46/08/13
بسم الله الرحمن الرحیم
حقیقة النسخ/دوران الأمر بین النسخ و التخصیص /العامّ والخاصّ
الموضوع: العامّ والخاصّ/دوران الأمر بین النسخ و التخصیص /حقیقة النسخ
متن الکفایة:
وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا ، وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقاً ولو كان قبل حضور وقت العلم ، لعدم لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى ، بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة ، ولا لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، فإن الفعل إن كان مشتملاً على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه ، وإلاّ امتنع الأمر به ، وذلك لأن الفعل أو دوامه لم يكن متعلقاً لإِرادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته ، ولم يكن الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملاً على مصلحة ، وإنما كان إنشاءً الأمر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.
وأما البداء في التكوينيات بغى ذاك المعنى ، فهو مما دلّ عليه الروايات المتواترات ، كما لا يخفى. ومجمله أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره ، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به ، مع علمه بإنّه يمحوه ، أو مع عدم علمه به ، لما أشير إليه من عدم الاحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وإنما يخبر به لأنه حال الوحي أو الالهام لارتقاء نفسه الزكية ، واتصاله بعالم لوح المحو والإِثبات اطلع على ثبوته ، ولم يطلع على كونه معلقاً على [ أمر ] غير واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله تبارك وتعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) الآية ، نعم من شملته العناية الإلهية ، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي [ هو ] من أعظم العوالم الربوبية ، وهو أُم الكتاب ، يكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها ، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء ، ولبعض الاوصياء ، كان عارفا بالكائنات كما كانت وتكون.
نعم مع ذلك ، ربما يوحى إليه حكم من الأحكام ، تارةً بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام ، معه إنّه في الواقع له غاية وأمد يعينها بخطاب آخر ، وأخرى بما يكون ظاهراً في الجد ، مع إنّه لا يكون واقعاً بجد ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار ، كما إنّه يؤمر وحياً أو الهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع ، لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإِظهار ، فبدا له تعالى بمعنى إنّه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولاً ، ويبدي ما خفي ثانياً.
وإنما نسب إليه تعالى البداء ، مع إنّه في الحقيقة الابداء ، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره ، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهمّ في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الالباب.[1]
قوله: «حیث عرفت...»
یقول المصنّف(رحمه الله) لما عرفتَ من أنّ النسخ فی الواقع لیس إلا بیاناً لانتهاء أمد الحکم و انتهاء المصلحة أو المفسدة المقتضیة له، و أنّ الشارع إنّما جعله بصیغة الدوام لحکمةٍ و مصلحةٍ، مع أنّه فی الواقع لیس دائماً، ثبت أنّ النسخ جائزٌ مطلقاً، سواء أبلغ وقت العمل بالحکم و عُمل به مدّةً، أم لم یبلغ ذلک الوقت.
فإنّ جواز النسخ مطلقاً لا یستلزم الجهل من الله تعالى و لا القول بالبداء، و لا یتنافى مع حکمته، فلا وجه لاستحالته.
قوله: «لعدم لزوم البداء»
یُشیر بهذه العبارة، و بما یلحقها من قوله: «و لا لزوم امتناع النسخ أو الحکم المنسوخ»، إلى دلیل القائلین باستحالة النسخ مطلقاً، فإنّهم یرون أنّه یستلزم الجهل و البداء فی الذات الإلهیة، أو صدور فعلٍ قبیحٍ من الشارع المقدّس، و هو ما یخالف الحکمة. و قد ظهر مما ذُکر بطلان هذه الدعوى، فإنّ النسخ لا یستلزم ذلک کلّه.
قوله: «أما البداء فی التکوینیات»
ثمّ انتقل المصنّف(رحمه الله) إلى بیان نوعٍ آخر من النسخ و هو ما یُصطلح علیه بـ «البداء»، فی الأمور التکوینیة. و هو فی الحقیقة لیس بداءً، بل «إبداء»، کما فی ما لو أخبر النبی (صلى الله علیه وآله) بعذاب قومٍ، ثمّ لم یقع ذلک فی الخارج.
و خلاصة کلامه: أنّ النسخ فی التکوینیات ممکن أیضاً، و یعود إلى أنّ الله تعالى یُوحی أو یُلهِم نبیّه - بسبب تزکیته و صفاء سرّه و اتّصاله باللوح المحفوظ - بخبرٍ عن وقوع أمرٍ فی المستقبل، کما فی قصة یونس و إنذاره قومه بالعذاب، مع أنّه لم یق
و ذلک لأنّ ذلک الحادث قد یکون معلقاً على شرطٍ لم یتحقّق، أو على عدم مانعٍ موجود، و النبی قد یعلم بذلک أو لا یعلم.
و کثیراً ما یکون هذا الإخبار امتحاناً أو ابتلاءً، لا إرادة جدیة فی وقوعه. و لا ریب فی أنّ ذلک لا یستلزم جهلاً و لا یتعارض مع الحکمة الإلهیة، و لا یُعدّ من البداء المستحیل.
قوله: «فیما ذکرنا»
و هکذا یُعلم أنّ الغرض من هذا الاستطراد، هو إثبات جواز نسخ الحکم قبل دخول وقت العمل به، کما هو جائز بعده، و بذلک یتضح محلّ النزاع، من غیر حاجة إلى تفصیلٍ أکبر فی بیان حقیقة النسخ.
و لأجل ذلک قال المصنّف فی الخاتمة: «و فیما ذکرنا کفایة فیما هو المهمّ فی باب النسخ».
فائدة
قد تقدّم أنّه فی الصورة الثانیة من دوران الأمر بین النسخ و التخصیص، لا بدّ من البحث فی مقامین.
فأُخّر المقام الأوّل، و هو إمکان ناسخیة الخاص للعام، إلى هذا الموضع، و قد ظهر مما سبق، أنّه فی هذه الصورة أیضاً یجوز النسخ کما یجوز التخصیص، لأنّ النسخ لا یشترط فیه أن یُعمل بالحکم زماناً، فالإمکان حاصلٌ فی الجهتین.