< قائمة الدروس

بحث الأصول الأستاذ محمد‌تقي الشهيدي

44/07/23

بسم الله الرحمن الرحیم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدرس: 63 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =

موضوع: مقدمات الحكمة / المطلق والمقيّد/

الدرس: الأصول

التاريخ: الثلاثاء، 23 رجب الأصب، 1444ه

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

 

كان الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية رحمه لله حول المقدمة الثالثة لمقدمات الحكمة وهي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب. حيث ذكر صاحب الكفاية رحمه لله:

أنّه مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب فلو كان غرض المولى بيان ما هو تمام مراده فقد بيّنه للمكلف. مثلاً: إذا قال "أكرم العالم":

أ. وكان القدر المتيقن منه في مقام التخاطب عالم الدين، فالمفروض أنّ المخاطب فهم هذا القدر المتيقن ولو لم يفهم أنّ المراد هو وليس غيره فلم يخلّ المولى بغرضه.

ب. نعم، لو كان مقصود المولى أن يفهم المكلّف أنّ تمام مراده ما هو وأنّ غيره ليس بمرادٍ له فلا يفهم المكلّف هذا الشيء حينما يقوله له "أكرم العالم" والقدر المتيقن من هذا الخطاب عالم الدين، فالمفروض أنّه ليس ظاهراً في انحصاره في هذا القدر المتيقن فلا يفهم المكلّف انحصار مراد المولى من هذا الخطاب بهذا القدر المتيقن فهنا يكون إخلال بالغرض.

[فهم الأعلام لعبارة الكفاية ومنقاشتهم]

المحقق العراقي وصاحب منتقى الأصول وصاحب البحوث: فهموا من عبارة الكفاية أنّه يريد أن يقول: إذا كان غرض المولى أن يفهم المخاطب والمكلّف تمام مراده بحيث يعرف أنّ غيره ليس بمرادٍ له، إذا كان مقصود المولى هذا الشيء فهنا القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يُخلّ بالإطلاق؛ لأنّ المفروض أنّ المخاطب لا يعرف هذا الشيء، لا يعرف أنّ تمام مراد المولى ما هو بحيث يعرف أنّ غيره ليس بمرادٍ للمولى، من أين يعرف المكلف هذا الشيء؟!

أنا أقول: ليس مقصود صاحب الكفاية رحمه لله أنّه لو كان مقصود المولى أن يفهم المخاطب تمام مراد المولى وأنّ غيره ليس بمرادٍ له، ليس مقصود صاحب الكفاية رحمه لله أنّه في هذا الفرض ينعقد الإطلاق، كيف ينعقد الإطلاق والمفروض أنّ خطاب "أكرم العالم" العرف يتردد في شموله لغير عالم الدين؟!

أنا الذي أفهمه من الكفاية: أنّه إذا كان مراد المولى أن يفهم المخاطب تمام مراده بوصف أنه تمام مراده، أي يعرف انحصار تمام مراده بشيء فحيث أنه لا يتمكن المخاطب أن يعرف أنّ تمام مراده من قوله "أكرم العالم" ما هو؟ بحيث يعرف أنّ غيره ليس بمرادٍ له، فإذا اكتفى بهذا الخطاب فقد أخلّ بالغرض، فكان يجب عليه أن يأتي ببيانٍ آخر، فيقول: "أكرم العالم سواء كان عالم دين أو عالم غير دين" أو يقول له "أكرم عالم الدين" حتى يعرف المخاطب أنّ مراده ما هو؟ بحيث يعرف أنّ غيره ليس بمرادٍ له. وأمّا إذا يكتفي بخطاب "أكرم العالم" والمفروض أنّ العرف يتردد في شموله لغير عالم الدين، فلو كان غرضه أن يعرف المخاطب تمام مراده بوصف أنّه تمام غرض المولى، أن يعرف أنّ هذا تمام مراده وغيره ليس بمرادٍ له فاكتفائه بهذا الخطاب إخلالٌ بالغرض، لا أنّه حينئذٍ القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يمنع من الإطلاق وينعقد الإطلاق حينئذٍ.

والشاهد على ذلك: أنّ صاحب الكفاية رحمه لله في التعليقة على الكفاية قال "حتى إذا كان مقصود المولى أن يعرف المخاطب تمام مراده بحيث يعرف أنّ غيره ليس بمرادٍ له" فيُفهم أنّ تمام مراده هو عالم الدين مثلاً في خطاب أكرم العالم؛ لأنّ المخاطب لا يفهم إلا هذا القدر المتيقن، فإذا كان مقصود المولى أن يفهم المخاطب أنّ تمام مراده هو هذا الذي بيّنه دون غيره فالمفروض أنّه لم يبيّن إلا هذا المقدار المتيقن، فإذا عرف المخاطب أنّ مقصود المولى تفهيم أنّ ما قلته لك فتمام مرادي دون غيره فالمخاطب يقول: عرفت حينئذٍ أن ما عرفته من هذا الخطاب وهو وجوب إكرام عالم الدين هو تمام مراد المولى، وغيره أي إكرام عالم غير الدين ليس بمرادٍ له.

[إشكال صاحب البحوث على الآخوند]

وأمّا ما ذكره في البحوث في الإشكال على صاحب الكفاية : من أنّ الخطاب يتكفّل الجعل لا بيان مصاديق الجعل، وأنت يا صاحب الكفاية حينما تقول القدر المتيقن من أكرم العالم عالم الدين تنظر إلى المصاديق، ولو كان الخطاب ناظراً إلى المصاديق: حتى القدر المتيقن الخارجي يصلح أن يكون مانعاً من انعقاد الإطلاق ولكنّ المفروض أنّ الخطاب متكفلٌّ للجعل وليس وجوب إكرام عالم الدين قدراً متيقناً في الجعل؛ لأنّ القيد الزائد داخلٌ في الحدّ المشكوك من الجعل.

نقول: إشكالكم على صاحب الكفاية بناءً على ما فهمناه من كلام صاحب الكفاية من أنّه ناظرٌ إلى فرض تردد العرف في انصراف العنوان إلى المتيقن في مقام التخاطب، كشك العرف وتردده في شمول خطاب أكرم العالم لعالم غير الدين.

فما يذكره صاحب الكفاية رحمه لله هو الصحيح؛ هذا الخطاب وإن كان متكفلاً للجعل ولكنه مبتلى بشبهةٍ مفهوميّة وإجمال، والقدر المتيقن من هذا الخطاب جعل وجوب إكرام عالم الدين لا أكثر، فجعل وجوب إكرام مطلق العالم بحيث يشمل عالم غير الدين يدخل في الحدّ المشكوك، فلا يشمله الإطلاق.

وكيف كان، فنحن نقول: إن فسّرنا المقدمة الثالثة بانتفاء ما يصلح للقرينية المتصلة المانعة من انعقاد الإطلاق فلا يرد أيّ إشكالٍ على صاحب الكفاية، فإنّ الإطلاق إنّما ينعقد مع عدم القرينة المتصلّة على الإهمال أو التقييد وعدم ما يوجب الإجمال، أي عدم ما يصلح للقرينية على الإهمال أو التقييد.


يقع الكلام في تنبيهات بحث الإطلاق والتقييد:

التنبيه الأول: هل المراد من المقدمة الثانية وهي "انتفاء القرينة المتصلّة على خلاف الإطلاق" انتفاء البيان الخاصّ على التقييد أو يكفي انتفاء البيان العامّ؟

مثلاً: إذا ورد في الخطاب "أكرم كلّ عالمٍ ولا تكرم الفاسق" فإن كانت المقدمة الثانية لمقدمات الحكمة -انتفاء البيان الخاص على التقييد- فالخطاب العام ليس خطاباً خاصاً على التقييد، فيعقد الإطلاق في الخطاب الثاني ويكون بينه وبين الخطاب العام تعارض.

وأما إذا كان المقصود من المقدمة الثانية انتفاء البيان العام على التقييد ولو بأن يقول "أكرم كلّ عالم" فإنّه بيانٌ على خلاف الإطلاق في قوله "لا تكرم الفاسق" بلحاظ شموله للعالم الفاسق، فحينئذٍ لا ينعقد الإطلاق في الخطاب الثاني.

في البحوث ظاهر كلامه رحمه لله أنّه يُرجّح الاحتمال الأول؛ فيقول: ظاهر حال المتكلم العرفي أنّه إذا كان يريد المقيَّد فيبيّن القيد بالخصوص، فإن كان مقصود المولى من قوله "لا تكرم الفاسق" لا تكرم الجاهل الفاسق فيبيّن ذلك بالخصوص، هذا هو مقتضى ظاهر حاله ولا يكتفي بالقول "أكرم كلّ عالم".

وهذا يعني أنّ اقتران المطلق بالعام المخالف له بالعموم من وجه لا يمنع من إطلاق هذا الخطاب المطلق، فكأنّه قال: أكرم كلّ عالم ولا تكرم أيّ فاسقٍ، فإنّهما متعارضان، وهكذا المطلق المتصل بالعام يتعارض مع العام.

ولكن:

أولاً: هذا خلاف ما صرّح به في الحلقة الثالثة، فقال: يكفي في انتفاء مقدمات الحكمة مطلق البيان على خلاف الإطلاق ولو كان بياناً عامّاً. فقوله: أكرم كل عالم يمنع من تماميّة مقدمات الحكمة في قوله "لا تكرم الفاسق" ولأجل ذلك قال: يُقدّم الخطاب العام العام على المطلق عند تعارضه معه بالعموم من وجه كما في هذه المثال، والحلقة الثالثة متأخرّةٌ عن البحوث.

وثانياً: نحن وإن لا نوافق المشهور في تقديم العام على المطلق ولو كان متصلاً به كما سنوضح، ولكن احتفاف الخطاب المطلق بأيّ بيانٍ يصلح أن يكون مخالفاً للإطلاق يمنع من الإطلاق. لا ينعقد لخطابٍ مطلق ظهورٌ إطلاقيٌّ مع وجود العام المخالف له مقترناً به. ولكن هذا لا يعني أنّه ينعقد الظهور في العام ويُقدّم على المطلق، لا. الظهور التصديقي في العام أيضاً لا ينعقد في مورد الاجتماع مع ذلك الخطاب المطلق، ولأجل ذلك يتحيّر العرف حينما يسمع من المولى "أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفاسق" يحتمل أنّ المقصود من هذا الخطاب الأمر بإكرام كلّ عالم مع استثناء الفاسق منه، أكرم كلّ عالم ولا تكرم الفاسق، أو يقول: لا تكرم الفاسق وأكرم كلّ عالم، يعني: استثني الفاسق من العالم وأكرم غير الفاسق أيّ عالمٍ كان.

هذا هو الذي نفهمه حينما يتصل العام بالمطلق فالعرف يتحيّر ولا يقدّم العام على المطلق، لكن هذا لا يعني أنّه تمّت مقدمات الحكمة في الخطاب المطلق، كلا.

ولا يخفى أنّ ما ذكره في البحوث من أنّ البيان العام على الخلاف لا يمنع من تمامية مقدمات الحكمة في الخطاب المطلق لا يمنع من أن يذهب إلى تقديم الظهور العامّ على الظهور الإطلاقي لكون الظهور العاميّ أقوى منه.

ولكن:

إذا تأمّلنا في ذلك نقول: بعد ما اتصلّ الإطلاق بظهورٍ أقوى فهذا الظهور الأقوى يمنع من الإطلاق، لماذا تقولون: لا يمنع من الإطلاق؟ لا يمنع من تماميّة مقدمات الحكمة؟!

هذا هو التنبيه الأول.

وأمّا التنبيه الثاني: فهو أنّه ذكر في الكفاية مطلباً استفاد منه الأعلام كالسيد الخوئي أنّه يريد أن يقول: إذا كان الخطاب عُلم أنّه في مقام البيان من جهةٍ فلا تجري فيه أصالة البيان من جهاتٍ أخرى.

كأنّه لقصور السيرة العقلائية على إجراء أصالة البيان فيه، إنّما تجري أصالة البيان إذا لم يُحرز أنّ الخطاب متكفّلٌ لبيان جهةٍ خاصّة.

والسيد الخوئي رحمه لله مثّل لذلك بعدّة أمثلة، منها قوله تعالى ﴿فكلوا مما أمسكنا عليكم﴾ فقال: هذه الآية واردةٌ من حيث بيان تذكية الحيوان الذي صاده الكلب المعلّم، فلا تجري في أصالة الإطلاق بالنسبة إلى جواز أكل هذا الصيد قبل غسل موضع عضّ الكلب.

والمثال الثاني: قوله عليه السلام: "إذا كان الدم أقلّ من الدرهم فلا بأس أن تصلي فيه"، فقال: هذا ناظرٌ إلى العفو عن مانعية الدم بما هو دمٌّ، فلا تجري فيه أصالة الإطلاق للعفو عن مانعية الدم إذا كان معنوناً بعنوانٍ آخر ككونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

ولكن الإنصاف:

عدم تماميّة هذا البيان؛ أي مانعٍ من إجراء أصالة الإطلاق في الخطاب المطلق ولو أُحرز أنّه ورد لأجل جهةٍ خاصّة ما لم تكن هناك قرينةٌ على أنّ هذا الخطاب رُكّز فيه على بيان هذه الجهة الخاصة دون غيرها.

مثلاً: سألنا المولى، قلنا: هل يجب إكرام العالم الفاسق؟ فقال: أكرم العالم. فعرفنا منه أنّ الفسق ليس بمانعٍ، ولكن هل لا نتمسك بهذا الخطاب لنفي مانعية كون العالم شاعراً ونحو ذلك؟ لماذا لا تجري أصالة البيان بلحاظ الجهات الأخرى.

وما يذكره السيد الخوئي رحمه لله من هذين المثالين في غير محله:

- أما قوله تعالى ﴿فكلوا مما أمسكنا عليكم﴾ فهو ناظرٌ إلى تذكية الحيوان، {كلوا} يعني أنّه مذكى، أصلاً مصب هذا الخطاب أنّه مذكى وليس مصبه جواز الأكل بالفعل؛ كما في سائر الروايات التي تقول "إذا فرى الأوداج فكل" يعني: مذكى.

- وأمّا قوله عليه السلام "إذا كان الدم أقل من الدرهم فلا بأس أن تصلي فيه" فهذا ناظرٌ إلى مانعية عنوان الدم، وأمّا مانعية إلى أجزاء ما لا يؤكل لحمه فلا ترتبط بعنوان الدم، ولكن الدم ليس بمانعٍ إذا كان أقل من الدرهم ولو كان دم حيضٍ إلا إذا كان دليلٌ آخر يمنع من ذلك.

فهذه الرواية تنظر إلى مانعية الدم بما هو دمٌّ، ولكن نتمسك بإطلاقها لنفي مانعية الدمّ مطلقاً ولو كان دم استحاضةٍ، دم حيضٍ، إلا إذا ورد دليل خاص يمنع من الصلاة في دم الحيض الأقلّ من الدرهم.

فإذاً مجرّد إحراز أنّ المطلق وارد في مقام بيان جهةٍ خاصّة لا يمنع من جريان أصالة البيان فيه بلحاظ الجهات الأخرى إلا إذا كانت هناك قرينة على اختصاص هذا الخطاب لأجل بيان تلك الجهة الخاصة دون غيرها، ولعلّ مقصود صاحب الكفاية هو هذا المطلب لا ما استظهره السيد الخوئي وقبله من أنّه مجرد كون الخطاب في مقام بيان جهةٍ خاصّة يمنع من جريان أصالة الإطلاق بالنسبة إلى الجهات الأخرى.

يقع الكلام في التنبيه الثالث في ليلة الإثنين إن شاء الله.

والحمد لله ربّ العالمين.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo