< قائمة الدروس

بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

44/07/01

بسم الله الرحمن الرحیم

موضوع: تعریف الاطلاق

 

كان الكلام في تعريف الإطلاق، فقلنا بأنّ الإطلاق على قسمين: إطلاق ثبوتي، وهو مرتبط بمقام الجعل وإطلاق إثباتي وهو مرتبطٌ بالخطاب.

- ونحن اخترنا أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين، تقابل السلب والإيجاب.

- خلافاً للمحقق النائيني رحمه الله : حيث ذهب إلى أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة فالإطلاق هو عدم التقييد في محلٍّ قابلٍ للتقييد، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الإطلاق.

- وكان السيد الخوئي رحمه الله سابقاً يذهب إلى هذا الرأي في مصباح الأصول وإن كان يخالف أستاذه في أنّه كان يقول: لا يعتبر في الإطلاق القابليّة الشخصيّةُ في المحلّ للتقييد، بل يكفي القابليّة في الجملة. وكان يقول: كلّ موارد التقابل بين العدم والملكة من هذا القبيل، فالعقرب أعمى مع أنّ العقرب ليس قابلاً للبصر إلا بلحاظ جنسه وهو الحيوان. نحن جاهلون بكنه البارئ تعالى مع عدم قابليّةٍ لتعلّق العلم بكنهه سبحانه وتعالى، فيكفي في الاتّصاف بعدم الملكة القابليّة في الجملة، فلا يلزم أن يكون المحل يمكن تقييده إمكاناً شخصيّا، بل يكفي أن ينقسم المحل إلى قسمين ويُتصور تقييده بأحدهما وإن لم يمكن تقييده، فإذا لم يُقيّد بأحد القسمين ولو لأجل امتناع التقييد كان الحكم مطلقاً وإن لم يكشف عن سعة الغرض.

ولكنه في المحاضرات التي هي دورةٌ لاحقةٌ للدورة الأصوليّة التي قُرّرت في مصباح الأصول عدل عن رأيه وذهب إلى أنّ الإطلاق الثبوتي أمر وجودي والتقابل بينه وبين التقييد الثبوتي تقابل التضاد.

[ثمرة النزاع]

وهل تترتب ثمرةٌ على هذا النزاع؟

فقد يُقال: بترتب ثمرةٍ مهمّةٍ على هذا النزاع، وهي: أنّ استصحاب عدم التقييد:

أ. بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضاد: لا يمكن أن يثبت الإطلاق إلا بنحو الأصل المثبت، كما في سائر موارد استصحاب عدم ضدٍّ لأجل إثبات وجود ضدّه.

ب. ولكن: بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب فقد يقال بأنّه لا مانع من إثبات الإطلاق باستصحاب عدم التقييد.

[المثال الأول]

فإذا شككنا في أنّ من يحرم إكرامه هل هو الجاهل الفاسق أو مطلق الجاهل؟ هل جُعلت حرمة الإكرام للجاهل لا بشرط من كونه فاسقاً أو جُعلت حرمة الإكرام للجاهل المقيّد بكونه فاسقاً؟

فالمشهور: في الجاهل العادل إجراء البراءة، يُجرون البراءة عن حرمة إكرام الجاهل العادل.

ولكن قد يُقال: بأنّه يوجد أصلٌ حاكمٌ على أصل البراءة وهو استصحاب عدم تقييد موضوع حرمة الإكرام وهو الجاهل بكونه فاسقاً، وهذا هو الإطلاق؛ استصحاب عدم التقييد يُثبت الإطلاق لأنّ الإطلاق ليس إلا عدم التقييد.

وبهذا قد يُدّعى بأنّ مشكلةً عظيمةً تنحلّ بذلك، ما هي تلك المشكلة العظيمة؟

إذا كان موضوع حكمٍ مردّداً بين الأقلّ والأكثر، مثلاً: غُسل الجنابة موضوعٌ لعدّة أحكام، غسل الجنابة موضوعٌ لجواز دخول المسجد، غسل الجنابة موضوعٌ لجواز مسّ المصحف، كما أنّ غسل الجنابة متعلّقٌ للأمر، بالنسبة إلى تعلّق الأمر بغسل الجنابة بناءً على تعلّق الوجوب النفسي بغسل الجنابة كفرضٍ فقهيٍّ لا واقع له إلّا إذا قلنا بأنّ الصلاة المأمور بها مشروطةٌ بنفس غسل الجنابة كما عليه السيد الخوئي، فغُسل الجنابة يكون في ضمن متعلّق الأمر وهو الصلاة المشروطة بغسل الجنابة، فهنا لا إشكال في جريان البراءة عن الأكثر، تجري البراءة عن وجوب غسل جنابةٍ مقيّدٍ بالترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر، فنكتفي بالأقل وهو غسل جنابةٍ بلا رعاية الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر، فيؤمننا أصل البراءة عن الشرطيّة للترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر عن العقاب على مخالفة التكليف بالأكثر، هذا لا كلام فيه.

ولكن بالنسبة إلى الأحكام التي تكون مترتبة على غسل الجنابة وغسل الجنابة يكون موضوعاً لتلك الأحكام لا متعلَّقاً لها ماذا نصنع؟ نشك: هل بعد غسل الجنابة بلا رعاية الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر ارتفعت حرمة دخول الجنب في المسجد أو لا تزال حرمة دخوله في المسجد باقيّة؟

أنتم قد تقولون: بأنّ نفس البراءة عن شرطيّة الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر تؤمنّنا من حرمة الدخول في المسجد بعد الغسل الذي لم يُراعى فيه الترتيب.

نقول: هذا ليس صحيحاً؛ متى كان أصل البراءة حاكماً على الاستصحاب؟! استصحاب بقاء حرمة الدخول في المسجد أو حرمة مسّ المصحف يجري بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية يجري في حقّ هذا الشخص الذي اكتفى بالأقل في غسل الجنابة، والبراءة عن شرطيّة الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر لا تُثبت أنّ ذات الأقلّ في غسل الجنابة موضوعٌ لجواز الدخول في المسجد إلّا بنحو الأصل المثبت؛ فإنّ البراءةَ عن التقييد لا تُثبت الإطلاق لأنّها حينئذٍ تكون من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

ولكن هنا قد يُدّعى بأنّ المشكلة انحلّت بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل السلب والإيجاب، انحلّت المشكلة، نستصحب عدم تقيّد موضوع جواز الدخول في المسجد وهو غسل الجنابة بهذا القيد الزائد وهو الترتيب بين الجانب الأيمن والأيسر، وبذلك نثبت الإطلاق لا بالبراءة عن التقييد، بل باستصحاب عدم التقييد نُثبت الإطلاق.


[المثال الثاني]

أذكر لكم مثالاً ثانياً: نشكّ أنّ الطواف هل هو مشروطٌ بأن يكون بين البيت والمقام أو لا؟

الأعلام: يُجرون البراءة إن لم يتم إطلاقٌ لفظي ولم يثبت دليلٌ على التقييد ووصلت النوبة إلى أصل البراءة يجرون إلى أصالة البراءة عن تقيّد الطواف بكونه بين البيت والمقام،

ما يخالف [لا إشكال]، إن كان يجب عليك الطواف كوجوبٍ تكليفيٍّ محض لم يكن لنا كلامٌ فيه، لكن: الطواف موضوعٌ للتحلّل من الإحرام، بعدما تطوف ثم تسعى بين الصفا والمروة يحلّ لك أن تخرج من الإحرام وتلبس المخيط، الموضوع لجواز ارتكاب محرّمات الإحرام ماذا؟ الطواف الذي يلحقه السعي والتقصير. فالبراءة عن شرطيّة كون الطواف بين البيت والمقام هل يمكنها أن تُثبت أنّ الموضوع لجواز ارتكاب محرّمات الإحرام هو الطواف لا بشرط، البراءة عن التقييد تُثبت كون الموضوع هو الأقلّ لا بشرط، هذا من أوضح أنحاء الأصل المثبت، كما صرّح به السيد الصدر رحمه الله في بحوثه في الفقه، الجزء الأول ص 151.

فهنا قد يُدّعى: بأنّه بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب تنحلّ المشكلة، نستصحب عدم التقييد وبذلك نثبت إطلاق كون الطواف موضوعاً لجواز ارتكاب محرّمات الإحرام، نثبت الإطلاق من دون أن يكون أصلاً مثبتاً.

[المثال الثالث]

المثال الثالث: وقع الكلام في المعاملات: إذا شكّ مثلاً في شرطيّة العربيّة في عقد النكاح، هل يمكن إجراء البراءة عن شرطيّة العربيّة كما عليه الشيخ الأنصاري قدس سره أو أنّ هذه البراءة لا تجري لأنّها تكون أصلاً مثبتا كما هو الصحيح؟ لماذا؟ لأنّ البراءة عن شرطيّة العربية في النكاح لا تثبت أنّ النكاح غير العربي موضوعٌ للزوجيّة لترتب الأثر وهو الحكم بالزوجية، فيجري استصحاب عدم الزوجيّة عقيب العقد الفارسي، ولكن هنا قد يُدّعى: أنّه بناءً على كون التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل السلب والإيجاب نُجري استصحاب عدم التقييد في موضوع السببيّة للزوجية وهو عقد النكاح، نجري استصحاب عدم تقيّده بكونه عربياً. عقد النكاح سببٌ للزوجيّة، نستصحب عدم كونه مقيّداً بالعربيّة فيثبت الإطلاق. هل هذه الدعوى تامّةٌ؟

أنا لا أدخل في هذا البحث هذه الليلة، ولكن لأجل تصعيب المسألة، أُصعّبها، فإنّما عسّرناه خلافاً للنبي صلی الله علیه و اله ﴿فإنّما يسّرناه بلسانك﴾ أنا أريد الليلة أكون مصداقاً لكلام نازلٍ هذه الليلة فإنّما عسّرناه بلسانك، أقول: فكّروا، السيد الصدر رحمه الله يرى أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل السلب والإيجاب كما اخترناه وفاقاً للسيد البروجردي رحمه الله وجمعٍ من الأعلام، لكنّه لم يتمسّك بـ استصحاب عدم التقييد لإثبات الإطلاق بل يرى أنّ هذا أصلٌ مثبت.

فإن اعترضتم عليه وقلتم: إذا كنتم مثل السيد الخوئي رحمه الله ترون أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل التضاد فمن حقكم أن تقولوا بأنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق إلا بنحو الأصل المثبت، وإذا كنتم كالمحقق النائيني رحمه الله والسيد السيستاني ' ترون أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل العدم والملكة من حقكم -كما صرّح السيد السيستاني ' في بعض أبحاثه بذلك- من حقكم أن تقولوا بأنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق كما في جميع موارد الأعدام والملكات، استصحاب عدم البصر لا يثبت العمى، حَملٌ الآن في الشهر الثامن نستصحب عدم البصر له، لأنّه قبل أشهر لم يكن له بصر، نستصحب عدم البصر له، فهل يثبت أنّه أعمى؟ لا؛ هذا يكون أصل مثبت، لأنّ العمى له حظٌّ من الوجود، كلّ عدم ملكة له حظٌّ من الوجود بلحاظ العنوان الذهنيّ المنتزع، استصحاب عدم البصر لا يثبت العمى، يقول السيد السيستاني: فاستصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق.

أنا أقول: إذا كان السيد الصدر رحمه الله يرى أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل التضادّ أو تقابل العدم والملكة كان من حقه أن يقول بأنّ استصحاب عدم التقييد لا يمكنه أن يُثبت الإطلاق لكنّه يرى مثلنا أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد الثبوتيّين تقابل السلب والإيجاب، مع ذلك لم يقبل مسؤولية إجراء استصحاب عدم التقيّيد لإثبات الإطلاق، بل ظاهر كلماته أنّه أصلٌ مثبت. وسنتكلم عن ذلك في ليلة الأحد إن شاء الله.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo