< فهرست دروس

 

موضوع: القواعد الفقهية/قاعدة سوق المسلمين/ مقدمات عامّة للدرس الخارج

في مطلع هذا العام الدراسي الذي نسأل الله تعالى فيه أن يوفقنا لطلب العلم والعمل الصالح، اسمحوا لي أيّها الأحبّة أن أذكّر نفسي ببعض النقاط:

-النقطة الأولى: الدرس الذي نقدم عليه هذا العام، يراد منه عدّة أمور يجب الالتفات إليها:

-أولاً: التقرّب إلى الله بالعلم؛ لأنّنا نرى في القرآن أنّ كلّ عبادةٍ تعظم بالخشية والخشوع، والخشية والخشوع إنّما يتحققان بالعلم، قال تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾[1] ، هذه تفاعلاتٌ روحيةٌ تحيي العبادة، فالعبادة بلا خشوعٍ ميتة، عملٌ قشري، حياة العبادة عندما يخشع الإنسان وتتفاعل روحه مع تلك العبادة، وهذا لا يتحقق إلاّ بالعلم والمعرفة، فكلّما زاد علم الإنسان زاد خشوعه وتلهفه إلى الله، فعلم فقه الأصول، العقيدة، الفقه...إلخ، لها هذا الأثر، فهذه تحيي القلب بذكر الله؛ لذا من المهمّ جدّاً أن ننتبه إلى ضرورة السعي في هذه العلوم للوصول إلى الله، وأن يكون الهدف الأكبر لحضورنا هو الله عزّ وجلّ، فإذا بُنيت العلاقة بين العبد وربّه على أسسٍ متينةٍ، فالله يتكفّل في شؤون عبده، ويدافع عن الإنسان في مقابل عدوه الشيطان، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾[2] ، فإذا لم يكن العبد غاوياً فهو في ظلّ الله وتحت سلطته وفي أمنه وأمانه، فإذا كان الإنسان ولياً لله (يقبع في ولاية الله) وكانت إرادته تابعة لإرادة الله في جميع أحواله، عندئذٍ إذا سقط في بؤرة الشيطان عاد، يقول تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[3] .

لذلك أيّها الأحبّة يجب أن تكون النية في الدرس والتدريس خالصةً لله؛ أي أريد بهذه العلوم الإخلاص لله وأن تقوى علاقتي به، هذا فقط بالنسبة للقلوب الصافية التي سكنها الله، فإذا كان القلب حيٌّ ينجذب لله سليمٌ منيبٌ هذا تكفيه النية ليميل نحو الله، أمّا إذا كان القلب ملوثاً بشوائب الشيطان وفيه رينٌ وفيه مرضٌ وفيه قسوةٌ، فهذا القلب لا تكفيه نية العمل في الانجذاب نحو الله، هذا يحتاج إلى طقوسٍ ويحتاج إلى تلقين -وعادةً التلقين يكون بالطقوس- أن اختلق طقساً لتعزيز الوصول إلى الله، باتخاذي عبادةً من العبادات الموصلة، مثلاً الصلاة، يقول تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[4] ، وذلك بتفعيل النية وتثبيتها باستمرار حتى يوفقني الله تعالى في الإخلاص في دروسي، فأصوم يوماً لتثبيت هذه النية في قلبي، وكذلك الدعاء من الموصلات والصدقة من الموصلات، فهذه الأعمال توصل العبد إلى مقاصده، وأهمّ المقاصد هو الإخلاص، هناك كلامٌ لبعض العلماء: أنّ الدرس بحاجةٍ إلى نيتين من الإخلاص:

الأولى: النية الإجمالية: أن تنوي الإخلاص من الآن إلى ما شاء الله .

الثانية: النية التفصيلية: أنوي كلّ يوم.

يقول هذا العالم: إن دغدغت نيته بعض تسويلات الشيطان ولم يلتفت ويعود إلى الإخلاص، ذاك الدرس الذي يدرسه بتلك النية من المسقطات له لا من الرافعات.

نحتاج إلى التقوى لأن نعود إلى الإخلاص، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[5] ، ومجرد أن يتذكّر يبصر حقيقة تسويلات إبليس فيعود، يقول بعض العلماء: " لو علم المحصّل لعلوم أهل البيت (ع) ما في نية الإنسان في الدرس من رافعاتٍ في المقام الروحي والنفسي ... لما اهتمّ بشيءٍ كما اهتمّ بنية الإخلاص"، و في الحديث النّبوي: "ليس العلم بكثرة التعلم إنّما هو نورٌ يقذفه‌ اللَّه‌ في قلب من يريد اللَّه أن يهديه"[6] .

هناك شرائط لتحصيل العلم يجب أن أوفرها، لكن هناك شرطٌ أساسي، وهو أن أكون من الذين أحبّهم الله، فإذا أحبّ الله عبداً فقّهه في الدين، فما هي صفات العبد الذي يحبّه الله؟

أهمّ صفةٍ، هي: اهتمام العبد بالقربات، فإذا وضعت العمامة ونظرت إلى المرآة أن يكون مقصودي الله، هذا تنبيهٌ للإخلاص، فمهمٌّ جدّاً أن نسعى في مطلع العام إلى تحقيق التقرّب بالعلم إلى الله وأن لا نغفل عن ذلك.

-النقطة الثانية: إنّ درس البحث الخارج هو الدرس الأعلى في حوزاتنا العلمية السنّتية، فقد قامت حوزاتنا على هذا الأسلوب، وهو: أن يقرأ الطالب في الكتب ردحاً من الزمن ثمّ يأخذ الدرس من أستاذه، ويقرّره... لكن حضور الدرس الخارج لا يكفي في تحقق مقاصده إذا لم يعي الطالب أهدافه، فأيّ شيءٍ يجب أن تعرف أهدافه قبل أن تسعى لتحصيله، فغاية العلم صون اللسان عن الخطأ في الفكر وصون العقل عن الخطأ الخاص، فندرس علم التاريخ لمعرفة تاريخ الأمم وذلك للاعتبار، فما هي الغاية من درس البحث الخارج؟

الغاية هي بلوغ الاجتهاد؛ أي أن يصل العبد إلى مرحلة الاجتهاد، يعني أن يصبح عنده ملكةٌ قادرٌ من خلالها على استنباط الحكم الشرعي من أدلّته المقررة، هذا هو المراد، لا أن يراد منه الرتبة أو المنحة أو المنزلة، بل المراد منه هو بناء هذه الملكة –الاجتهاد- وتحقيقها، فمن كثرة ما يسمع الطالب من الجدالات الفقهية والردّ عليها، يستأنس ثمّ يبني الملكة، وهي حالةٌ نفسيةٌ راسخةٌ، فالذي لا يوجد عنده نية الاجتهاد فحضور الدرس ليس إلاّ كمال، فالغاية الكبرى هي الاجتهاد، وهنا مربط الفرس، هل هذه الغاية مستحيلة علينا؟ مستعصيةٌ صعبة الحصول؟!

الجواب: لا. كما وصل غيرنا يمكن أن نصل (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد)، فاليوم في قم المقدّسة أكثر من (400) مجتهد، وفي حوزة بيروت أكثر من (50) مجتهداً، وفي حوزة النجف منبع العلم ما شاء الله، فإذا أمكن لغيرنا أمكننا، كان الشيخ محمد جواد مغنية يحضر على أيدي الأساتذة غير المعروفين في النجف، ووصل إلى ما شاء الله.

أدعو إخواني إلى تبني هذا المشروع، وهو الوصول من خلال هذه الدروس إلى مرحلة الاجتهاد، فالشهيد مطهري (ره) أثّر على أمّةٍ في امتداد تاريخها، وكذلك السيد الصدر(قده) و...إلخ. مرّةً تذهب أنت إلى قريةٍ وتموت فيها، ومرّة تكتب كتاباً فتموت أنت ويبقى الكتاب حيٌّ، فالكتب التي كتبها الشهيد مطهري (ره) والشهيد الصدر (قده) للمجتمع، كتبٌ تعتبر حياةً للأمّة؛ لذلك يا أخي أنا أدعو إخواني إلى تبنّي هذا المشروع (الاجتهاد)، واصل الدرس بقوةٍ ومتانةٍ وإرادةٍ راسخةٍ.

ولتحقيق هذه النتيجة، نحتاج إلى النقاط الأربع التالية:

-النقطة الأولى: المواظبة على حضور الدرس، بحيث لا تجعله على هامش حياتك بل أسٌّ في حياتك وركنٌ أساسي.

-النقطة الثانية: كثرة التدريس، فهو أصلّ من أصول التأسيس العلمي عند الإنسان، فما فهمناه بالتدريس لم نكن نفهمه أيام الدرس.

-النقطة الثالثة: مشروع الدرس الذي تأخذه اكتبه يا أخي، علّق عليه، وناقش رأي الأستاذ وما يتبناه من نظريات، فالدرس صورةٌ تصورية يجب أن أحوله في البيت إلى تصديقية إمّا بالنفي أو الإثبات، وهذا مهمٌّ جدّاً.

-النقطة الرابعة: القراءة المستمرة، فأستاذك استعرض الآراء وذكر رأيين أو ثلاثة لضيق الوقت، هذا لا يعني أن لا تقرأ لغيره، هذه المتابعة عبارةٌ عن تجنيد طاقاتٍ كثيرة وزرعها فيه.

وفي الختام كلّ ما قلته بين يدي أخواني إنّما أذكر نفسي فيه، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا في مطلع هذا العام إلى طلب العلم والعمل الصالح والعمل المرضي، وأسأله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين الصالحين على أنفسهم، إنّه سميعٌ مجيبٌ، والحمد لله ربّ العالمين.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo