< فهرست دروس

الأستاذ السيد ابوالفضل الطباطبائي

بحث الفقه

40/03/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: حكم منكر ضروري الدين:

تتمة الاستدلال على القول بالسببية:

الدليل الخامس: الاستدلال بالروايات.

الروايات المستدلُّ بها كثيرة جداً، ولكنها بعيدة عن الاستدلال بها في المقام، وإنما استدل بها القائلون بأدنى مناسبة.

وبما أننا ذكرنا أكثرها ضمن البحث - في التعريف الجامع للضروري، والتأسيس للمباحث - لا داعي لإعادة ذكرها، ونكتفي بتقسيمها إلى طوائف أربع:

الطائفة الأولى: ما دلَّ على كفر مرتكب الكبيرة باعتقاد أنها حلالٌ، وفيه وردتْ صحيحة عبد الله بن سنان التي ذكرناها في تعريف الضروري:

...فقال(عليه السلام): مَن ارْتَكَبَ كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ فَزَعَمَ أَنَّهَا حَلَالٌ أَخْرَجَهُ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَ عُذِّبَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَ إِنْ كَانَ مُعْتَرِفاً أَنَّهُ أَذْنَبَ وَ مَاتَ عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَ كَانَ عَذَابُهُ أَهْوَنَ مِنْ عَذَابِ الْأَوَّلِ([1] ).

ورواية مسعدة بن صدقة التي قال فيها: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ الْكَبَائِرُ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه والْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّه والأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّه ... فَقِيلَ لَه أرَأَيْتَ الْمُرْتَكِبُ لِلْكَبِيرَةِ يَمُوتُ عَلَيْهَا، أتُخْرِجُه مِنَ الإِيمَانِ وإِنْ عُذِّبَ بِهَا فَيَكُونُ عَذَابُه كَعَذَابِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لَه انْقِطَاعٌ؟ قَالَ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلَامِ إِذَا زَعَمَ أَنَّهَا حَلَالٌ، ولِذَلِكَ يُعَذَّبُ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وإِنْ كَانَ مُعْتَرِفاً بِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ وهِيَ عَلَيْه حَرَامٌ وأَنَّه يُعَذَّبُ عَلَيْهَا وأَنَّهَا غَيْرُ حَلَالٍ فَإِنَّه مُعَذَّبٌ عَلَيْهَا وهُوَ أَهْوَنُ عَذَاباً مِنَ الأَوَّلِ، ويُخْرِجُه مِنَ الإِيمَانِ ولَا يُخْرِجُه مِنَ الإِسْلَامِ([2] ).

و استشكل عدد من الفقهاء على الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات، وذكروا بأنها غير صالحة لمقام الاستدلال على المدعى، ومثال ذلك ما قاله الفقيه الهمداني:

ويتوجه على الاستدلال بمثل الروايات بعد الغضِّ عما في بعضها من الخدشة من حيث الدلالة أنّ استحلال الحرام أو عكسه موجب للكفر، من غير فرق بين كونه ضرورياً أو غيره، بل بعضها كالصريح في الإطلاق. وحيث لا يمكن الالتزام بإطلاقها يتعين حملها على إرادة ما إذا كان عالماً بكون ما استحله حراماً في الشريعة، فيكون نفيُ الإثم عن نفسه واستحلالُهُ منافياً للتدين بهذا الدين ومناقضاً للتصديق بما جاء به سيد المرسلين، فيكون كافراً سواء كان الحكم في حد ذاته ضروريا أم لم يكن([3] ).

فمرادُ الفقيه الهمداني أنه لعدم إمكان العمل بإطلاق هذه الطائفة من الروايات، لابد من رفع اليد عن إطلاقها، والاقتصار على القدر المتيقن؛ وهو من كان عالماً بحرمة ما استحله، لأنه لا شك في أن إنكاره في صورة العلم ينافي التصديق الاجمالي و التدين بما جاء به رسول الله صلی‌الله علیه و آله.

وأوضح السيد الحكيم إشكاله على هذه الطائفة من الروايات فقال:

وأما النصوص فهي ما بين مشتمل على الجحود المحتمل الاختصاص بصورة العلم، ومطلق لا يمكن الأخذ بإطلاقه، لعمومه للضروري وغيره، وتخصيصه بالضروري ليس بأولى من تخصيصه بصورة العلم، بل لعلّ الثاني أولى؛ بقرينة ما اشتمل منها على التعبير بالجحود المختص بالعلم. ولو فرض التساوي فالمتيقن الثاني([4] ).

و أما السيد الخوئي فقد أشار إلى بعض الإشكالات وردَّ عليها فقال:

فالصحيح في الجواب عنها أن يقال: إنّ الكفر المترتب على ارتكاب الكبيرة بزعم حليتها ليس هو الكفر المقابل للإسلام الذي هو المقصود بالبحث في المقام، وذلك لأنّ للكفر مراتب عديدة.

منها: ما يقابل الإسلام ويحكم عليه بنجاسته وهدر دمه وماله وعرضه وعدم جواز مناكحته وتوريثه من المسلم...

و منها: ما يقابل الإيمان ويحكم بطهارته واحترام دمه وماله وعرضه كما يجوز مناكحته وتوريثه إلّا أن اللَّه سبحانه يعامل معه معاملة الكفر في الآخرة، وقد كنّا سمّينا هذه الطائفة في بعض أبحاثنا بمسلم الدنيا وكافر الآخرة.

و منها: ما يقابل المطيع لأنه كثيراً ما يطلق الكفر على العصيان ويقال: إن العاصي كافر، وقد ورد في تفسير قوله عزّ من قائل‌ إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً. ما مضمونه أنّ الشاكر هو المطيع والكفور العاصي‌...وعلى الجملة أن ارتكاب المعصية ليس بأقوى من إنكار الولاية لأنّها من أهم ما بني عليه الإسلام كما في الخبر، وقد عقد لبطلان العبادة بدونها باباً في الوسائل، فإذا لم يوجب إنكارها الحكم بالنجاسة والارتداد فكيف يكون ارتكاب المعصية موجباً لهما؟ نعم، يمكن أن يكون له دخالة في تحقّق الايمان، وهذا القسم الأخير هو المراد بالكفر في الرواية وهو بمعنى المعصية في قبال الطاعة وليس في مقابل الإسلام فلا يكون مثله موجباً للكفر والنجاسة وغيرهما من الآثار([5] ).

فبعد هذه الاشكالات على هذه الطائفة من الروايات لا يبقى مجال للاستدلال بها في المقام.

وأما الكلام الذي نقله السيد الخوئي فيمكن الرد عليه، كما يمكن الرد على إشكاله على القول بحمل الرواية على مورد العلم.

لأن السيد الخوئي أولاً قَبِلَ الإطلاق في هذه الطائفة من الروايات فلذلك قال: مقتضى القاعدة هو الأخذ بالإطلاق، إلاّ فيما قام الدليل على خلافه، والصحيحة- بإطلاقها- تشمل جميع الأقسام العالم بالحكم الضروري وغيره والجاهل به، قصوراً أو تقصيراً، ويخرج منه بالإجماع الجاهل القاصر، كالمجتهد المخطئ، ومقلده، ونحوهما ويبقى الباقي تحت الإطلاق، ومنه منكر الضروري([6] ).

و لكن نقول: إنّ قول السيد الخوئي صحيح في فرض القول بإطلاق الرواية، أما بعد أن قلنا بأن الإطلاق فيها لا يمكن العمل به حسب مذاق الفقه فلا يبقي مجال لإطلاقها؛ لأننا قلنا أنّ الرواية تدور مدار الترديد بين القول بإطلاقها وبين حملها على مورد العلم، فالأول لا يمكن العمل به، فالمتعيّن هو الثاني، مضافاً إلى أنّ الثاني هو القدر المتيقن من الرواية.

و من الواضح أنه بعد القول بترديد الرواية بين الأمرين تتغير من الإطلاق إلى الإجمال، والحكم في المجمل هو الالتزام بالقدر المتيقن.

و أما الرد على مراتب الكفر فهو صحيح في فرض إمكان حمل كلمة الكفر على مراتب عديدة منه، وأما إذا صرّحت الرواية بخروج مرتكب الكبيرة عن الإسلام، فكيف يمكن أن نتصور للكفر مراتب؟ اللهمَّ إلا أن يقال أنَّ المرادَ من الإسلام هنا هو الإيمان، وهو بعيد جداً.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo