< فهرست دروس

 

موضوع: القواعد الفقهية/قاعدة سوق المسلمين/ مقدمات عامّة للدرس الخارج

 

-بعد هذا العرض نصل إلى مرحلة الجمع بين هذه الطوائف، كما ذكرنا سابقاً أمامنا طوائفٌ ثلاث، وهي:

-الطائفة الأولى: ما دلّ على حجّية سوق المسلمين، والروايات الدالّة عليه معتبرة.

-الطائفة الثانية: ما دلّ على أصالة التذكية في اللحوم حتى في غير سوق المسلمين.

-الطائفة الثالثة: ما دلّ على أصالة عدم التذكية في اللحوم حتى في سوق المسلمين.

وقد بيّنا فيما سبق كلّ هذه الطوائف، والذي تقتضيه الصناعة الفقهية في هذه المرحلة، مايلي:

-أولاً: إذا أمكن الجمع الدلالتي، فاللازم اللجوء إليه حذراً من الإسقاط.

-ثانياً: مع عدم إمكان الجمع الدلالي، فاللازم اللجوء إلى المرجحات الداخلية والخارجية.

وأمّا بالنسبة للجمع الدلالي، فيمكن أن يقال بأنّ الطائفة الثانية التي حكمت بالتذكية من دون ذكرٍ للسوق، أنّ هناك قرينة مقامية بين السائل والإمام (ع) اتّكلا عليها في مقام التفهيم، وهي أنّه في العادة لا يكون شراء الجلود والكمخت والفرو في بلاد المسلمين إلاّ من أسواقهم، فكأنّ السؤال عن ما يُشترى من سوق المسلمين.

-وتوضيحه:

كلامنا في قاعدة سوق المسلمين:

-الطائفة الأولى: ما دلّ على حجّية سوق المسلمين، والروايات الدالّة عليه معتبرة، ومضمون هذه القاعدة أن نثبت أنّ سوق المسلمين أمارةٌ على التذكية والطاهرة حتى مع الشكّ فيهما، ومورد الفائدة من هذه القاعدة ما إذا أخذ المكلف اللحم والجلد من السوق وشكّ في تذكيتهما وشكّ في طهارتهما، وإلاّ مع القطع بتذكيتهما، فالحكم تابعٌ لحجّية القطع، أمّا مع الشكّ بتذكيتهما نتكلّ بالحكم بالتذكية على آمارية السوق، وبدأنا -إذا تتذكرون- باستعراض أدلّة أمارية السوق على التذكية، وأهمّ وعمدة الأدلّة الروايات، وبحمد الله استعرضنا مجموعةً من الأخبار التي فيها الصحيح وما دلالته تامّة.

إذن بدواً انعقدت الحجّية على أمارية السوق على مستوى المقتضي انعقدت الحجية، الروايات تقتضي حجّية آمارية السوق، لكن قلنا في المقابل توجد طائفتان من الأخبار تعكّر صفو حجّية السوق:

-الطائفة الثانية: الروايات التي تقرر أصالة التذكية: الروايات التي تفيد أنّ الأصل في كلّ لحمٍ مشكوك التذكية، إلى أن يعلم أنّه ميتة، وقلنا إذا ثبتت هذه الطائفة من الروايات تصبح أمارية السوق لغو، أصالة التذكية في كلّ شيء، كلّ لحمٍ مشكوك سواء كان مأخوذاً من السوق أو غير السوق نحكم عليه بالتذكية، تسقط هنا حيثية السوق.

-الطائفة الثالثة: الروايات التي علّقت التذكية على العلم بها، مّما يفيد أنّ الأصل عدم التذكية حتّى بالمأخوذ من السوق، يعني كلّ لحمٍ مشكوك، الأصل فيه عدم التذكية ولو أُخذ من سوق المسلمين، فإذا ثبتت هذه الطائفة نقع أيضاً في إشكال، وهو معارضة هذه الطائفة لما دلّ على أمارية السوق وحجّية السوق حتى مع الشكّ في التذكية.

تلك الروايات تقول مع الشكّ بالتذكية بالنسبة إلى اللحم المأخوذ من السوق، جاز أن تحكم بالتذكية اعتماداً على سوق المسلمين، بينما هذه الطائفة ماذا تقول: لا يجوز الاعتماد على السوق ما دمت شاكاً بالتذكية؛ إذ لا يجوز الحكم إلاّ مع العلم.

واستعرضنا روايات الطائفتين.

إذن: صار عندنا طوائف ثلاثة:

طائفةٌ تامّة السند والدلالة على حجّية سوق المسلمين.

طائفةٌ تقرّر أصالة التذكية حتى في غير سوق المسلمين مّما يلغي حيثية السوق.

طائفةٌ تقرّر أصالة عدم التذكية حتى في سوق المسلمين حتى يحصل العلم بالتذكية.

-الآن نحن أمام هذه الطوائف ماذا نفعل؟ ماذا تقتضيه الصناعة؟

علمائنا ذكروا في مثل هذه الحالات أسلوبين للعلاج:

-الأسلوب الأول: الجمع الدلالتي: اتكالاً على قاعدة الجمع أولى من الطرح، (أولى) بمعنى (ألزم)، الأولوية لا بمعنى الأفضلية، أي الأولوية عقلية، ما يقرّر العقل، يقرّر أنّه مهما أمكن الجمع بين المتعارضين أولى، لماذا؟

لأنّنا إذا لم نجمع نقع في طرح إمّا الطوائف الثلاثة أو إحدى هذه الطوائف، وطرح الحجّة فيه ما فيه، فكيف نطرح رواية وصلت إلى مرتبة الحجّية بحدّ ذاتها؟ ما المبرّر؟

مع إمكان الجمع لا مبرّر لطرح الحجّة، نعم إذا وصلنا إلى التعارض على مستوى التباين التام، يكون طرح أحد هذه الطوائف أو بعضها، من باب أنّنا لا يمكننا أن نجمع المحظورين، فنلجأ إلى الأخذ بالأهمّ، الأقوى، الأرجح، وهذا مقرّرٌ عقلي، العقل يقرّر، إذ لا يمكن الجمع بين المحظورين إذا كان التعارض بين الطائفتين على وجهٍ يستلزم التباين الكلّي، فماذا نفعل؟

طرحهما معاً يستلزم العلم التفصيلي بمخالفة الشارع؟ والأخذ بهما معاً لا يمكن!.

-الأسلوب الثاني: الترجيح: إذاً نلجأ إلى الترجيح، ترجيح الأقوى دلالةً، الأقوى عدداً، الأقوى سنداً، هذا الذي يقال عنه عادةً، نلجأ إلى المرجحات سواء مرجحاتٍ داخليةٍ أو خارجيةٍ.

هذا هو القانون الأصولي عند التعارض بين الروايات:

-المرتبة الأولى: الجمع الدلالتي (الدلالي): والمراد منه التوفيق بين المضامين، جعل الوئام بين المضامين، كيف؟

بإسقاط شيءٍ من هنا وشيءٍ من هناك، أو إلغاء إطلاق أحد الطائفتين بالأخذ بالطائفة الأخرى... وهكذا، وإذا لا يمكن الجمع الدلالتي، نلجأ إلى المرجحات.

-المرتبة الثانية: المرجحات: تقديم أحد الطوائف على الأخرى، وهذا يمكن في روايات طوائفنا الثلاثة:

لنبدأ أيّها الأحبة ببيان طرق التوفيق أو الترجيح بين طائفة روايات أمارية سوق المسلمين، وبين روايات أصالة عدم التذكية بشكلٍ مطلق:

-هل يمكن التوفيق الدلالي بينهما؟

الجواب: يمكن أن يقال بأنّ هذه الروايات (أولاً: يمكن) ويكفي الإمكان، وأقول لك لماذا يكفي الإمكان؟

يمكن أن نقول بالنسبة إلى الروايات التي يظهر منها أصالة التذكية حتى في غير السوق، يمكن أن يظهر منها إرادة أصالة التذكية اعتماداً على سوق المسلمين.

بعبارةٍ أخرى: هذه الروايات لا تريد أن تقرّر الأصالة يقولٍ مطلق، لا تريد أن تقول الأصل باللحم المشكوك من أين ما أخذ التذكية؟ لا.

هي متناغمة ومتوائمة ومتسايرة مع الروايات التي تقرّر أصالة التذكية اتكالاً على سوق المسلمين.

يعني بعبارةٍ أخرى: الطائفة الثانية لا تتمانع –أرجوك انتبه إلى هذا المصطلح- عن الحمل على إرادة أصالة التذكية من سوق المسلمين.

يعني بعبارةٍ أخرى: ماذا نريد أن نفعل؟ نريد أن نلغي إطلاقها، وتقييدها بإرادة السوق، كيف؟

أعطيك القاعدة العامّة لكلّ الروايات، وبعد ذلك نطبّق على الروايات، كنماذج:

قبل أن أبيّن كيف ؟ أقدّم مقدمة أصولية نحتاجها:

-ذكر علماؤنا في الأصول: أنّ الإطلاق مرّةً يؤخذ ويقصده الشارع جدّاً، فتثبت حجّيته، كيف؟ اتكالاً على قرينة الحكمة؛ فقرينة الحكمة عند مشهور علمائنا هي المثبّتة للإطلاق في كلّ خطابٍ لا قيد فيه، لكن هذا الإطلاق قد تسقط حجّيته بإرادة التقييد؛ لأنّ الشارع يريد أن يقيّد؟ كيف يقيّد؟ له أساليب بالتقييد:

-الأسلوب الأول: أن يصرّح الشارع بالقيد، إمّا متصلاً أو منفصلاً، المهمّ أنّه يتصدّى لبيان القيد، (أعتق رقبة مؤمنة)، هو تصدّى لذكر القيد، يقول علماؤنا: ينعقد الإطلاق على مستوى المدلول التصوري وعلى مستوى المراد الاستعمالي، لكن على مستوى المراد الجدّي لا ظهور للإطلاق، المراد الجدّي منعقدٌ على إرادة التخصيص التقييد.

-الأسلوب الثاني: أن يتّكل على الانصراف؛ الانصراف العرفي، يعني أنّ الناس عندما تسمع المطلق لا يأتي إلى ذهنها المطلق؛ إنّما يأتي إلى ذهنها حصّة، بطبيعة أساليب الاستعمال العرفي يحصل له الانصراف، مثل (أكرم العالم) في كلّ المجتمعات المسلمة، ينصرف الذهن إلى عالم الدين، رغم أنّه يوجد عالم فلك، فيزياء، كيمياء...هنا لست بحاجةٍ إلى أن أقول للعامّي (أكرم عالم الدين) أتكل في مقام التقييد على الانصراف، بل على العكس، يقول علمائنا إذا المتكلم لا يريد الحصّة المنصرفة إليها الأذهان، عليه أن يبيّن.

أصبح لدينا إرادة الإطلاق بحاجةٍ لبيان، لا إرادة التقييد.

التفت: إذا المولى لا يريد من المطلق الحصّة المنصرف إليها الأذهان، عليه أن يبيّن إرادة الإطلاق، وإلاّ انصرف اللفظ إلى الحصّة، إذا كان أحد الأشخاص يريد إكرام كلّ العالم، ليس عالم الدين، هنا هو يحتاج إلى بيان (أكرم العالم في أي علمٍ كان) حتى لا ينصرف الذهن إلى تلك الحصّة، وهو أسلوبٌ أخر في التقييد.

-الأسلوب الثالث بالتقييد (القيد المعهود): هذا لا يذكره عادةً الأصوليين في الأصول: يذكرون نموذج عن التقييد اللبّي الانصراف، وإلاّ القيود اللبّية كثيرةٌ، بحيث اتكل الإمام على هذه المعهودية في مقام التفريع.

معهود (عهد ذهني بينهما)، سبب المعهودية الشياع، معروفية هذا القيد...

مثل ما يحصل بين الرواة يقول سألت الإمام دون ذكر اسمه أو صفته، كلّ شيعي يسمع العبارة يعرف أنّ المقصود من الإمام؟ الإمام المعصوم؛ لأنّه في مدرستنا لا يُسأل غير المعصوم، لذلك بعض العلماء قال بأنّ كلّ رواياتنا المضمرة حجّة، سواء كان الراوي مّمن لا يسأل من الإمام أو يسأل من غير الإمام، ما الدليل؟

أنّه لا يوجد شخصيةٌ على المستوى الشيعي معهودةٌ ومعروفةٌ بالسؤال سوى الإمام، هذا نوعٌ من أنواع التقييد اللبّي أنّ يتّكل الإمام في مقام البيان على قيدٌ معهودٌ في ذهن السامع، وهذا ما نريد أن نقوله، فالروايات التي استعرضناها والتي قد يظهر منها بدواً إرادة أصالة التذكية وعدم التذكية، فالإمام يتكلم عن سوق المسلمين ولم يصرّح بالقيد، لكن نقطع بإرادة عدم الإطلاق؛ لمعهودية السوق بين الإمام والراوي، فالقيد المعهود بين الإمام والراوي؛ (السوق).

-نموذج1: ما رواه الصدوق: الرواية الأولى من هذه الطائفة التي قلنا عنها أنّها تامّةٌ سنداً ودلالةً، وهي: "سَأَلَ سَمَاعَةُ بْنُ مِهْرَانَ- أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع- عَنْ تَقْلِيدِ السَّيْفِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ الْفِرَاءُ وَ الْكَيْمُخْتُ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ مَا لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ مَيْتَةٌ"[1] .

في مقام بيان هذه الرواية حملنا (لا بأس) على الوقت، واعتبرنا غاية عدم جريان أصالة عدم التذكية العلم بالميتة؟ الجواب: لا.

هذا الراوي من أين يشتري أغماد السيوف؟ من أين عادةً يشتري؟ حتماً من سوق المسلمين، فالسؤال أساساً عن الشراء من سوق المسلمين، وأقول لكم أيّها الأحبّة من بعد سوق عكاظ لم يعهد سوقٌ مشتركٌ بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، وقد كان سوق عكاظ في المدينة مشتركاً بين اليهود والمسلمين، بعده لم تقم سوقٌ مشتركةٌ بين المسلمين وأهل الكتاب لا في الحجاز ولا في العراق ولا في مصر، في كلّ هذه الممالك الإسلامية، لم يعهد سٌوق مشتركٌ، المهم السؤال عن الشراء؟ قال الإمام: لا بأس، لأنّه مشترى من سوق المسلمين، فهي لا تمانع أمارية السوق بل تتساير معها.

-نموذج2: وهكذا بالنسبة إلى الرواية الثانية رواية عَلِيُّ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) وَ أَنَا عِنْدَهُ عَنِ الرَّجُلِ يَتَقَلَّدُ السَّيْفَ وَ يُصَلِّي فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ فِيهِ الْكَيْمُخْتَ! فَقَالَ: وَ مَا الْكَيْمُخْتُ؟ فَقَالَ جُلُودُ دَوَابَّ مِنْهُ مَا يَكُونُ ذَكِيّاً وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ مَيْتَةً. فَقَالَ: مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تُصَلِّ فِيهِ"[2] .

بنينا على الإطلاق، فإذا شككت صل فيه، وإن لم تأخذه من سوق المسلمين، الآن ماذا نقول: نقول هنا قرينةٌ مقاميةٌ بين الإمام والسائل، إذ المفروض أنّ أغماد السيوف تشترى من سوق المسلمين، لا يوجد سوق لليهود، هناك قيدٌ معهود بين السائل والإمام؛ قد يكون في سوق المسلمين جلودٌ غير مذكاة؛ لأنّ أغماد السيوف كما تصنع من المذكّى تصنع من غير المذكّى، فيريد أن يطرد احتمال ترتّب الحكم على عدم التذكية، الإمام يقول صل فيه إذا لم تعلم أنّه ميتة، يعني إذا اشتريت من سوق المسلمين، اللفظ مطلقٌ مع قرينةٍ لبّيةٍ لفظيةٍ معهودةٍ بين الإمام والسائل، وهكذا إذا طبّقت على الروايات لا تتمانع على الحمل عن إرادة سوق المسلمين.

وإن أبيت:

فهذه الروايات تحمل على الإطلاق، وما ذكرته هو احتمال التقييد، واحتمال التقييد كعدمه، هكذا يقرر علماؤنا، فلا نرفع اليد عن الإطلاق والعموم إلاّ مع إحراز القيد، واحتمال القيد موجبٌ للبناء على الإطلاق، خذها قاعدة يقررها علماؤنا في الأصول: لا تقييد للإطلاق بمجرد احتمال التقييد بل لا بدّ من إحراز التقييد، لماذا؟ لأنّ الإطلاق ثبتت حجّيته ولا ترفع اليد عن حجّة إلاّ بحجّة، واحتمال التقييد ليس بحجّة.

إن قلت ذلك:

قلنا: إنّنا يمكننا إثبات إرادة المقيد بقرينة روايات السوق؛ إذ نحن بين حالتين: إمّا البناء على أصالة التذكية بقولٍ مطلق حتى من سوق المسلمين، وبالتالي ترد روايات سوق المسلمين.

وأمّا أن نحمل روايات أصالة التذكية على خصوص سوق المسلمين بقرينة روايات أمارية سوق المسلمين.

والاحتمال الثاني يجمع الطائفتين، بينما الاحتمال الأول يلغي طائفة سوق المسلمين، والجمع أولى من الطرح، فيكفي هذا المقدار لإثبات أنّها ناظرة إلى أمارية السوق.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo