< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/03/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : موقف الإسلام من المخالفين بين التكفير وحسن المعاشرة:

بعد أن تكلمنا حول دعوة الإسلام إلى كافة الناس، وحسن معاشرة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، نبدأ الأن بتبيين موقف الإسلام من التعامل مع باقي فرق المسلمين.

فما موقف الإسلام تجاه المسلم الذي أنكر بعض عقائد المسلمين والأحكام الإسلامية؟ وما أسلوب تعامل مدرسة أهل البيت مع المخالفين؟ هل يكفرهم الإسلام مطلقاً وينهى الناس عن التعامل معهم؟ من الواضح أنه لا يقول بذلك، وفي مقام تفصيل الجواب نقول:

أولاً: لا يجد المؤمن حرجاً في معاشرة إخوانه وأقربائه وأصدقائه أبداً، بل يكون من دواعي سروره وبهجته أن يعيش معهم فيعاشرهم بالمعروف ويشاركهم في مكاره الدهر و جشوبة العيش، كما يشاركهم في الأفراح والمسرات.

ثانياً: إنّ حسن معاشرة المخالفين كان أمراً متداولاً في عصر النبي صلی‌الله علیه و آله والأئمة المعصومين وفي عصر أصحابهم وتابعيهم، وحتى بين علماء المسلمين، بحدٍّ لا يمكن لأحد أن ينكره.

ثالثاً: يجب على أتباع مذهب أهل البيت أن يتعاملوا مع مخالفيهم بنفس الطريقة التي كان أئمتهم يتعاملون بها مع مخالفيهم، وذلك لأن أئمة أهل البيت هم قدوتنا الذين يجب علينا اتباعهم والالتزام بأوامرهم.

والمتأمل في سيرة أهل البيت يجد أنهم كانوا يعاملون مخالفيهم بالأخلاق الحسنة والاحترام والإحسان إليهم وعدم تكفيرهم، ويتجنَّبون كل ما يسبب التخاصم والنزاع والتفرقة، بل كانوا مصرين على حفظ وتقوية أواصر المحبة والتعايش والتآلف والوحدة بين المسلمين. ومن الواضح أنه لا بُدَّ للشيعي أن يتعامل مع المخالفين بأسلوب أهل البيت (عليهم السلام).

وقد ورد في حديث عن >محمد بن يعقوب عن محمد به يحيي عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ أنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ (أي الامام الصادق كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا وَ بَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرِنَا؟ قَالَ: تَنْظُرُونَ إِلَى أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تَقْتَدُونَ‌ بِهِمْ‌ فَتَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ، وَيشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ، وَيُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَيُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ إِلَيْهِم. [1] وقد أفتى الشيخ الكليني بوجوب المعاشرة حيث جعل العنوان "ما يجب من المعاشرة".

ويقول أبو حنيفة في لقائه بالإمام الصادق بالحيرة في حضرة المنصور: >أتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر الصادق بن محمد ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور. التفت إليَّ ـ يعني المنصور ـ فقال: يا أبا حنيفة، ألْقِ على أبي عبد الله من مسائلك. فجعلتُ ألقي عليه، فيجيبني فيقول: «أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا»، فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على الأربعين مسألة، وما أخلّ منها بمسألة. ثمّ قال أبو حنيفة: إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس<.

ويقول مالك بن أنس إمام المذهب المالكي: >لقد كنت آتي جعفر بن محمد وكان كثير المزاح والتبسّم، فإذا ذُكر عنده النبي صلی‌الله علیه و آله اخضرّ وأصفرّ، وقد اختلفت إليه زماناً، فما كنتُ أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلّياً وإمّا صائماً وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته قد يحدّث عن رسول الله صلی‌الله علیه و آله إلاّ على طهارة، ولا يتكلّم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد الزهّاد الذين يخشون الله، وجعل يعدّد فضائله<.

هذه الموارد من الأحاديث - مضافاً إلى دلالتها على فضل الإمام الصادق وعلمه و معنويته - تدل على وجود تعامل صحيح علمي وأخلاقي بين أفراد المجتمع الاسلامي من مختلف الفرق في عصر المعصومين وعدم تكفير بعضهم بعضاً.

روى محمد بن يعقوب >عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار و محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن صفوان بن يحيي عن أبي أسامة زَيْد الشَّحَّامِ أنه قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ "اقْرَأْ عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّهُ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، وَالِاجْتِهَادِ لِلَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَطُولِ السُّجُودِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلی‌الله علیه و آلهأَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا بَرّاً أَوْ فَاجِراً، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلی‌الله علیه و آلهكَانَ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ وَالْمِخْيَطِ. صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ وَصَدَقَ الْحَدِيثَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، وَإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَ قِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ.

فَوَ اللَّهِ لَحَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ فَيَكُونُ زَيْنَهَا، آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ، وَأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وَأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْهِ وَصَايَاهُمْ وَوَدَائِعُهُمْ، تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ فَتَقُولُ مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ، إِنَّهُ لآَدَانَا لِلْأَمَانَةِ وَأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ[2]

و كذلك روى الشيخ الصدوق في الفقيه: >عن زيد الشحام عن الصادق قال: يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإنّ استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم اللّه جعفراً ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه. وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل اللّه بجعفر، ما كان أسوءَ ما يؤدب أصحابه‌< [3]

لا شك في أنّ المراد بالصلاة في مساجدهم هو الصلاة معهم بجماعتهم لا الصلاة منفرداً في المساجد التي يجتمعون فيها. فإذا كان الإمام الصادق يوصينا بالصلاة خلفهم فكيف يحوز لنا أن نكفرهم؟

وروى أيضا عن حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَلَّى مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ كَانَ كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ص فِي الصَّفِّ الْأَوَّل‌<([4] )

ولاشك في أن التشبيه في هذا الحديث بالصلاة خلف رسول اللّه صلی‌الله علیه و آله ناظرٌ إلى أنّ أثرها يظهر في عز المسلمين وشوكتهم ووحدتهم وقصم ظهور الأعداء.

كما يمكن القول بأن التعبير الوارد في الحديث الأخير بأنه "كالشاهر سيفه في سبيل الله" يؤيد ما قلناه في وجه التشبيه؛ لأن إشهار السيف في سبيل الله هو عنوان الجهاد، والجهاد عزٌّ للمسلمين.

بقي هنا شيئان:

الأول: هل المستفاد من الروايات وجوب معاشرتهم؟ أم مطلق المطلوبيّة والرجحان؟

ذهب عدد من الفقهاء والمحدثين إلى الوجوب؛ منهم: صاحب الوسائل، والشيخ الكليني، حيث جعلا عنوان الباب "الوجوب"، وذلك التفاتاً منهما إلى صيغة الأمر في الروايات و النصوص وهي ظاهرة في الوجوب، ولهذا قال صاحب الوسائل: "باب وجوب عشرة العامّة".

ويستفاد من كلمات البعض كالشيخ الأعظم الأنصاري الاستحباب والرجحانُ لأنّ الأمر فيها مسوق في مقام توهّم الحذر والمنع؛ لأنّ الأصحاب يتوهّمون حرمة المشاركة معهم، وعدم صحّة الصلاة خلفهم، وعدم مطلوبيّة المعاشرة معهم، فالأمر في الروايات مسوق‌ بتوهّم الحذر، ولا يكون ظاهراً في الوجوب.

وعلى‌ هذا تكون المعاشرة والمداراة معهم مستحبّةً؛ نعم، لو كان ترك المداراة موجباً لوهن المذهب، لكانت العشرة معهم واجبة، وتركها محرّماً لأجل حرمة وهن المذهب، لا لنفسها([5] ).

الثاني: هل المداراة مختصّة بزمان شوكة العامّة واقتدارهم، كما في زمن الأئمّة أم لا تختصّ بذلك؟

ذهب البعض كالمحقّق الهمداني إلى الأوّل‌، وخالفه البعض كالسيّد الخوئي‌. والظاهر أن إطلاق الروايات والنصوص يناسب القول الثاني، ولا يناسب القول الأول وهو الاختصاص.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo