتب عليها: حصول المركب بها منضمة مع باقي الأجزاء و الشرائط؛ إذ ليس أثر الجزء المنوط به صحّته إلا حصول الكل به منضماً إلى تمام غيره مما يعتبر في الكل و لايخفى أن الصحة بكلا المعنيين باقية للأجزاء السابقة؛ لأنها ... هي بعد على وجه لو انضمّ إليها تمام ما يعتبر في الكل حصل الكل، فعدم حصول الكل لعدم انضمام تمام ما يعتبر في الكل إلى تلك الأجزاء، لايخلّ بصحتها...».فوائد الأصول: «استصحاب الصحة التأهلية مع أنه يرجع إلى الاستصحاب التعليقي الباطل من أصله- كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في محلّه- مما لا مجال لجريانه، للقطع ببقاء الصحة التأهلية في الأجزاء السابقة حتى بعد وقوع الزيادة التي يشك في مانعيتها، فإن الزيادة لو كانت مانعة فإنما هي تمنع عن صلاحية لحوق الأجزاء الباقية إلى الأجزاء السابقة و لاتضر بصحة الأجزاء السابقة، فإن الأجزاء السابقة بعد باقية على ما وقعت عليه من الصحة التأهلية، لأن الصحة التأهلية ليست إلا عبارة عن وقوع الأجزاء على وجهٍ تصلح للحوق الأجزاء الأخر إليها، و هذا المعنى يدور مدار كون الجزء حال صدوره واجدا للشرائط المعتبرة فيه، فإن كان واجداً لها فلامحالة يقع صحيحاً و لو مع تعقبه بما يقطع كونه مانعاً، فإن الشي‌ء لاينقلب عما وقع عليه، فالشك في مانعية الزيادة الواقعة في الأثناء لايوجب الشك في بقاء الصحة التأهلية للأجزاء السابقة لكي يجري فيها الاستصحاب».مناقشة في هذا الاستدلال:نهایة الأفكار: «و بما ذكرنا ظهر الحال في الصحة بمعنى قابلية الأجزاء السابقة المأتي بها للحوق بقية الأجزاء بها و اتصافها بلحوق البقية بالمؤثرية في الفرض فإنها أيضاً مما تمّ فيه أركانه، لأنها أي الأجزاء السابقة قبل احتمال وجود المانع أو طروّ مشكوك المانعية كانت مقطوعة صحتها بالمعنى المزبور و بعد احتمال وجود المانع يشك في بقائها على القابلية المزبورة فتستصحب و الصحة بهذا المعنى واسطة في الحقيقة بين الصحة الاقتضائية المحضة المجامعة مع اليقين بوجود المانع، و بين الصحة الفعلية الدفعية أو التدريجية».
[9] فرائد الأصول، ج‌2، ص670.المعنی الثالث: المؤثریة الفعلیة أو التمامیة من حیث الأثرنهایة الدرایة: «إن الصحة المستصحبة ليست بمعنى موافقة الأمر، حتى يقال: إنها متيقنة بالفعل لا مشكوكة، و لا بمعنى أن الأجزاء السابقة بحيث لو انضمت إليها الأجزاء اللاحقة لحصل المركب، حتى يقال: إن الشرطية متيقنة بالفعل أيضاً، و لاينافي القطع بها الشك في إمكان الانضمام بعد عروض العارض المشكوك، فإن صدق الشرطية لايستدعي صدق طرفيها بل بمعنى بقاء الأجزاء السابقة على ما كان لها من الاستعداد المترتب عليها، أو ذلك الأثر الناقص الحاصل منها، فإن بقاءهما بعد عروض العارض مشكوك فيستصحب، فالصحة بمعنى التمامية من حيث الأثر فالاستصحاب من حيث اليقين السابق و الشك اللاحق لا محذور فيه».الاستدلال على عدم جریان استصحاب الصحة بالمعنی الثالث:نهایة الأفكار: «تقریب المنع هو ... إن كان المراد منها [أي الصحة] الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية، فهي مما لا سبيل إلى استصحابها لعدم كون الصحة بهذا المعنى مما له حالة سابقة، لأنها إنما تكون في ظرف الإتيان بالمأمور به بما له من الأجزاء و الشرائط و عدم الموانع و الأضداد و مع الشك في مانعية الموجود لا يقين بالصحة الفعلية بمعنى المؤثرية للأجزاء السابقة حتى يستصحب‌».مناقشة في هذا الاستدلال:نهایة الأفكار: «إن ما أفيد في غاية المتانة إذا كان الأثر المترتب عليها دفعي الحصول و التحقق عند تحقق الجزء الأخير من المركب، إما لكون المؤثر الفعلي هو الجزء الأخير، أو لكون مؤثرية الفعلية لها منوطة بتحقق الجزء الأخير و إلا فعلى فرض تدريجية حصوله شيئاً فشيئاً من قبل الأجزاء بحيث يكون كل جزء مؤثراً في مرتبة منه إلى أن يتم أجزاء المركب، فيتحقق تلك المرتبة من الأثر الخاص المترتب على المجموع، كما لو كان الأثر من الحقائق التشكيكية المترتبة كل مرتبة منه على وجود جزء من أجزاء المركب التدريجي، فلا قصور في استصحاب الصحة للأجزاء السابقة، فإنه بتحقق أول جزء من العبادة تحقق الصحة و المؤثرية الفعلية فيتّصف الجزء المأتي به بالمؤثرية، و بوقوع مشكوك المانعية في الأثناء يشك في بقاء الصحة و انقطاعها، فيجري فيها الاستصحاب كسائر الأمور التدريجية، و إن شئت قلت: إن الصحة بالمعنى المزبور تبعاً لمنشأ انتزاعها التدريجي تكون تدريجية، فإذا علم بتحقق جزء أو جزءين يقطع بتحقق الصحة و بعد تحقق المشكوك المانعية يشك في بقاء الصحة بتلاحق بقية الأجزاء و الشرائط، فتستصحب».
[10] استدلال آخر على عدم جریان استصحاب الصحة بالمعنى الثالث:نهایة الدرایة: «إن الأثر المترقب منه أمران: أحدهما: عدم وجوب استيناف الأجزاء السابقة و ثانيهما: حصول المركب بانضمام ذوات الأجزاء اللاحقة، فإن ترتب الأول ظاهراً لايقتضي التعبد بالثاني إلا على الأصل المثبت.و ترتب كل منهما على الصحة المستصحبة لايخلو عن إشكال: أما الأول فإن وجوب الاستئناف و عدمه ليسا حكمين جديدين من الشارع، بحيث يترتب الأول على فساد الأجزاء السابقة و الثاني على صحتها بل إما حكمان عقليان مترتبان على بقاء الأمر و سقوطه، كما في وجوب الإعادة و عدمه بعد العمل أو هما عبارتان عن نفس بقاء الأمر و سقوطه و عدم قبول الأول للتعبد واضح و ترتب الثاني كذلك عند التحقيق ... و أما الثاني، فلأن حصول المركب- بانضمام سائر الأجزاء إلى الأجزاء السابقة- لازم عقلي لبقاء الأجزاء السابقة على ما كان عليه من الاستعداد و الأثر الناقص، فلايترتب على التعبد ببقائها. و أما دعوى‌ استلزام التعبد ببقاء الأجزاء السابقة على ما هي عليه، للتعبد بحصول المركب من انضمام الأجزاء اللاحقة عرفاً، كما في نظير المقام عن شيخنا العلامة (رفع الله مقامه) فمدفوعةٌ بأن ما استثناه شيخنا. في البحث عن الأصل المثبت صورتان لاينطبق شي‌ء منهما على ما نحن فيه إحداهما: التعبد بأحد المتضايفين، فإنه تعبد بالآخر، نظراً إلى أنه كواحد ذي وجهين. ثانيتهما: التعبد بالعلة التامة أو الجزء الأخير منها، فإنه يستلزم التعبد بالمعلول عرفاً و إن كانا اثنين ...»
[11] فرائد الأصول، ج2، ص670 - 671 بنفس العبارة.
[12] ذكر الشيخ بیاناً آخر في آخر بحث دوران الأمر في الواجب بین الأقل و الأكثر، في أمور متعلقة بالجزء و الشرط، الأمر الأول، المسألة الثانیة زیادة الجزء عمداً:فرائد الأصول، ج2، ص489: «إن حكم الشارع على بعض الأشياء بكونه قاطعاً للصلاة أو ناقضاً، يكشف عن أن لأجزاء الصلاة في نظر الشارع هيئة اتصالية ترتفع ببعض الأشياء دون بعض؛ فإن الحدث يقطع ذلك الاتصال و التجشؤ لايقطعه، و القطع يوجب الانفصال القائم بالمنفصلين، و هما في ما نحن فيه الأجزاء السابقة و الأجزاء التي تلحقها بعد تخلل ذلك القاطع، فكل من السابق و اللاحق يسقط عن قابلية ضمّه إلى الآخر و ضمّ الآخر إليه، و من المعلوم: أن الأجزاء السابقة كانت قابلة للضمّ إليها و صيرورتها أجزاء فعلية للمركب، و الأصل بقاء تلك القابلية و تلك الهيئة الاتصالية بينها و بين ما يلحقها، فيصح الاستصحاب في كل ما شك في قاطعية الموجود».و طبّق الشیخ هذا المبنی في كتبه الفقهیة:رسائل فقهية، ص285: «الثاني من وجوه تقرير الأصل: استصحاب صحة صلاته الحاضرة على أنها حاضرة إذا ذكر الفائتة في أثنائها فإن القائل بالمضايقة يدعي فساد الصلاة إذا استمرّ على نيّتها الأولى عند تذكر الفائتة و الأصل عدمه، و يرد عليه أنه قد حقّقنا في الأصول عدم جريان استصحاب الصحة إذا شك في أثناء العمل في شرطية أمر فقد أو مانعية أمر وجد كالترتيب بين الحاضرة و الفائتة فيما نحن فيه».كتاب الطهارة، ج2، ص394: «(و لو زال العذر) في أثناء الصلاة (أعاد الوضوء) و استأنف الصلاة أيضاً (على تردّد فيه) ينشأ من دخوله فيها دخولاً مشروعاً فيمضي، لاستصحاب الصحّة ... و أمّا استصحاب الصحّة فغير جارٍ في مثل المقام ممّا كان الشكّ فيه في تحقّق جميع ما عدا الأجزاء السابقة من الشرائط و الأجزاء، و إنّما يجري في مورد الشكّ في انقطاع الصلاة و ارتفاع الهيئة الاتّصالية الملحوظة بين أجزائها كالتكلَّم، و تمام الكلام في محلّه».
[13] . بیان آخر من المحقق النائیني.: «للنظر فيه مجال؛ أما أولاً: فلأن مجرد تعلق النواهي الغيرية بمثل الالتفات و نحوه لايدل على أن ما‌ وراء الأجزاء الخارجية أمر وجودي آخر يسمى بالجزء الصوري، بحيث‌ يكون فعلاً للمكلف أو مسبباً توليدياً له، فإن مجال المنع عن ذلك واسع، بل لقائل أن يقول: إنه ليست الصلاة إلا عبارة عن عدّة من الأجزاء و الشروط مقيدة بعدم تخلل القواطع في الأثناء، من دون أن يكون لها هيئة اتصالية». فوائد الأصول، ج4، ص235
logo